تقارير وإضاءات

يعلّمون القرآن أم يحشدون للسلطة.. قصّة التحالف بين النظام والصوفية في الجزائر

إعداد عبد القادر بن مسعود

باتت الجزائر تشتهر بأنها إحدى الدول العربية التي تعرف انتشارًا واسعًا للزوايا والطرق الصوفية، فقد بلغ عددها 1600 زاوية، ومن بين أشهرها: الزاوية التيجانية بالأغواط جنوبًا، والزاوية البلقايدية بوهران غربًا، والطريقة القادرية. يلقى هذا التنامي الصوفي جدلًا كبيرًا نظرًا لتعاظم دورها السياسي، خصوصًا في عهد حكم بوتفليقة، ويتجاوز تأثير الطرق الصوفية والزوايا في الجزائر الدين إلى اعتبارها قوة سياسية كبيرة تضاهي قوَّة أعتى الأحزاب في البلاد، لدرجة أن أصبح لها دورٌ كبير في رسم السياسة الداخلية للجزائر.

هذه المكانة جعلت الحكومة الجزائرية تستغلها لتثبيت أركانها، فمن مواجهة التيارات الإسلامية المناوئة، إلى استخدامها كواجهة لدعم عهدات بوتفليقة الثالثة والرابعة تجلى الدور السياسي للطرق الصوفية في الجزائر. في هذا التقرير إماطة اللثام عن علاقة الحكومة الجزائرية بالطرق الصوفية وكيف استغلتها في الدعاية لها.

10 قرون.. تاريخ الزوايا في الجزائر

تُعرّف الزوايا في الجزائر بأنها مدرسة لتعليم القرآن الكريم تعتمد فكر التصوف، وتتبع مدرسة من مدارس التصوف المعروفة، ويرأسها شيخ الزاوية المعروف باسم «المقدّم»، إذ يحظى الأخير بمكانة اجتماعية مرموقة واحترامٍ كبير وسط المجتمع، وبالعودة لتاريخ الزوايا في الجزائر، فللأخيرة تاريخ طويل يمتد إلى 10 قرون كاملة إذ يعود تاريخ إنشاء أوّل الزوايا في البلاد إلى القرن الـ11 الميلادي. تاريخ بناء زاوية رباط بونة في مدينة عنابة شرقي الجزائر، حيث أسسها الشيخ مروان البوني.

ومع دخول المستعمر الفرنسي للجزائر في يوليو(تموز) 1830، عمد معظم منتسبي الطرق الصوفية إلى مقاومة المستعمر الفرنسي، وخير مثال على ذلك رمز المقاومة الشعبية «الأمير عبد القادر الجزائري» أحد أبناء الزاوية القادرية، إحدى الطرق الصوفية المشهورة، بالإضافة إلى المقاومة «لالة فاطمة نسومر» إحدى منتسبي الطريقة الرحمانية.

وما إن تفطنت فرنسا إلى الدور الكبير والعلاقة المتينة التي تربط الجزائريين بالطرق الصوفية، حتى عملت على تشويهها، وتقريب قادتها وشيوخها على أنهم عملاء وراضون بالمستعمر، إذ سلك الكثير من شيوخ الطرق الصوفية في الجزائر سبيل العمالة، إلى أن وصلوا بهم على اعتبار الاحتلال الفرنسي للجزائر «واقع ماله من دافع»، في وقت عملت فيه طرق صوفية أخرى على مواصلة نهج الأمير عبد القادر والمقراني و بقية المقاومين، ما حفظ ماء وجه الزوايا والطرق الصوفية في الجزائر، وحافظ على ثقة الجزائريين بها.

اللافت للنظر، أنّ الرئيس بوتفليقه قبل وصوله إلى الحكم اعتكف لأيام في إحدى زوايا مدينة أدرار جنوبي الجزائر، ودعا له العلامة الشيخ محمد بلكبير دعوة بدوام الحكم حتى الممات، وزار ضريح الشيخ «المهدي بن يونس» في محافظة مستغانم غربي الجزائر قبل الانتخابات، وجمع شيوخ الزوايا وقدَّم لهم دعما معنويا، فحظي بعد ذلك بدعم واسع من جانبها. ومع فوز عبد العزيز بوتفليقة و توليه الرئاسة عام 1999، أعطى للطرق الصوفية نفسًا جديدًا بعد أن أتبعها بمصالح رئاسة الجمهورية عوض تبعيتها السابقة لوزارة الشؤون الدينية والأوقاف.

1600 زاوية في البلاد

انتشرت الزوايا انتشارا كبيرًا و واضحًا في كل الجهات، خاصة في الغرب والوسط، وأرجع شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور «أبو القاسم سعد الله» سبب كثرتها بالناحية الغربية إلى زوايا المرابطين في المغرب الأقصى، وإلى الحجاج والرحّالة المغاربة الذين كانوا يعبرون الجزائر ويغذّون فكرة المرابطية وينشرون مبادئ شيوخهم.

كما انتشرت الزوايا في منطقة القبائل الكبرى والصغرى خصوصًا بعد احتلال الأسبان للسواحل الجزائرية الشرقية وبالأخص مدينة بجاية، وخروج الكثيرين من أبناء المدينة إلى الجبال المحيطة بها على أمل المرابطة والعودة، فقاموا بتأسيس الزوايا في بني وغليس وبني يعلى وغيرها من الأماكن، وقد بلغ عدد الزوايا بمنطقة القبائل وحدها حوالي 60 زاوية، وظهرت الطرق الصوفية والزوايا في جنوب الجزائر، فقد قام بتأسيسها رجال عرفوا بالصلاح والتقوى، كالزاوية «الزيانية القنادسة بشار» وزاوية «الأعمش بتندوف»، و زاوية «كنتة أدرار».

عرفت الزوايا مع مرور الزمن تطورًا إيجابيًا في وظائفها من التعليم إلى العبادة إلى حل قضايا الناس، ودورًا لعابري السبيل، و لإيواء الفقراء والمساكين، وصولًا إلى تأثيرها في المشهد السياسي الجزائري. واليوم تصنّف الزوايا في الجزائر إلى صنفين: زوايا رئيسة وفروع للزوايا، ويبلغ مجموعها ككل نحو 1600 زاوية، حسب وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر، و توجد عدة زوايا تمثل اتجاهات طرق صوفية مثل الطريقة القادرية، المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني، والطريقة التيجانية نسبة إلى «سيدي أحمد التيجاني»، وطرق أخرى يبلغ عددها 14 طريقة منها البلقايدية، المصطفاوية، الرحمانية، الهبرية، الشاذلية، ولكل طريقة مقر رئيس ومجموعة كبيرة من الفروع.

الصوفية: بين تعليم القرآن ومساندة السلطة

تتميز الزوايا، خصوصًا الزوايا المتواجدة بالغرب الجزائري، بدورها في تدريس القرآن الكريم ومختلف العلوم الشرعية وتكوين الأئمة، وتكتفي بهذا الدور المنعزل مقارنة ببقية المناطق، في حين تؤدي الزوايا المرتكزة بالجنوب أدوارًا أكبر من ذلك، فقد صار لها – إضافة إلى وزنها الاجتماعي الرفيع – وزنٌ سياسيّ لا يملكه حتى أرفع مسؤول بتلك المنطقة، وهذا راجع إلى حجم نفوذهم وتأثيرهم الدعوي والاجتماعي لدى السلطة العليا للبلاد.

فعلى سبيل المثال أقيل محافظ ولاية أدرار بالجنوب الجزائري بسبب خطأ عملي، ووفقًا لبعض المواقع الجزائرية فإنّ مجموعة من مشايخ الزوايا استطاعوا إعادته إلى منصبه في ولاية أخرى، كما ساهمت حملتهم المروّجة ضد وزير التجارة السابق «عمارة بن يونس» بإقالة هذا الأخير على خلفية تعليمة ترخيص بيع الخمور لدى تجار التجزئة، وبيتر أماله في الاستوزار مجددًا.

في حديثه لـ«ساسة بوست» أكّد «صهيب قمرة» الخطيب والمطلع على شؤون الزوايا بالجزائر، أنه يوجد نوعٌ آخر من الزوايا بالإضافة إلى العلمية، وهي الزوايا الصوفية التي تحوي أضرحة لمشايخها بنفس مكان الزاوية أو المسجد، وهي متركزة أكثر بالغرب والجنوب الجزائري، على خلاف الشرق الجزائري ومنطقة القبائل معقل جمعية العلماء المسلمين التي كابدت من أجل حسر تلك الزوايا الصوفية ومنعها من الانتشار في الشرق.
يحذر صهيب قمرة من تحويل دور الزوايا الحقيقي التي خرّجت أمثال مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر والذي يعتبر أحد أبناء الطريقة القادرية، والشيخ الثوري بوعمامة ابن الزاوية الصوفية، ويقول صهيب: إنه «بعد إخماد الثورات بمختلف المناطق نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي تم تدجين أغلب الزوايا الصوفية وتحويلها إلى وسائل في يد الاحتلال الفرنسي، وهذا ما يحدث كذلك حاليًا حيث تحولت من مراكز مجتمعية للتثقيف.

باتت مهمة مكافحة انتشار الفكر الداعشي والتشيّع في الجزائر من أولويات الحكومة الجزائرية، ولمحاربة هذين الفكرين لجأت الجزائر إلى الزوايا الصوفية ذات «الفكر المعتدل»، وتعد الزوايا الصوفية مؤسسات دينية وعلمية وتربوية اضطلعت بالعديد من المهام الإصلاحية والاجتماعية مما جعلها تكسب احترام الجميع.
تلجأ السلطة في الجزائر للزاوية في كل مرة للخروج من أي مشكلة أو أزمة تواجهها داخل البلاد سواء في الفترة الاستعمارية أو في العشرية السوداء – التسعينات من القرن الماضي – وحتى حاليًا لمحاربة «الفكر الداعشي» الذي ينشره تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» وموجات التشيّع الرهيب الذي باتت تعرفه البلاد.

https://youtu.be/GLOw-erkNqM

وتتلقى الزوايا الصوفية في الجزائر الدعم الكامل من سلطات الدولة على الكثير من الأصعدة، ويتمتع شيوخها بـ«البطاقة الخضراء» في التصرف، في وقتٍ يشغّل 90% من المتخرجين من مدارسها القرآنية أئمة في مساجد البلاد، وفق توجهات الحكومة الحالية في الجزائر، وردًا على أصحاب «الفكر المتطرف» في الجزائر وهذه هي المهمة الموكلة، بشكلٍ غير مباشر، إلى الزوايا.

تحدّثت« ساسة بوست» إلى الشيخ مبخوت شيخ زاوية «العسكري» الذي قال إن الصوفية التي تردع التطرف والتشّيع تقوم على تبني المذهب المالكي وتتواجد في كل شبر من الجزائر، وتعمل على توعية الشباب من خلال المساجد بضرورة الابتعاد عن التطرف مؤكدًا أنّ 90% من مساجد الجزائر تُسيَّر من طرف خريجي الزوايا الصوفية.

وترى الباحثة والدكتورة «هجيرة بن زيطة» في حديثها لـ«ساسة بوست» أن الحكومة الجزائرية ترمي للسيطرة على الحقل الديني وذلك باستعمال الطرقية والصوفية في مواجهة انتشار الحركات الإسلامية ذات الاهتمام بالشأن السياسي، ومن خلال ذلك بلاحظ دعم لهذه الزوايا ماديًا معنويًا، وهذا للحد من تأثير بقية الحركات والمذاهب والتحكم في المسألة الدينية في الجزائر بمنظور ورؤية تخدم أهداف الحكومة.

الأحزاب في مرمى نيران الصوفية

تعتبر الزوايا والطرق الصوفية إحدى أهم القوى السياسية والاجتماعية في الجزائر ولها تأثيرٌ يفوق تأثير الأحزاب السياسية، لدرجة أنّ لها القدرة على تغيير نتائج الانتخابات، خاصة في المناطق الريفية التي تتمتع فيها الزوايا بجماهيرية كاسحة، وهذا ما فقهه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي اعتمد منذ توليه السلطة عام 1999 على «دعم المؤسسة الدينية الممثلة في الزوايا»، وبات بوتفليقة، منذ وصوله الحكم، لا يفوّت أية جولة ميدانية أو زيارة للمحافظات، دون زيارة الزوايا والحديث إلى القائمين عليها.

وفي نهاية نوفمبر( تشرين الثاني) 2016 قال «أحمد أويحي»، مدير ديوان الرئيس الجزائري: إنّ «الزوايا لها دورٌ رياديّ كمؤسسات دينية في الحفاظ على الوحدة الوطنية، كما أنّها تلعب دورًا بارزًا في نشر تعاليم الدين الإسلامي بالشكل الصحيح لتحافظ بذلك على طابع الاعتدال والوسطية».

من جهته، أثار عبد القادر ياسين أمين عام اتحاد الزوايا – أكبر تجمع للطرق الصوفية في الجزائر- نهاية العام الماضي، جدلاً كبيرًا بعد دعوته بوتفليقة إلى الترشح لولاية رابعة عام 2019، وكانت الزوايا الرفيق الدائم لبوتفليقة في عهداته السابقة، وأثارت هذه التصريحات ردود فعلٍ معارضة وصفت الدعوة بغير المعقولة كون موعد الرئاسية بعيدًا، والرئيس يعاني من متاعب صحية جمّة ، فضلًا عن أنها توظيف لتيار ديني في الصراع السياسي.

يذكر أن الجيش الشعبي الوطني استعان بالصوفية في المعارك بينه وبين الإسلاميين في تسعينات القرن الماضي، وقد أدَّت أثناءها الزوايا دورًا هام في محاربة التطرف، خصوصًا في الجنوب؛ ما زاد من نفوذها أكثر في تلك المرحلة.

مستشار خاص للرئيس مكلَّف بالزوايا

لجأت الحكومة عام 2012 والتي كان يرأسها آنذاك أحمد أويحيى وزير الشؤون الدينية كان من معسكره، إلى توظيف الزوايا الصوفية في حربها ضد التيارات الإسلامية. وقد قامت الرئاسة -لأول مرة في تاريخ الجزائر- باستحداث منصب مستشار للرئيس مكلف بالزوايا – الأضرحة – لأهمية هذه الزوايا، وهذا ما دفع «شكيب خليل» المتهم في عدّة قضايا فساد في التوجه إلى الزوايا فور عودته للبلاد في محاولة لتلميع صورته، وهو نفس النهج الذي اتخذه معظم السياسيين في البلاد.

و من خلال افتتاح اليوم الدراسي حول «دور الزوايا في تعزيز الوحدة الوطنية والمحافظة على قيم ثورة أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1954»، نهاية العام المنصرم ، دعا وزير الشؤون الدينية والأوقاف «السيد محمد عيسى» شيوخ الزوايا إلى العمل على إفشال المحاولات التي تحاك ضد الجزائر وتستهدف أمنها واستقرارها.

كما شدد على «أهمية العمل على تفويت الفرصة لإفشال المخطط الذي يحاك ضد الجزائر والعالم الإسلامي وعدم السقوط في لعبة الاستعمار الحديث الذي يريد أن يقسم الأمة تقسيمًا طائفيًا». وأكد الوزير على أن مرجعية الأمة الجزائرية هي التي جمعت الصفوف ووحدة الكلمة عندما تفرقت كلمة الآخرين، مؤكدًا أنه «لم يكن للجزائر مذهب آخر عبر التاريخ غير مذهب أهل السنة والجماعة».

الدعم المطلق.. سياسة الحكومة الجزائرية في تعاملها مع الصوفية

ربما تلتقي سياسة الحكومة الجزائرية، القائمة على مبدأ «التفرد بالسلطة»، مع مبادئ الطرق الصوفية القائمة على ثقافة «السمع والطاعة للشيخ المربي»، وهي الثقافة التي تعمل الحكومة على تكريسها في المجال السياسي، من خلال «طاعة وليّ الأمر». تقدم الدولة دعمًا رسميًا للزوايا والطرق الصوفية، من أجل تكريس الصوفية توجهًا دينيًا في المجتمع، علاوة على إيجاد توازن سياسي داخل الحقل الديني، لوقف تمدد التيارات الإسلامية المحسوبة على «الإسلام السياسي» وتطورها.

ومن مظاهر الدعم الحكومي للزوايا الصوفية، ناهيك عن الدعم المادي لها، اتباعها لمصالح رئاسة الجمهورية مباشرةً، والدعم الإعلامي الرسمي الذي تتلقاه في تغطية نشاطاتها. فقد أطلقت السلطات قناتين، تلفزيونية وإذاعية تشجعان الصوفية وتروجان للزوايا التي تمارسها، كما يظهر شيوخ التيار على قنوات أخرى تسيطر عليها جميعًا.

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى