تقارير وإضاءات

أمريكا وطالبان .. مفاوضات تاريخية تحت خط النار

أمريكا وطالبان .. مفاوضات تاريخية تحت خط النار

إعداد عبد الرحمن طه

في أواخر يناير/ كانون الثاني من العام الحالي، اقتحمت سيارة «هامفي» مصفحة قاعدة تابعة للاستخبارات الأفغانية في إقليم ميدان وردك. وبعد فوات الأوان، اكتشف الجنود الأفغان أن الأمر لا يقتصر على هجومٍ مسلح، وأن السيارة مكدسة بكمٍ هائل من المتفجرات. وسط دوي الانفجار الذي دمر أجزاء كبيرة من المنشآت، اشتبك مسلحون مرافقون للسيارة مع القوات الأفغانية لينتحروا بالرصاص المنهمر من كل صوب.

هذا الهجوم، الذي حصد 126 قتيلاً من عناصر الأمن، يأتي في سياق مفاوضاتٍ تاريخية تجري بين حركة طالبان الأفغانية، التي أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم، والولايات المتحدة، تجري في روسيا وقطر، ويُعتقد أنها ستنهي حرباً دامت 18 عاماً منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001، ولم تُفضِ حتى الآن إلى القضاء على طالبان التي ما زالت تسيطر مباشرة على 20 بالمائة من أراضي أفغانستان، وتنفذ عملياتها في باقي المناطق بحرية نسبية.

ومع استمرار الانتصارات العسكرية للحركة، وتغير المشهد الداخلي الأمريكي، اجتمع الطرفان للمرة الأولى في مفاوضات مباشرة رسمية معلنة، فما احتمالات أن تُسفِر هذه المفاوضات عن إنهاء أطول تمردٍ عسكري قائمٍ حتى اليوم؟


التفاوض مع حركة منقسِمة

على مدار أعوام، تكرر طرح فكرة التفاوض المباشر مع حركة طالبان من جانب دولٍ غربية، لكن ذلك الطرح لطالما أجج نقاشاتٍ حول مشروعية التفاوض مع مسلحين متشددين، وما قد يؤدي إليه هذا من زيادة نشاط التنظيمات الإرهابية، وإضفاء شرعيةٍ عليها. محاولاتٍ عدة من السعودية، وباكستان، والحكومة الأفغانية، إلى جانبِ مؤتمر لندن عام 2010 حول الوضع في أفغانستان وخطط الحل السلمي للنزاع، لم تُفضِ كلها إلى نتائج ملموسة.

أضِف إلى هذا تحسس الحكومة الأفغانية وحلفائها الغربيين من بدء المفاوضات قبل نجاح الحملة العسكرية على الحركة في حِصارها وإضعاف موقفها على الأرض، وهي الجهود التي باءت بالفشل على مدار أعوام. ومع تفاقم الصراع واستمراره، وسقوط آلافٍ من الأفغان والقوات الأمريكية قتلى، تعقد المشهد أكثر وأكثر.

علاوة على أن أي محادثات ناجحة مع حركة طالبان تفترض تماسكاً داخلياً في صفوف الحركة، وهذا غير صحيح. فطالبان منقسمة داخليًا إلى عدة فصائل متناحرة تتنافس مع بعضها على التأثير في عملية صنع القرار داخل الحركة. ولعل أهم هذه الخلافات الداخلية هو القائم بين الملا هبة الله أخوند زاده، زعيم الحركة الجديد بعد مقتل سلفه الملا أختر أحمد منصور في غارة عسكرية أمريكية عام 2016، وبين شبكة حقاني، الفصيل الأبرز عسكرياً داخل الحركة، بقيادة سراج الدين حقاني.

كان أخوند زاده قد عبر عن استعداد الحركة للتفاوض مع الولايات المتحدة في منتصف 2018، لكن افتقاره للخبرة العسكرية مقارنةً بحقاني أفسح المجال لمعارضة داخلية للتفاوض مع الحكومة الأفغانية، ورغبة في حسم النزاع معها بالوسائل العسكرية. وهذه الانقسامات الداخلية تُثير شكوك المُفاوضين في أي ضمانات يمكن أن تقدمها الحركة في جولات المحادثات الحالية، حول التزامها بعدم إيواء مسلحين يستخدمون أفغانستان قاعدةً لهجماتٍ على دول المنطقة والدول الغربية، كما حدث مع تنظيم القاعدة في 2001.

هذه العوامل التي هددت بدء المفاوضات في السابق ما تزال تؤثر بشدة على استقرار أي اتفاقٍ يجري التوصل له في الجولات الحالية. فإدراك الحركة لثقلها العسكري في أفغانستان سمح لها بالتمسك بعددٍ من الخطوط الحمراء حتى الآن، أهمها وضع جدولٍ زمني لانسحاب القوات الأمريكية بالكامل من أفغانستان قبل أي تفاوضٍ مباشر لها مع الحكومة الأفغانية، في مخالفةٍ لهدفٍ أساسي من أهداف الولايات المتحدة، التي تسعى إلى انتزاع اعتراف حركة طالبان بالحكومة الأفغانية.


أمريكا أولاً

من ناحية أخرى، تتميز هذه الجولة من المفاوضات بإرادة سياسية حقيقية لإنهاء التدخل العسكري في أفغانستان، نتجت مباشرة عن انتقال السلطة في بدايات 2017 إلى دونالد ترامب، الذي أظهر بالفعل ميولاً إلى الانعزال عن الساحة الدولية في عددٍ من الملفات، أبرزها سوريا، بهدف التفرغ للمجريات على الساحة الداخلية.

يسهل فهم رغبة الأمريكيين في إنهاء التدخل العسكري في أفغانستان، عند الاطلاع على التكلفة الصادمة للعمليات العسكرية الأمريكية، إضافةً إلى الدعم الاقتصادي لعمليات إعادة الإعمار، والتي قدرها البنتاغون في أوائل 2018 بـ45 مليار دولار أمريكي كل عام. وإن كنت ترى الرقم صادماً، فلتعلم أن الحرب الأفغانية في ذروتها، بين عامي 2010 و2012، حين تواجد في أفغانستان ما يزيد على 100 ألف جندي أمريكي، وصلت تكلفتها على الخزانة الأمريكية لـ100 مليار دولار سنوياً.

لا نرى هنا الرأي العام الأمريكي يؤيِّد انعزال الولايات المتحدة عن الساحة الدولية، إنما هي إعادة صياغة للدور المأمول من الولايات المتحدة في النظام الدولي. فالأمريكيون، كما تشير دراسة بعنوان «بُعد المشرقين: بين السياسة الخارجية للولايات المتحدة والرأي العام الأمريكي»، لم يتوقفوا عن الإيمان بـ«الاستثنائية الأمريكية» ودور الولايات المتحدة في دعم الديمقراطية الليبرالية ونشرها.

لكنَّهم يرون أن الولايات المتحدة عليها أن تتحرر من العبء السياسي والاقتصادي الذي تفرضه على عاتقها مكانتها العالمية كقوة عظمى مهيمنة. وهو ما عبر عنه ثُلث من استطلعت الدراسة آراءهم، إذ رأوا أن الولايات المتحدة عليها أن تركِّز أكثر على الاحتياجات المحلية وسلامة الديمقراطية الأمريكية أولاً. ورأت نسبة مماثلة أن تحقيق السلام العالمي من الأفضل أن يتم عبر تعزيز التكامل الاقتصادي والتجارة الحرة، بدلاً من العمليات العسكرية باهظة التكلفة.

إزاء امتعاض دافعي الضرائب من الإنفاق غير المسؤول على العمليات العسكرية في الخارج، تسعى إدارة دونالد ترامب إلى تقليص الفجوة بين السياسات الخارجية والرأي العام، سعياً إلى تدعيم شعبيته داخلياً إزاء تراجع معدلات تأييده في استطلاعات الرأي، ومواجهته معارضة شرسة من الحزب الديمقراطي ومن داخل الحزب الجمهوري، واستمرار التحقيقات في تواطئه مع الروس على التلاعب بانتخابات الرئاسة في 2016.

بالقطع سيكون إنهاء الحرب الأطول أمداً في تاريخ الولايات المتحدة، التي تدخل عامها الثامن عشر، خطوة ضخمة ملموسة تحسن من فرص انتخابه رئيساً لمدة ثانية في أواخر 2020. في ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، في تحركٍ بدا غير منسقٍ مع البنتاغون أو مع الوفد الغربي المكلف بالتفاوض مع الأفغان، أصدر دونالد ترامب أمراً تنفيذياً بسحب 7 آلاف جندي أمريكي من أفغانستان. لكن هذا الأمر لم يتم تنفيذه بعد، وما تزال خطة الانسحاب غير واضحة.


استبعاد الحكومة الأفغانية

ومن بين النقاط الجوهرية التي اختلف حولها الطرفان هو إشراك الحكومة الأفغانية الرسمية في المفاوضات من عدمه. أصرت الولايات المتحدة على أن طالبان عليها التفاوض مباشرة مع الحكومة الأفغانية المُعترف بها دولياً، والتي تأسست في 2004 بعد سن دستور وطني للأفغان. وفي الجهة المقابلة، رفضت طالبان رفضاً باتاً الاعتراف بحكومةٍ اعتبرتها صورية، خاضعة لسيطرة الولايات المتحدة، وأصرت على التفاوض مباشرة مع الإدارة الأمريكية.

لكن هذا الشرط المسبق للتفاوض بدا أن الولايات المتحدة قد تخلت عنه في جولة المفاوضات الأخيرة سعياً إلى إحراز تقدم في المحادثات. في مؤتمر دبلوماسي هو الأول من نوعه في روسيا في نوفمبر/ تشرين الثاني، وفي غياب ممثلي الحكومة الأفغانية، أعلن شير محمد عباس ستاناكازي، رئيس الوفد الطالباني، أن طالبان غير مستعدة لإجراء محادثات مباشرة مع الحكومة الأفغانية، وستتفاوض مع الولايات المتحدة.

وبعدها انعقدت جولات تالية من المحادثات في قطر، التي تضم مركز المكتب السياسي للحركة، في يناير/ كانون الثاني وفبراير/شباط، شهدت وضع إطار عملٍ واسع والاقتراب من الاتفاق حول التفاصيل المتعلقة بانسحاب القوات الأمريكية ووقف إطلاق النار، كلها في غياب ممثلين مباشرين عن الحكومة الأفغانية، وحضور الزعيم السياسي المعين حديثاً لحركة طالبان، عبد الغني برادار، الجولة الأخيرة من المفاوضات في قطر يُشير إلى اتجاه الأمور نحو اتفاقٍ حقيقي، كما يشير إلى عودة قطر للعب أدوار عالمية مهمة بعد الأزمة الخليجية.

إزاء استبعادها المُهين وإدراكها التبعات السياسية لتجاوزها من جانب الطرف الأقوى على الساحة الداخلية الأفغانية والقوة العظمى المهيمنة على الساحة الدولية، حاولت حكومة أشرف غني العودة بأي شكل من الأشكال إلى مائدة المفاوضات، ولو في دور الوسيط.

وعرض الرئيس الأفغاني أشرف غني في أوائل فبراير/ شباط، وفقاً لبيان صادر عن الرئاسة الأفغانية، على الحركة افتتاح مكتبٍ سياسي لها في كابول، أو قندهار، أو ننغرهار، وطمأنهم بشأن توفير الأمن التام لهم كذلك. وقد جاء العرض استجابة لمطالب قدمها وفد الحركة في المحادثات بموسكو قبل أسبوع، اشتملت على تأسيس مكتب رسمي للحركة، ورفع العقوبات وإلغاء قيود السفر، وإيقاف الحملات الإعلامية الساعية إلى تشويهها على حد زعمهم. غير أن سهيل شاهين، المتحدث باسم الحركة، سارع في غضون ساعات إلى إحراج غني ورفض العرض المقدم منه، متهماً إياه بمحاولة «تغيير الموضوع الرئيسي والإضرار بجهود السلام الحالية».

غير أن تبعات هذا التجاوز، حال اتفاق الطرفين على انسحاب القوات الغربية بالكامل من أفغانستان، قد تكون عودة هيمنة حركة طالبان سياسياً وعسكرياً على كابول، وهو الوضع الذي قامت الحرب لتغييره وإنهائه من الأساس.

هي لحظة تاريخية تتوافق فيها الإرادتان، الطالبانية والأمريكية، على ضرورة إنهاء والتدخل الأمريكي المُباشر في أفغانستان. وفي حين تتمسك الولايات المتحدة في المفاوضات ظاهرياً بضرورة إجراء طالبان مفاوضات مباشرة مع الحكومة الأفغانية، يبدو أن الأمور تحركت بالفعل في اتجاه تهميش حكومة أشرف غني واعتبارها حجر عثرة في طريق نجاح المفاوضات.

لم تتجلَ هذه الإرادة المشتركة على مائدة المفاوضات وفقط، بل شملت تصعيدًا غير مسبوق من الطرفين، فيما يراه محللون عُنفاً معتاداً في السياقات المماثلة، يسبق محادثات من المتوقع أن تصل إلى نتيجة حاسمة، ومن ثمَّ يسعى كلاهما إلى التصعيد بهدف استعراض القوة وكسب أفضلية في المحادثات. يظهر ذلك على الجانب الأمريكي في صورة حملة عسكرية موسعة ضد معاقل طالبان منذ الخريف الماضي، في محاولة للضغط على طالبان من أجل جدية أكثر في المفاوضات.

(المصدر: موقع “إضاءات”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى