تقارير وإضاءات

ما فعلته العلمانية بالغرب… ألهذا يريدون علمنة الشرق الأوسط؟

إعداد مي محمد

مجتمع متهاوٍ شريعته عوجاء، تتقاذفه الأهواء تحكم عليه القبلية بالضياع، فجاء الإسلام لينتشل ما تبقى من مكارم أخلاق الناس؛ يضبط معاشهم ومماتهم، يحفظ على المجتمع تماسكه وقيمه، يخط لهم منهاجًا لا يُظلم فيه عامل، ولا يضيع فيه حق ضعيف، فأَعْظَمَ اللهُ عليهم المنة بدين أقوم وشريعة غرَّاء أخرجتهم من جاهليتهم إلى سعة الإسلام ورحبه.

ثم سار الصحب الكرام على مثل ما ربَّاهم عليه رسولنا الكريم؛ فدنت لهم فارس والروم، وسائر أقطار الأرض. يُعلِّمون الناس ما أُنزِل عليهم، فتُهذَّب الأخلاق، وتُتَّقى المكاره، وتنضبط موازين الحكم، وتنقلب الموازين الجاهلية رأسًا على عقب، فيقود من تُأهِّله صفاته ودينه للقيادة، ولا يضيع عنده حق ضعيف أو امرأة أو شيخٍ أو حتى عدوٍ إن كان له حق.

وظلت هذه النهضة تشمل جوانب حياة الناس ما بقي الإسلام قائدًا وشريعته حاكمة مُقامة، فتُردّ على الناس حقوقهم، وتُرسم الحدود الواضحات بينهم. وما إن انسلخت الأمة عن مكمن قوتها، وانصرف الحُكَّام عن شريعة ربهم يطلبون الشهرة والمال والنفوذ والسلطان، إلا وتبدّل الحال، وخطف بريقُ المناهجَ البشريةِ ألبابَ الناسِ!

كيف لا، وهي تهدم ما وضعه الدين من ضوابط لإحكام الغرائز الحيوانية والأهواء البشرية، وتُقدِّم لهم ما يتمنون، وتُطلق العنان لما قمع الإسلام علوَّه. فصار الناس سكارى تتخطَّفهم كل شاردة وواردة؛ فأضحت الأخلاق شأنًا شخصيًا، والحقوق والواجبات غير مُلزمين في شأن الناس العام.

فظنوا أنهم بانفكاكهم عن الدين الذي أنزله خالقهم سينعمون بحرية ورغدِ عيشٍ، وسيستردّون حقوقهم التي سلبهم الدينُ إيَّاها؛ فانقلب السِحر على الساحر، وكان هذا هو الحال والمآل.

ما تكبَّده الغرب في سبيل علمانيته

لمُ يخلُ مجتمع يومًا من قيم عامة وأخلاق وفضائل، إلا أنَّ وجود هذه القيم حتى وإن كانت مصدر تقدير لحاملها، لا يعني وجودها في نظامٍ عامٍ مُلزم يضمن الحقوق ويرسم الواجبات. ولمّا كانت حراسة تلك القيم والأخلاق ومحاولة ترسيخها شأنًا كنسيًا خالصًا في العصور الوسطى للقارة الأوروبية، وتوسَّع رجال الكنيسة في وصايتهم؛ انصرف الناس عن الكنيسة بكل ما تحمله من دين ووصاية وحتى قيمها وأخلاقها، ولم يفرقوا بين غثها وسمينها.

فأضحت الأخلاق والفضائل شأنًا خاصًا لا يُنكر على تاركه بدعوى الحرية الفردية، بل ربما لا يُحمد فاعله ويُنكر عليه بدعوى إقحام الدين في غير مجاله وتقييد الحريات الشخصية لأفراد المجتمع، فكان هذا نتاج هدم القيم وإخراجها من نطاق الإلزامية إلى الحرية الشخصية.

أطفال خارج إطار الزواج

ولمّا انفك الناس عن الدين، وحاولوا رسم حقوقهم وحريّاتهم وفقًا لأهوائهم، تعارضت وتضاربت هذه الحقوق المدّعاة مع بعضها البعض، فإذا بحقوق الحرية الفردية تتعارض مع حقوق الأطفال الذي يُولدون خارج إطار الزواج، وحقوق المرأة في فعل ما تريد، والصداقة دون زواج تتعارض مع حقوقها هي نفسها.

يفخر تقرير النظام الاحصائي الوطني الأمريكي للإحصاءات الحيوية والصادر في 5 يناير 2017، أن نسبة الأطفال خارج إطار الزواج للعام 2015 قد انخفضت لتستقر عند 40.3%،[1] أي أنّ ما يعادل نصف المواليد في أمريكا هم أبناء غير شرعيين، دون حديث عن حق هؤلاء الأطفال في حياة كريمة، ولا عن حقوق الإنسان وحقوق هؤلاء الأطفال في الأمومة والرعاية.

فخلال العام 2015 فقط، استقبلت أمريكا أكثر من مليون وستمائة ألف طفل من أمهات غير متزوجات، والعجيب أن هؤلاء ممجدي الحريات الأمريكية، ومهاجمي التشريعات الدينية الخاصة بالزواج، لم نسمع لهم همسًا فيما يخص ألفين وخمسمائة طفل لفتيات تقل أعمارهن عن الخامسة عشر، والأعجب أنّ هؤلاء الأطفال كانوا خارج إطار الزواج. وهذا على الرغم من التشريعات الأمريكية التي تسمح بزواج الأطفال في كثير من ولاياتها.[2]

أما عن القارة العجوز التي تزعم تعليم الدنيا الحضارة والتقدم، فكانت هذه هي الإحصاءات للمواليد خارج إطار الزواج.[3]

مشاكل الإجهاض

وإن كنا قد أوضحنا نسب الأطفال خارج إطار الزواج في أوروبا وأمريكا، إلا أن هذه الإحصاءات ليست كافية لكشف حقيقة الوضع، فهؤلاء هم الأطفال الذين أتوا إلى الحياة بالفعل، ولكن ماذا عن أولئك الذين انتهت حياتهم التي لا تعني شيئًا لآبائهم وأمهاتهم؟! فهذه الخارطة توضح نسب عمليات الإجهاض في أوروبا مدعية الحضارة وحماية حقوق الإنسان![4]

فعلى الصعيد العالمي، انتهت 25٪ من حالات الحمل بالإجهاض في الفترة من 2010إلى 2014، فيما بلغت نسبة الإجهاض في البلدان التي تُصنّف كمتقدمة 27 % في نفس الفترة. حيث رُصِد ما يقدر بـ 56 مليون حالة إجهاض سنويًا. [5]

الأطفال ضحايا الاعتداءات العائلية والمجتمعية

وإن لم يكن هناك ما يضمن حقوق البشر وفق منهج قويم ونظام مُلزم ورادعٍ للتصرفات الحيوانية والأهواء البشرية الجامحة، وتربية إيمانية تصنع من الفرد رقيبًا على نفسه قبل الرقابة السلطوية؛ فما الرادع من أن يكون الأطفال عرضة للاعتداءات العائلية أو المجتمعية؟!

بحسب مؤسسة RAINN ترصد خدمات وقاية الطفل كل 8 دقائق دعوى اعتداء جنسي على طفل، وتذكر أنّه وخلال الفترة من 2009 إلى 2013، أثبتت وكالات حماية الطفل أدلة قوية تشير إلى أن 63 ألف طفل كانوا ضحايا الاعتداء الجنسي سنويًا، كان هذا في الولايات المتحدة الأمريكية فقط![6]

وفي أمريكا أيضًا، ومن خلال دراسة 900 حالة تم الإبلاغ الرسمي عنها مِن بين أكثر من 57 ألف حالة من حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال خلال العام 2015، تبين أن 77.7 ٪ من الحالات كان الجاني أحد الوالدين! [7]

وفقا لهيئة الخدمات الصحية الوطنية NHS في اسكتلندا، فإن أكثر من نصف الناس الذين انتهى بهم المطاف في المستشفى لأنهم آذوا أنفسهم عن عمد، قالوا إنهم قد تناولوا الكحول مباشرة قبل أو أثناء القيام بذلك.[8]

ويقدر المعهد الوطني لتعاطي المخدرات بالولايات المتحدة الأمريكية أن إساءة استعمال التبغ والكحول والوصفات الطبية والمخدرات غير المشروعة تحمِّل أعباءً اقتصادية إضافية على الولايات المتحدة، حيث تبلغ تكاليف الرعاية الصحية المباشرة حوالي 137 مليار دولار سنويًا. كذلك فإن تقديرات التكلفة التي تشمل الجريمة وفقدان إنتاجية العمل تقفز إلى أكثر من 600 مليار دولار، أي ما يعادل 17.1٪ من الميزانية الفدرالية للولايات المتحدة، ويوضح الرسم البياني التالي تكلفة استخدام المواد المخدرة في أمريكا (وحدة العملة في الرسم: مليار دولار أمريكي)[9]

وعلى ما يبدو أنّ المواد المخدرة أخطر على أمريكا من الإرهاب الذي تزعم أنه يكلفها الكثير، ففي عام 2012، بلغ عدد الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة من المخدرات أكثر من 33 ألف حالة.[10]

أهذا نتاج تطبيق خاطئ للعلمانية أم نتيجة حتمية لمبادئها؟

ولم تكن العلمانية الغربية منفصلة يومًا عن ذاتها ومبادئها، بل وأقرَّ مُنظِّروها هذا التوافق، وأعربوا عن مدى كونها فكرة واعية بموضوعها المتمثل في عزل الدين عن توجيه حياة البشر. وفي هذا المأزق لم يكن أمام العلمانيين سوى الاعتراف بالحقوق المطلقة للبشر شرط عدم تعارضها مع حقوق غيرهم من البشر، وهو ما عجزوا حتى عن التنظير له فضلًا عن تطبيقه في نظام عام مُلزِم، فوضعوا الحقوق الشخصية الخالصة منزلة الحاكم الآمر الناهي في نظامهم، وتقدمت هذه الحقوق على الحقوق الاجتماعية، والترابط المجتمعي والمصلحة العامة.

فأثبتت تشريعاتهم البشرية مدى عجزها عن وقف ما أسلفنا من جرائم، وكان أقصى ما استطاعوا تقديمه هو إقامة توعية مجتمعية لمناداة الأفراد بتقليص حرياتهم الشخصية، والتوعية بالآثار الجانبية للحقوق التي أطلقوها هم بأنفسهم، أملًا في الاستجابة الفردية.

فبعد نزع الدين من حياة الناس ما الذي يقف عازلًا بينهم وبين فعل ما يريدون، سوى بعض القوانين التي تطلب رقيبًا عليهم لتنفيذها؟! فمن ذا الذي يمنع من أراد إقامة علاقة غير مشروعة نتج عنها حياة شخص لا ذنب له فيما سيتعرض له من مأساوية الحياة نتيجة هذه العلاقة؟ فالعلاقة قد تمت بالتراضي لذا لا يمكن إدانتها قانونيًا! ومن ذا الذي يمنع والدًا تجردّ من أخلاقه وفطرته فاعتدى على أحد أطفاله، فليس من حق الحقوقيين تثبيت كاميرات مراقبة في المنازل تراقب تصرفات الآباء مع أطفالهم.

العلمانية وطبيعة الدين الإسلامي هل يلتقيان؟

الحقيقة أنْ ليس ثمَّة إشكال حقيقي فيما يطرحه العلمانيون منطلقين من النموذج الكنسي في الحياة الغربية وبين الدين الإسلامي الذي تصدى لمثل هذه الكهنوتات، ولكن الإشكال يكمن في رغبتهم في فصل الإسلام عن الإسلام، إذ أنَّ العلمانية قد نشأت نتيجة انحرافات كنسية في المسيحية، وتحريف الدين عن مقتضاه، حتى أنَّ الناس كانوا لا يملكون كتابًا يقرأونه يُقرِّر أحكام دينهم، وصارت الكنيسة هي من يحتكر الدين وتفسيره وتطبيقه، وتُكفِّرُ من يخالفها، بل وخلقت ما يُسمَّى التأييد الإلهي للقيصر، وأضحت أحكام الهيئة الكنسية مُلزمة للجميع دون أن يعرف هؤلاء المحكومين بما حُكموا ولا يعرفون منهجًا ولا منهجيةً سارت عليها الكنيسة لإصدار مثل تلك الأحكام.

ومن هنا يتضح لنا أن ليس ثمَّة إلزام بين ما ذهبت إليه أوروبا في التعامل مع الطغيان الأعمى للكنيسة، وبين التعامل مع الدين الإسلامي، كما أننا نستطيع هنا أن نحكم على الموقف الأوروبي بأنه موقف خاطئ في التعامل مع الطغيان الكنسي، إذْ أنَّ إثبات تحريف دين أو عدم مناسبته لحياة الناس، لا يمكن أن يكون سببًا لترك أي دين، بل يجب أن يكون التصرف الصحيح في مثل هذا هو البحث والتنقيب عن البدائل المطروحة، وليس ترك جميع الأديان قياسًا على المسيحية المُحرَّفة. ومن ثمَّ يحاول العلمانيون استخدام مثل هذا النهج الخاطئ في التعامل مع الواقع الإسلامي المعاصر.

يقول الشيخ فهد العجلان مُستحضِرًا لوازم وتبعات الانتقال إلى هذا الفكر:

«وإذا زال (الإلزام) بأوامر الله و(المنع) عن مناهي الله لم يكن ثَمَّ ميزةٌ لهذه الأمة إلا مجرد أن تفعل المعروف وتترك المنكر، وإذا حَسُن أمرُها نصحت بالكلام من غير نظام ولا إلزام ولا سلوك عام، وليس في هذا ميزة يُفتَخَر بها؛ لأن فعل المعروف ونُصحَ بعض الناس به تفعله كل الأمم والحضارات، فأي شيء يميز أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا شك بعد هذا أن (الإلزام) و(المنع) سيكون بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن يكون مردُّه إلى آحاد الناس مطلقًا، ولن يطالَب الإنسان بشيء من ذلك في حال الضعف وعدم القدرة، أو في حال ترتُّب مفسدة أعظم منه؛ فكل ذلك من القواعد الشرعية المستحضرة في هذا المقام، وهي من مكملات أصل الإلزام في الشريعة، ولا يجوز أن تُتَّخَذ أداة لتكسير هذا الأصل.»[11]

وهنا ننتهي إلى أنَّ العلمانية الغربية افتراض لمشكلة وهمية، وطرح لحل مستحيل.


المصادر

[1] National Center for Health Statistics

[2] المصدر السابق

[3] Live births outside marriage, selected years, 1960-2015

[4] Maps of percentage of Pregnancies Aborted in Europe–by Country

[5] Induced Abortion Worldwide

[6] Children and Teens: Statistics

[7] Child Maltreatment 2015 – Administration for Children and Families

[8] Alcohol and mental health

[9] Drug Abuse Statistics

[10] المصدر السابق

[11] فهد بن صالح العجلان، في الطريق إلى العلمانية، موقع طريق الإسلام.

 

 

 

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى