كتب وبحوث

المضاربة وتكييفها الفقهي

بقلم د. حسن عبد الغني أبوغدة

أولاً: تعريف المضاربة لغة:

المُضَاربة: مصدرٌ للفعل الرباعي: ضَارَب، وهو على وزن المفاعَلَة، ويدلُّ على اشتراك اثنين في أمرٍ ما، يُقال: ضارب فلانٌ لفلان في ماله: اِتَّجر له فيه، وله حصة معيَّنة من ربحه، وأصلُ الفعل الثلاثي للمضاربة: ضَرَبَ، يقال: ضَرب الرجل في الأرض: ذهب فيها مسافراً، أو تاجراً، أو غازياً… وفي التنزيل العزيز: {وإذا ضَربتم في الأرض فليس عليكم جُناحٌ أن تقصُروا من الصلاة… }. وفيه أيضاً: {وآخرون يضْربون في الأرض يبتغون من فضل الله}[1]. وسُمِّيت المتاجرة بمال الآخر مضاربة؛ إمَّا لأن كل واحد من الشريكين يُضرَب له في الربح بسهم، وإمَّا لأن المضارب ـ العامل ـ يَضْرِب في الأرض يبحث ويفكِّر ويتصرَّف بفكره ورأيه واجتهاده، وهذا من قولهم: فلانٌ يضْرِب الأمورَ ظهراً لبطن: يُطْرِق ويفكِّر فيها[2].

ثانياً: تعريف المضاربة اصطلاحاً:

عرَّف الحنفية المضاربة بأنها: عقدُ شركة في الربح، بمال من جانب، وعمل من جانب المضارب[3].

وهي عند المالكية: توكيلٌ على تَجْر في نَقْد مضروب مسلَّمٍ بجزء من ربحه[4].

وذهب الشافعية إلى أنها: دفع مالٍ للمضارِب ليتَّجر فيه، والربح مشترك[5].

وعرَّفها الحنابلة بأنها: “دفع مال وما في معناه، معيَّنٍ معلومٍ قدْرُه… إلى من يتَّجر فيه، بجزء معلوم من ربحه “[6].

هذا، ويلاحظ على تعريف الحنفية: عدم نصه على ذكر نسبة الربح الشائعة بين الطرفين.

أما تعريف المالكية: ففيه أن المضاربة توكيل، وهذا الوصف لا يناسب حقيقتها؛   لأنها صورة من صور الشركة كما سيأتي.

وأما تعريفا الشافعية والحنابلة: فليس فيهما أنها عقد واتفاق بين طرفين.

ولعل من الأنسب في ضوء ما سبق، وفي ضوء التعاملات المصرفية المعاصرة، أن يكون تعريف المضاربة على النحو التالي: عقد شركة، يَدفع بموجبه طرفٌ لآخر مالاً ليتَّجر فيه، ويقتسمان الربح بحصص شائعة اتفقا عليها.

وهذا التعريف يشمل المضاربة بالنقد ـ الذي يسميه الفقهاء: الأثمان ـ وبعروض التجارة كالسلع والعقار[7]، وغير ذلك مما تُتاجِر وتتعاملُ فيه المصارف الإسلامية وغيرها كما سيأتي بيانه.

ثالثاً: الألفاظ ذات الصلة بالمضاربة:

ظهرت أثناء البحث ألفاظ ذات صلة بالمضاربة، تلتقي بها في المعنى والمآل، وقد جاءت هذه الألفاظ في كتب اللغة، وفي كتابات الفقهاء السابقين، وهي على النحو التالي:

1ـ القِرَاض والمُقَارضَة:

وهما في اللغة بمعنى المضاربة عند أهل الحجاز، وأصلهما من ” القَرْض “، أيْ: القَطْع؛ وذلك لأن المالك ـ صاحب المال ـ قَطَع للعامل ـ المضارِب ـ قطعةً من ماله وأعطاها له ليتاجر فيها، أو لأن المضارِب يقطع المسـافات في السيْر للتجارة في المال[8].

والقِراض والمُقارضَة في الاصطلاح الفقهي، بمعنى المُضاربة أيضاً، جاء في الإقناع: ” القِراض… ويسمى أيضاً: مُضاربة، ومُقارَضة “[9].

2ـ الشَّرِكَة: هي في اللغة مصدر من الفعل: شَرِك، مأخوذة من قولهم: شَرِكَ فلانٌ فلاناً في الأمر، شِرْكَاً، وشَرِكَة، وشِرْكَة: كان لكل منهما نصيب منه، فهو شـريك[10]. ويقال لها أيضاً: المشاركة، ويقال: شاركه، وتشاركا، واشتركا، كلُّها بمعنَى: خالطه، وتخالطا، واختلطا[11].

وتُجْمع الشركة على شَرِكات، وهي في الاصطلاح الفقهي: ثبوتُ الحقِّ في شيء لاثنين فأكثر على سبيل الشيوع[12].

وقد شرع الله تعالى الشركات توسعة على الناس، ومراعاة لمصالحهم، وتمويلاً لمشاريعهم، وتحقيقاً لطموحاتهم، ومزاوجة بين إمكاناتهم وقدراتهم، واستثماراً وتنمية لأموالهم، وأفكارهم، وطاقاتهم، وأوطانهم…

وأما صلة الشركة بالمضاربة فهي صلة العام بالخاص، وبيانها فيما يلي.

رابعاً: حقيقة المضاربة وكونها شركة:

يرى بعض فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية: أن المضاربة هي من جنس الإجارة؛ لأن المضارب يعمل لرب المال مقابل أجر، وهو ما اتُّفق عليه من ربح، فهي بهذا الوصف معاوضة محلُّها المنفعة، وليس معنى هذا أنها إجارة محضة، بل فيها نوعُ إجارة وشَبَهٌ بها؛ ولذا يُرجَع إليها في حال الخلل وتعذِّر تطبيق أحكام المضاربة الصحيحة.

جاء في بدائع الصنائع: القياس أنه ـ أي عقد المضاربة ـ لا يجوز؛ لأنه استئجار بأجر مجهول، بل بأجر معدوم ولعمل مجهول، لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز والسنة والإجماع[13].

وجاء في القوانين الفقهية: القِراض جائز، وهو مستثنى من الغرر والإجارة المجهولة[14].

وجـاء في مغني المحتـاج: أن القراض رخصـة خارجـة عن قياس الإجارات،وهو عقد غرر، إذ العمل فيه غير مضبوط، والربح غير موثـوق به، وإنما جُوِّز للحاجة[15].

وذهب آخرون ـ منهم الحنابلة ـ إلى أن المضاربة هي في حقيقتها شركة، وهذا ما رجَّحه ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى، وهو الذي تؤيده الأدلة من الكتاب والسنة، وما تناقله الرواة عن الصحابة رضي الله عنهم، بل إن العديد من الفقهاء صنَّفوا المضاربة في باب الشركة وأحكامها،وقد يذكرها بعضهم بعدها، وليس في باب الإجارات ونحوها[16].

هذا، وتنقسم الشركة في الفقه الإسلامي إلى عدة أنواع أبرزها ما يلي:

1ـ شركة الأبدان ( الأعمال ): يشترك فيها اثنان فأكثر فيما يتقبَّلونه من أعمال بدنية، كصناعة، أو خياطة، أو نجارة، أو بناء، أو تركيب أدوات صحية، أو نحو ذلك مما يؤدُّونه بأبدانهم وعملهم، على أن يُقسَم ما يحصل لهم من ربح، بنسبة معلومة اتفقا عليها[17].

2ـ شركة الوجوه: يشترك فيها اثنان فأكثر ـ من غير أن يكون لهم رأس مال ـ على أن يشتروا سلعاً وبضائع بالديْن؛ اعتماداً على وَجاهتهم وسمعتهم ومعرفة التجار

بهم وثقتهم فيهم، على أن يقسم الربح الحاصل بينهم بحسب ما اتفقوا عليه في العقد، وقد يطلق عليها شركة المفَاليس[18]؛ لعدم وجود رأس مال لهم.

3ـ شركة الأموال: وهي ما يُخلَط فيها مال الشركاء بقصد الاسترباح، الذي يُقسَم بحسب نسبة رأس المال، ما لم يُتفَق على خلاف ذلك، أما الخسارة فهي بحسب نصيب كل شريك في رأس المال، ولا يجوز الاتفاق على خلاف ذلك، وتقسم شركة الأموال إلى قسمين رئيسين:

أ ـ شركة المفاوضة: مأخوذة من التفويض في التصرُّف، وهي ما يشترك فيها اثنان فأكثر في العمل والمال، مع اشتراط التساوي في كل شيء، في المال، والأهلية، والتصرف، والدَّيْن، والرِّبح، والخسارة، ويُفوِّض فيها كلُّ شريك شريكه بالشراء والبيع، والمضاربة، والرهن، والضمان، والتوكيل، والسفر، والتصرف في جميع أمواله بما فيه المصلحة، وهي قائمة على التوكيل والكفالة بين الشركاء، ولذا قيل لها: شركة المفاوضة؛ لما فيها من التفويض بالتصرف…

ب ـ شركة العَِنان ( بكسر العين وفتحها ): العِنَان ـ بكسر العين، مأخوذة من عِنان الفرس، والعَنَـان ـ بفتح العين ـ مأخوذة من الأمر المطلق غير المحدد، يقال: نظر إلى عَنَـان السماء، أي: صفائحها وفضائها…

وشركة العنان مقتصرة على فكرة التوكيل فقط، وإلزام الطرف الآخر بنتائج تصرفات شريكه ـ الوكيل ـ في حال تصرفه في مال الشركة فقط، بينما ينسحب هذا الإلزام على جميع أموال الشريكين في شركة المفاوضة؛ لأنها وقعت على جميع أموالهما، ويقسم الربح في شركة العنان بحسب ما اتُّفق عليه[19].

4ـ شركة الأبدان والأموال معاً: وهذه هي المضاربة موضوع حديثنا الذي نواصله.

خامساً: تكييف المضاربة وأطوارها وبيان صفة المضارب: بالرغم من بروز طابع ( المشاركة ) بين رب المال والعامل المضارب، وذلك بتقديم الأول ( المال ) وتقديم الثاني ( العمل ) للاشتراك معاً في ( الربح ) فإن تكييف العلاقة بينهما يأخذ أطواراً مختلفة في الاعتبار والأحكام، وذلك على النحو التالي:

1ـ يعتبر المضارب ( أميناً ) بمنزلة الوديع من حيث علاقته برب المال، وذلك إذا قبض المال ولم يشرع في العمل، ويجب عليه حفظه، وهو يضمنه إذا تعدى أو قصَّر كما هو مقرر في مواضعه.

2ـ يعتبر المضارب ( وكيلاً ) لرب المال إذا شرع في العمل، وهو يقوم مقامه فيما عهد إليه به من التصرف في ماله.

3ـ يعتبر المضارب ( شريكاً ) لرب المال ـ إذا حصل ربح ـ ويقسم بينهما بحسب المتفق عليه.

4ـ يعتبر المضارب ( أجيراً ) إذا تبيَّن فساد المضاربة، ويثبت له أجر المثل إن تحقَّق ربح، وإلا فلا أجر له في الصحيح؛ لئلا تكون المضاربة الفاسدة أجدى من الصحيحة، التي من أحكامها الأصلية، أنه لا شيء للمضارب إن لم يحصل ربح.

5ـ  يعتبر المضارب ( غاصِباً ) إذا خالف القيود والشروط المشروعة المتعاقَد عليها، وهو يضمن الضرر، وليس له ربح ولا أجر.

6ـ يعتبر المضارب ( مقترضاً ) إن أخذ المال من مالكه ليُتاجر فيه، واشترط على المالك أن له وحدَه الربح كله دون رب المال.

7ـ يعتبر المضارب ( متبرِّعاً ) إن أخذ المال من مالكه ليعمل فيه، واشترط عليه المالك أن الربح كلَّه له وحدَه دون المضارب، وهذا ما يسمى: ( الإبضاع )[20].

وفي هذا المعنى يقول الفقيه الحنفي الجرجاني ( المتوفى عام 816هـ ) عن المضاربة: ” وهي إيداع أولاً، وتوكيل عند عمله، وشركة إن ربِح، وغصب إن خالف، وبضاعة إن شُرِط كل الربح للمالك، وقرض إن شُرِط للمضارب”[21].

وينبغي أن يلاحظ هنا ما قرره الفقهاء في عدة مواضع من أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني…[22].

في بيان حُكم المضاربة وأدلتها ومدى توافقها مع القياس:

أولاً: حكم المضاربة وأدلتها:

مع أن الفقهاء مختلفون في حقيقة المضاربة وكونها نوعَ إجارة، أو نوعَ شركة… فقد اتفقوا على مشروعيتها وأنها جائزة، واستدلوا لمشروعيتها وجوازها بالقرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع ـ واختلفوا في مشروعية ثبوتها بالقياس ـ كما استدلوا ـ استئناساً ـ بالآثار المنقولة عن الصحابة رضي الله عنهم، وبيان ذلك على النحو التالي:

1ـ عموم قول الله تعالى: {ليس عليكم جُناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (البقرة: 198). وهو ما احتج به الكاساني والماوردي وغيرهما، ووجه الاستدلال: أن المضارب بمال غيره ممن يبتغي الفضل والزيادة من ربه بسعيه وضربه في الأرض، وقد نفى الله تعالى عنه الإثم والحرج، فدلَّ ذلك على جواز المضاربة[23].

2ـ عموم قوله تعالى: {فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فانتشـروا في الأرض وابتغـوا من فضل الله…}(الجمعة:10). ووجه الاستدلال: أن الله تعالى ندب ورغَّب في الضرب في الأرض للتجارة وطلب الرزق[24].

3ـ عموم قوله تعالى: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}(المزمل:20). ووجه الاستدلال: أن الله تعالى أقرَّ الضرب في الأرض طلباً للرزق وابتغاءً من فضله، والمضارب يفعل ذلك، فكانت المضاربة جائزة [25].

4ـ ما ذكروه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ضارب لخديجة رضي الله عنها بمالٍ لها أرسلتْه به إلى الشام، وأنفذَتْ معه غلاماً لها يقال له: ميْسَرة[26]، وقد حكاه النبي – صلى الله عليه وسلم – عن نفسه بعد النبوة، فصار إقراراً منه بذلك[27].

5ـ  ما رُوِي أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” ثلاثٌ فيهن البركة: البيعُ إلى أجَل، والمُقارضَةُ ـ أيْ: المضاربة ـ وإخلاطُ البُر بالشعير للبيت لا للبيع “[28].

6ـ ما رُوِي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – بُعِثَ والناسُ يتعاملون بالمضاربة، فأقرَّهم عليها[29].

7ـ الإجماع: قال ابن قدامة رحمه الله: ” وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة بالجملة، ذكره ابن المنذر “[30].

8ـ القياس: احتج بعض الفقهاء لمشروعية المضاربة بقياسها على المساقاة، بجامع عمل العامل في كل منهما ببعض مال المالك، أو بجامع أن العامل قد لا يملك مالاً، والمالك قد لا يعرف التصرف، ومن هنا أورد العديد من الفقهاء المساقاة قبل المضاربة مباشرة؛ لأن المساقاة مقيسٌ عليها[31].

9ـ ومما ذكـروه في الاستدلال للمضاربة، بعضُ الآثـار عن الصحابة مما يُمكِن الاسـتئناس به، ومن ذلك ما رُوي أن حكيم بن حزام – رضي الله عنه – ” كان يدفع المال مقارضةً إلى الرجل ويشترط عليه: أن لا يمرَّ به بطنَ وادٍ، ولا يبتاع به حيواناً، ولا يحمله في بحر، فإن فعل شـيئاً من ذلك فقد ضمِن ذلك المال، قال: فـإذا تعدَّى أمْرَه ضمنه من فعل ذلك “[32].

10ـ وروي عـن العباس بن عبد المطـلب – رضي الله عنه –،أنـه كان يفعل كما كان يفعل حكيم بن حـزام  – رضي الله عنه – فـي قصته الآنفـة، وأنـه رفع شَـْرطه إلـى رسـول اللـه – صلى الله عليه وسلم – فأجازه[33].

11ـ وعن زيد بن أسلم عن أبيه – رضي الله عنه –: قال: ” خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ في جيش إلى العراق، فلما قَفَلا مرَّا على أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه –، فرحَّب بهما وسهَّل، وهو أمير البصر، فقال: لو أقدِر لكما على أمر أنفعُكُما به لفعلتُ، ثم قال: بلى، هاهنا مالٌ من مال الله، أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأُسْلِفُكُمَاهُ فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق، فتبيعانه في المدينة، ففعلا، فكتب إلى عمر – رضي الله عنه – يأخذ منهما المال، فلما قدما المدينة باعا وربحا، فلما رفعا ذلك إلى عمر – رضي الله عنه – قال: أكلُّ الجيش أسلفه كما أسلفَكُما؟ قالا: لا، قال عمر – رضي الله عنه –: ابنا أمير المؤمنين فأسـلفكما!! أدِّيا المالَ ورِبْحَـه، فأما عبد الله فسـلَّم، وأما عبيدُ الله فقال: لا ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو هلَك المالُ أو نقص لضمِنَّاه،قال: أدِّياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر بن الخطاب – رضي الله عنه –: لو جعلتَه قِراضاً ـ أيْ: مضاربة ـ فقال: قد جعلتُه قِراضاً، فأخذ عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – المالَ ونصفَ ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصفَ ربح المال “[34].

12ـ وهناك آثارٌ أخرى في مشروعية المضاربة، بعضُها مروي عن عثمان[35]، وعلي[36]، وابن مسعود، وجابر، وابن عمر[37]، وعائشة[38]… رضي الله عنهم جميعاً.

ثانياً: مدى توافق المضاربة مع القياس:

يرى جمهور الفقهاء: أن المضاربة شرعت على خلاف القياس؛ لأن القياس عندهم يقتضي عدم جواز الاستئجار بأجر مجهول، أو معدوم، على عمل مجهول، وقالوا: إن هذا القياس قد تُرِك لما ورد في جوازها في الأدلة السابقة وغيرها.

قال الكاسـاني رحمه الله: ” فالقياس أنه ـ أيْ: عقد المضاربة ـ لا يجـوز لأنه استئجار بأجر مجهول، بل بأجـر معدوم، ولعمل مجهـول، لكنَّا تركنا القياس بالكتاب العزيـز والسـنة والإجماع “[39].

وقال الحطاب رحمه الله: ” لا خلاف بين المسلمين في جوازه ـ أي: القراض ـ وهو مستثنى من الإجارة المجهولة، ومن السَّلَف بمنفعة “[40].

وقال الخطيب الشربيني رحمه الله: ” هي رخصة خارجة عن قياس الإجارات، كما خرجت المساقاة عن بيع ما لم يخلق “[41].

وذهب ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى ـ في كلام طويل لهما ـ إلى أن المضاربة شُرِعت على مقتضى القياس؛ وذلك بناء على ما يريانه من أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يُظَنُّ مخالفته للقياس هو أحد أمرين: إما يكون القياس فاسداً، وإما يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنصِّ أنه من الشرع، أما القياس الصحيح فإن الشريعة لا تأتي بخلافه.

وبناء على هذا فإن المضاربة عندهما ليست من الإجارة التي اشتملت على أجر مجهول أو معدوم لعمل مجهول، بل هي مشاركة، يدفع أحد الطرفين مالَه، ويعمل الآخر ببدنه، وما قسم الله من رزق كان بينهما شائعاً بحسب ما اتفقا عليه، وهذا هو العدل الذي يشتركان في مغنَمِه ومغرَمِه، فإذا حصل مغنمٌ ورِبْحٌ اشتركا فيه، وإن لم يحصل اشتركا في المغْرم، وذهب نفعُ بدن هذا، كما ذهب مالُ هذا[42].

وأرى أن ما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى هو الراجح، وهو الذي تؤيده الأدلة السابقة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما تناقله الرواة عن الصحابة رضي الله عنهم، بل إن العديد من الفقهاء صنفوا المضاربة في باب الشركة ومتعلقاتها، وليس في باب الإجارات ونحوها[43].

في الغاية من المضاربة وبيان حِكْمة مشروعيتها:

لا يخفى أن للمضاربة في كل زمن دوراً خاصاً ومهماً ـ على صعيد الأفراد، والشركات، بل والدول ـ في مجال التمويل، والاستثمار، والتنمية، وتوفير السلع والخدمات، ويتم اللجوء إليها غالباً كلما كان هناك رأسُ مال بدون خبرة، وخبرةٌ بدون رأس مال.

وهي تُعدُّ من الأسـاليب الفذَّة التي شرعها الإسلام لاسـتثمار أموال المالكيـن، وتحقيق الأرباح لهم ـ بعيداً عن الربا ـ وذلك من خلال تمويلهم لغيرهم وإشراكهم معهم في تلك الأرباح، ومعنى هذا: أن القصد من المضاربة إيجادُ فرص من التعاون بين الثروات المالية التي يُقدِّمها المالكـون، وبين الخبرات والطاقات البدنيـة والفكرية والإبداعية ـ المعطَّلة غالباً ـ التي سيبذلها المضاربون العاملون.

وفضلاً عن كونها تتَّصف بالمرونة في التطبيق، فإن مجالاتها وأماكنها وأزمانها عامة وموسَّعة، لا يحدُّها نوعُ عمل، ولا صنفُ بضاعة، ولا إقليمٌ دون إقليم، ولا ليلٌ ولا نهار…

أما الغايات والحِكَم التشريعية التي توخَّاها الإسلام في المضاربة، فبيانها على النحو التالي:

1ـ حماية رأس المال من التآكل والضياع: دعا الإسلام إلى تشغيل المال واستثماره والانتفاع به، ونهى عن حبسه وتعطيله حتى لا تأكلَه الصدقة، ويفقد قوته الشرائية مع تطاول الزمن، ويشهد لهذا عموم دلالة قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: ” ألاَ مَنْ وَلِيَ  يتيماً له مال، فلْيتَّجرْ فيه، ولا يتركْه حتى تأكلَه الصدقة “[44]. ومن المعلوم أن مضاربة القوي الأمين بالمال، يزيده ويحقق ما قصد إليه الحديث.

2ـ زيادة رأس المال في حال استثماره: ويتحقق هذا باستثمار أموال الذين لا يعرفون طرق الاستثمار، أو لا تُتاح لهم الأوقاتُ اللازمة لذلك، وفي هذا المعنى يقول النبي – صلى الله عليه وسلم –: ” من كانت له أرض فليزْرَعْها أو ليمنحْها أخاه… “[45].

3ـ توجيه المال إلى الإعمار والتنمية: من الوظائف الأساسية التي خلقها الله تعالى في المال أنْ يُوجَّه إلى عمارة الكون، وتنمية الحياة، ونفع الناس،وإشادة العمائر، وإقامة المشاريع؛ لتقوم به مصالح الدين والدنيا، كما قال الله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً} (النساء:5). ولا شك أن التمويل بالمضاربة يحقق ذلك، حيث إن حياة الناس تكون قد قامت على حال أفضل، وهذا ما تجاهد الدول لتحقيقه.

4ـ الاستفادة من الطاقات الإنتاجية والإبداعية المعطَّلة: يلاحظ أن الحياة مليئة بأعداد كثيرة من الناس، يملكون القدرات الذهنية الفائقة، والطاقات البدنية، والأفكار الإبداعية، ولكنهم لا يملكون المال لتحقيق طموحاتهم، فمِن خلال المضاربة والمزاوجة بين هذه الطاقات وبين المال تتحقق الآمال، ويستفاد من الطاقات الإنتاجية والإبداعية، وينتفع الجميع.

5ـ الحدُّ من انتشار البطالة: لا تخلو المجتمعات من أفراد وجماعات يشْكون من البطالة والفراغ والحاجة؛ لأنهم لا يملكون المال والعقار،ولكنهم يملكون الخبرة في معرفة طرق الاستثمار،والوقت الكافي الذي يمكِّنهم من تنمية المال وتدويره، مع ما هم عليه من الأمانة والنزاهة والجدية وحسن السيرة، فهؤلاء يُمكن أن يُتحالَف معهم ويُتعاوَن، من خلال إمدادهم بالمال؛ ليقوموا باستثماره وتنميته، مضاربةً بينهم وبين أصحاب المال، وبهذه الطريقة يمكن القضاء على البطالة أو الحد منها.

6ـ إيجادُ تحالف بين رأس المال والعمل والحدُّ من معاناة أصحابهما: تقدم أن الحياة مليئة بأعداد كثيرة من الناس يملكون الأموال المنقولة وغير المنقولة، ولكنهم لا يحسنون استثمارها، ولا يعرفون الطرق الصحيحة في ذلك، وربَّما لم يكن عندهم من الأوقات ما يمكِّنهم من القيام بتنميتها واستثمارها ومباشرة الإشراف عليها، ولا شك أن هؤلاء يُعانون مشكلة اقتصادية، قد تنسحب تداعياتها على المجتمع بعمومه…

كما أن الحياة ذاتها مليئة بأعداد أخرى من الناس كثيرة، يشْكون البطالة والفراغ والحاجة؛ لأنهم لا يملكون المال والعقار، ولكنهم يملكون الخبرة في معرفة طرق الاستثمار، والوقت الكافي الذي يمكِّنهم من تنمية المال وتدويره، مع ما هم عليه من الأمانة والنزاهة والجدية وحسن السيرة، ولا شك أن هؤلاء أيضاً يُعانون مشكلة اقتصادية ومعيشية من وجه آخر، قد تنسحب تداعياتها على المجتمع بعمومه…

ومن أجل إزالة هذه المشكلة الخطيرة أو الحدِّ منها، عمل الإسلام على إيجاد تحالف وتعاون واندماج بين رأس المال والعمل، وربْطِ الوفرة المالية المثمرة الفاعلة، بالعقول والأيدي الماهرة القادرة، من خلال عقد المضاربة، وذلك بما يعود بالخير العميم على جميع الناس.

7ـ رفع المستوى المعيشي للفقراء وعموم الناس: لا يخفى أن المضاربة تعود على صاحب المال وعلى المضارب ـ العامل ـ بالربح والوفرة المالية، وذلك مما يُعِين على رفع مستوى الدخل، وتحسين الوضع المعيشي وبخاصة للفقراء، فيتمكنون من توفير احتياجاتهم واحتياجات أسرهم ومتطلبات أولادهم.

8ـ تقوية الروابط الاجتماعية وتشجيع العمل الجماعي المشترك: من الحكم التشريعية التي تشتمل عليها المضاربة، أنها تحقق مزيداً من الترابط الاجتماعي، وتُعوِّد على العمل الجماعي المشترك، وتُشيع صفات المحبة والمودة بين أطرافها، وتجعلهم يشتركون معاً في حمْل هموم استثماراتهم وأعمالهم، والبحث عن الأساليب الأجدى لنجاحها، وتقديم النصائح الصادقة من أجل زيادتها وتنميتها، وهذا ما يُميِّز استثمار المال وتنميته في المضاربة الحلال، من استثماره وتنميته في طريق الربا والفائدة المحرمة.

هذا، وقد أشار الفقهاء قديماً إلى بعض هذه المعاني الآنفة، فقال الكاساني رحمه الله وهو يذكر حكمة مشروعية المضاربة: ” الناس يحتاجون إلى عقد المضاربة؛ لأن الإنسان قد يكون له مال لكنه لا يهتدي إلى التجارة، وقد يهتدي إلى التجارة لكنه لا مال له، فكان في شَرْع هذا العقد دفعُ الحاجتين، والله تعالى ما شرع العقود إلا لمصالح العباد ودفع حوائجهم “[46].

وقال ابن قدامة رحمه الله في حكمة مشروعيتها أيضاً: ” لأن بالناس حاجة إلى المضاربة؛ فإنَّ الدراهم والدنانير لا تُنمَّى إلا بالتقليب والتجارة، وليس كلُّ من يملكها يُحسن التجارة، ولا كلُّ من يُحسن التجارة له رأس مال، فاحتيج إليها من الجانبين، فشرعها الله تعالى لدفع الحاجتين “[47]. وقد جاءت نصوص أخرى عن فقهاء آخرين تؤيد هذه المعاني… [48].

————————————————————

المراجع

[1] – انظر مادة: ” ضرب ” في لسان العرب والصحاح والمعجم الوسيط، والآية الأولى من سور النساء/101 والثانية من سورة المزمل/20.

[2] – المضاربة للماوردي ص 99 والإنصاف 5/427 وانظر مادة: ” ضَرَب ” في: المعجم الوسيط.

[3] – رد المحتار 4/483.

[4] – حاشية الدسوقي 3/517.

[5] – مغني المحتاج 3/398.

[6] – كشاف القناع 3/503.

[7] – يجدر بالذكر: أن المضاربة لا تجوز عند المالكية والشافعية إلا في الأثمان حصراً، وتجوز عند الحنفية والحنابلة في الأثمان، وفي عروض التجارة، إن فوض ربُّ المال المضاربَ ببيع العروض والمضاربة في أثمانها، أما ابن أبي ليلى فيجيز المضاربة في الأثمان وفي عروض التجارة مطلقاً، انظر: الهداية 3/202 وبداية المجتهد 3/451 وروضة الطالبين 5/117 والمبدع 5/5.

[8] – انظر: مادتي: ” ضرَب ” و ” قَرَض ” في: لسان العرب والصحاح، وفي الفائق 3/187 وغاية البيان 1/220 والإنصاف 5/427.

[9] – الإقناع 2/341 وانظر: فتاوى السُّغْدي 1/540 والقوانين الفقهية 1/186 والإنصاف 5/451.

[10] – انظر: مادتي: ” خلط ” و ” شَرك ” في: المعجم الوسيط ولسان العرب.

[11] – انظر: مادتي: ” خلط ” و ” شَرك ” في: لسان العرب والصحاح.

[12] – مغني المحتاج 3/221.

[13] – بدائع الصنائع 6/79.

[14] – القوانين الفقهية ص 279 وانظر: ومواهب الجليل 5/356.

[15] – مغني المحتاج 2/309 و310 وانظر: المهذب 1/385.

[16] – المغني 7/132 ودليل الطالب 1/137 والكافي 2/267 وكتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية 29/98و104والقواعد النورانية ص170 وإعلام الموقعين2/4 وانظر: بدائع الصنائع 6/79 والجامع الصغير 1/67 والمهذب 1/385.

[17] – المغني 7/11 وانظر: بحوث في المعاملات والأساليب المصرفية الإسلامية ص 134.

[18] – كشاف القناع  3/526 وانظر: بحوث في المعاملات والأساليب المصرفية الإسلامية ص 135.

[19] – انظـر: الصحاح مادة : ” عنان ” والمغني 7/123 وكشاف القناع 3/531 وبحوث في المعـاملات والأسـاليب المصـرفية الإسلامية ص 135 ومعجم المصطلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء ص203 و205 و206.

[20] – انظر: المبسـوط 22/19 وبدائع الصنائع 6/ 80 و87 وحاشـية الدسـوقي 3/518ـ519 وبلغة السالك 3/547 والمهذب 1/388 ومغني المحتاج 2/ 311 والمغني 7/ 135والمبدع 5/19.

[21] – التعريفات ص 194.

[22] – انظر: شرح القواعد الفقهية ص 13.

[23] – انظر: بدائع الصناع 6/79 والإقناع 2/341 وفتح الوهاب 1/411 وأضواء البيان 3/49.

[24] – بدائع الصنائع 6/79 و88.

[25] – بدائع الصنائع 6/79 ـ80  ومواهب الجليل 5/355 وإعانة الطالبين 3/99 والمغني 7/133.

[26] – إعانة الطالبين 3/99 وشرح الزرقاني 3/437 والبداية والنهاية 2/293 وتهذيب سيرة ابن كثير ص90.

[27] – انظر: حاشية البجيرمي 3/145 ونهاية المحتاج 5/218، ولم أجد هذا النص فيما رجعت إليه من كتب الحديث.

[28] – فتح القدير 6/158 وتحفة المحتاج 2/287 والحديث في سنن ابن ماجه 2/768 برقم 2289 وإسناده ضعيف كما في مصباح الزجاجة 3/37 وضعيف جداً كما في ضعيف سنن ابن ماجه ص 177.

[29] – ذكره صاحب نيل الأوطار ولم يخرِّجه 5/266ـ 267 وذكره  في نصب الراية وسكت عنه 4/113 وقال الزيلعي في الدراية في تخريج أحاديث الهداية: 2/181: لم أجده.

[30] – المغني 7/133ـ 134 وانظر: مراتب الإجماع ص91 وبدائع الصنائع 6/79.

[31] – نهاية المحتاج 5/218 وانظر: المغني 7/134، والمساقاة كما في التعريفات ص 188: دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء من ثمره.

[32] – السنن الكبرى للبيهقي وضعَّفه 6/111 برقم 11390.

[33] – المرجع السابق وضعَّفه 6/111 برقم 11391.

[34] – السنن الكبرى للبيهقي 6/111 بـرقم 11385 والموطــأ 2/687 برقـم 1372، وذكـر الشـوكاني في نيـل الأوطـار  5/267: أن إسناده صحيح.

[35] – شرح الزرقاني على موطأ مالك 3/436 و الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/181 برقم 848.

[36] – المصنف لعبد الرزاق 8/248 برقم 15087 والتلخيص الحبير 3/58.

[37] – شرح الزرقاني على موطأ مالك 3/436 والدراية في تخريج أحاديث الهداية 2/ 181 برقم 848.

[38] – شرح الزرقاني على موطأ مالك 3/436.

[39] – بدائع الصنائع  6/79 وهذا الذي ذكره الكاساني يسميه الحنفية: ” الاستحسان ” وهو: ترك العمل بالقياس الجلي؛ لدليل أقوى منه ويعارضه، انظر: التعريفات ص 12.

[40] – مواهب الجليل 5/356.

[41] – مغني المحتاج 2/309.

[42] – كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية 29/98و104 والقواعد النورانية ص170 وإعلام الموقعين 2/4.

[43] – انظر: المهذب 1/385 والمغني 7/132ودليل الطالب 1/137.

[44] – سنن الترمذي 3/32 برقم 641 واللفظ له، وقال: في إسناده مقال، والمعجم الأوسط للطبراني 4/264 برقم 4152 ولفظه: ” اتَّجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة، والسنن الكبرى للدارقطني 2/110 برقم 1، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/67: أخبرني سيدي وشيخي ـ يعني: الحافظ الشهير زين الدين العراقي ـ: أن إسناده صحيح.

[45] – صحيح البخاري 2/825 برقم  2216 وصحيح مسلم 3/1176برقم 1536.

[46] – بدائع الصنائع 6/79.

[47] – المغني 7/134.

[48] – انظر: حاشية البجيرمي 3/145.

المصدر: الملتقى الفقهي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى