تقارير وإضاءات

حروب الأنفاق.. تفوق المستضعفين

إعداد عبد الغني مزوز

يشكل التفوق التقني الهائل للقوى الكبرى المهيمنة أكبر التحديات التي اعترضت حروب التحرير الشعبية والثورات المسلحة في عصرنا، إذ لا يمكن مقارنة مستوى التقدم التكنولوجي والحربي لهذه القوى بذلك الذي تتمتع به المجموعات والكيانات المتمردة على سيطرتها الساعية للتحرر من هيمنتها واحتلالها، لكن ما فتئت عقلية المستضعفين الخلاقة تبدع مناهج المواجهة وأساليب التصدي والنكاية في قوى الجبر والاحتلال، مكنتهم في النهاية إما من الانتصار ودحر الغزاة أو الصمود في وجههم واستنزافهم في مقاومة مستدامة ستسفر لا محالة عن هزيمتهم في يوم من الأيام.

تقوم فلسفة حروب المستضعفين على تحييد التفوق التقني والتكنولوجي للعدو من خلال اللجوء إلى أساليب بدائية في المواجهة والحركة والتواصل، فمثلا تحييد قدرة العدو الجبارة على اعتراض الرسائل والمكالمات وتفكيك الشفرات وكشف البصمة الصوتية واختراق أجهزة الاتصال المختلفة يتم عبر اعتماد نظام تواصلي يتجنب توظيف التكنولوجيا الحديثة، كتوصيل الرسائل باليد أو استخدام منصات وأجهزة لا تُستعمل عادة في التواصل ولا تخضع بسبب ذلك للرصد والمراقبة[ فاجأ تنظيم داعش المخابرات البلجيكية عندما استخدم ألعاب الفيديو ” بلاي ستيشن” للتواصل مع منفذي هجمات باريس. http://www.huffpostarabi.com/2015/11/16/story_n_8574608.html].

وإذا كان العدو يسعى لفرض سيطرته على الأرض وإقامة القواعد العسكرية الضخمة، ونشر الجنود والآليات في الأحياء والمدن، فحروب المستضعفين تقوم على اللا سيطرة وتجنب إقامة قواعد ومقرات عسكرية ثابتة وقابلة للرصد والملاحظة. وإذا كان العدو قد طور طائرات مقاتلة وأقمار اصطناعية فرض بها سيطرته على الأجواء ورصد بها ما يجري على سطح الأرض، فإن المستضعفين قد شقوا لأنفسهم أخاديد وأنفاق في باطن الأرض، وحيدوا بها ترسانة تكنلوجية كلفت ملايير الدولارات، وسنوات طويلة من الأبحاث والتطوير، مجسدين بذلك الحكمة الصينية القديمة ” عندما تكون قويا انقض من أعلى مثل العقاب وعندما تكون ضعيفا احفر عميقا في باطن الأرض”.

سنتحدث في هذه المقالة عن الأنفاق الحربية وأنواعها وكيف ساهمت في حسم بعض الصراعات الحديثة، وأهميتها لحروب المستضعفين.

يمكن تعريف الأنفاق بأنها: عبارة عن ممرات أرضية تستخدم لقطع مسافات يصعب التحرك فيها فوق الأرض لتحقيق مبدأ التماس مع العدو أو الامداد والانتقال من مكان لآخر، حسب نشرة لكتائب عز الدين القسام غير متاحة للعموم[ رامي أبو زبيدة، استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م (رسالة ماجستير) ص 57].

تنقسم الأنفاق الحربية إلى عدة أنواع تبعا لاستخداماتها وأغراض حفرها، ويمكن حصرها في ثلاثة أنواع: أنفاق هجومية؛ أنفاق دفاعية؛ أنفاق لوجستية، وهناك أنفاق أخرى تستخدم في مناطق الحروب لكن أهدافها إنسانية ومدنية محضة.

الأنفاق الهجومية: ويتم استخدامها للوصول إلى عمق مواقع العدو، بهدف القيام بعمليات سريعة هناك، وخطف أفراده وعناصره، وتفخيخ المقرات ومخازن السلاح، وتستخدم الأنفاق الهجومية أيضا في عمليات القصف بالهاون والصواريخ لتجنب رصدها قواعدها من طيران الاستطلاع. وبواسطة هذا النوع من الأنفاق يتم الالتفاف حول قوات العدو والتسلل إلى قواعده الخلفية. وفي بعض الأحيان تُحفر الأنفاق تحت المقرات والقواعد العسكرية فيجري تفجيرها بعد تلغيمها بالمواد المتفجرة.

الأنفاق الدفاعية: وتُستخدم الأنفاق الدفاعية في امتصاص كثافة النيران، وكمون المقاتلين في انتظار تقدم القوات المهاجمة، كما تستخدم كمخابئ وأماكن اجتماع القادة، وكممرات للتنقل واجتياز المساحات المكشوفة ناريا واستطلاعيا للعدو. وتزداد أهمية هذا النوع من الأنفاق في حالة اعتماد العدو على سلاح الطيران والمسح الجوي لرصد واستهداف أية حركة غير عادية على الأرض.

الأنفاق اللوجستية: وهي الأنفاق التي يُلجأ إليها بهدف تأمين الإمدادات اللازمة لاستمرار المعارك؛ من أسلحة ومعدات عسكرية ومواد غذائية وطبية وغيرها، وغالبا ما تكون وسيلة لربط الجبهات المحاصرة بالجبهات المفتوحة، وهي بمثابة شرايين الحياة لهذه الجبهات إذ لا تستطيع الصمود وتوفير متطلبات المعركة من دونها.

لا يمكن الحديث عن حروب التحرير المعاصرة واستراتيجياتها وأساليبها وعوامل نجاحها دون الحديث عن “الأنفاق الحربية” ودورها في تغيير موازين هذه الحروب وبلورة نتائجها التي حددت لاحقا معالم الخريطة السياسية للعالم، ولا زالت الأنفاق الحربية رقما صعبا في الثورات الشعبية المسلحة وحروب التحرير والاستقلال إلى اليوم. تتطور أساليب حفرها وهندستها وتتطور معها طرق اكتشافها وتدميرها والحد من تأثيرها؛ ابتداء من إنشاء الولايات المتحدة الامريكية لوحدة “جرذان الأنفاق” المتخصصة في كشف أنفاق الفيتكونغ إبان الحرب الفيتنامية وانتهاء بمشروع “المجرفة الحديدية” التي يقال إن إسرائيل تشتغل عليه لوضع حد لرعب أنفاق المقاومة الإسلامية في غزة.

أنفاق كوتشي

تعتبر حرب الأنفاق في الثورة الفيتنامية أوضح تعبير عن انسجام الإنسان الفيتنامي المقاتل مع الطبيعة الفيتنامية واستغلاله التام للإمكانيات المتوفرة فيها في مواجهة الجنود والأسلحة والآليات من جانب، وفي تجنب أو الحد من آثار الغازات والقنابل الدخانية من جانب آخر[ علي فياض، التجربة الفيتنامية ص 335]. تقع مقاطعة كوتشي cu che على بعد 70 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة سايغون، وتقع وسط أربعة قواعد عسكرية هامة، وموقعها الاستراتيجي هذا منح للأنفاق التي حفرت تحتها دورا محوريا في عملية دخول الفيتكونج للعاصمة سايغون ودحر القوات الأمريكية الغازية.

امتدت ممرات وأنفاق كوتشي مسافة تصل إلى 200 ميل، وكانت عبارة عن قرية مصغرة مبنية تحت الأرض، وكانت هذه الأنفاق تؤوي العشرات من القرويين ومواشيهم خلال فترات القصف الشديد الذي تتعرض له المقاطعة، ولمواجهة آثار القنابل الثقيلة وقاذفات B52 روعيت خلال بناء الأنفاق مواصفات خاصة بحيث تكون على عمق 12 مترا، وأن تتوفر على منافذ كافية للتهوية، ويمتد بعضها تحت مناطق ومراكز تابعة للقيادة الأمريكية أو السايجونية لتجنب القصف.[ المصدر السابق 37] وبإمكان هذه الأنفاق أن تتحمل ضغط القنابل من 500 رطل[ روبرت تابر، حرب المستضعفين، ص 72 ].

اشتهرت كوتشي عالميا بعد قرار الولايات المتحدة الرد على عملية للثوار في المنطقة، حيث استخدمت قاذفات B52، وطائرات إنزال ومروحيات و170 ألف قذيفة مدفعية، وآلاف الجنود من المظليين والمشاة والصاعقة الاستوائية، واستمرت العملية 11 يوما دون أن تدمر أنفاق كوتشي كما وعدت القيادة الأمريكية، وبعد عامين من العملية انقض ثوار كوتشي على العاصمة سايغون وأعلنوا انتصار الثورة الفيتنامية.

أنفاق خوست

يحلو للبعض أن يعزو انتصار المجاهدين الأفغان على الاتحاد السوفييتي إلى الأسلحة والمعدات التي كانت تدعمهم بها الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن من هذا البعض من يختزل ملحة الجهاد الأفغاني بصواريخ “ستينغر” الأمريكية. بينما شواهد الواقع والتاريخ تقول إن الشعب الأفغاني حساس جدا تجاه الغزاة، ويبدل في سبيل التصدي لهم كل ما يملكه من طاقة وقوة، سواء كان هذا العدو شرقيا أم غربيا، ولا يزال إلى يومنا هذا يحارب قوات الناتو التي احتلت أرضه منذ 17 عاما دون أن يتلقى دعما معتبرا من أحد. استغل الشعب الأفغاني تضاريس بلاده في التصدي للغزاة والمحتلين، وحفر أنفاقا تحت الأرض وكهوفا في قمم الجبال ليعزز صموده ومقاومته.

كانت معركة خوست خارج برنامج الدعم الغربي للجهاد الأفغاني، لأن الاتحاد السوفياتي خرج من أفغانستان قبلها بسنتين تقريبا، لكنه ظل يدعم حكومة نجيب الله ويوفر لها الاسناد اللازم لتفرض سيطرتها على مدن البلاد. ومعركة خوست كانت تعبيرا عن إرادة الأفغان في التحرر من فلول النظام الشيوعي وكذا والوصاية الغربية وبالتالي سعى الجميع لإفشالها.

تحدث أبو الوليد المصري (مصطفى حامد) في كتابة فتح خوست عن دور أعمال الحفر التي قام بها المقاتلون الأفغان في حسم المعركة لصالحهم، وكيف أنها كانت سببا في تحييد سلاح الجو وتجريده من فاعليته، كانت أعمال حفر الأنفاق والكهوف في خوست يتولاها مجموعة من الشباب مكلفون خصيصا بهذه المهمة سماهم مصطفى حامد (شركة وردك للحفريات)[ مصطفى حامد، فتح خوست ص 27] وكان لهم دور بارز في انتصارات خوست.

استخدمت المقاومة الأفغانية أدوات بدائية في عمليات الحفر وشق الأخاديد في الصخور وحفر الكهوف في قمم الجبال، وكانت هذه الكهوف والأخاديد تحصينات منيعة لم تحيد سلاح الجو بمختلف أنواعه وأصنافه فقط بل حيدت أيضا كل الآليات والعربات الثقيلة التي استقدمها الاتحاد السوفييتي وبعده حلف الناتو إلى بلاد الأفغان.

فاكتفى الغزاة بالسيطرة على المدن الرئيسية تاركين الأرياف والمديريات النائية بأيدي المقاومة الأفغانية. وقد استخدمت الولايات المتحدة مؤخرا ما سمتها بأم القنابل وهي أفتك قنبلة بعد القنبلة النووية لتدمير التحصينات الأفغانية لكن دون جدوى.

نفق سراييفو

أطبق الصرب حصارهم الخانق على مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك مطلع عام 1992، واستمر الحصار أكثر من ثلاث سنوات، عاش خلالها أهل سراييفو أهوالا لا توصف، ورأوا الموت البطيء يزحف إليهم مع مرور كل يوم من الحصار، عانت المقاومة البوسنية من الحصار حيت لا سلاح ولا ذخيرة ولا إمدادات، وتزامن الحصار مع حملات قصف شديدة شنها الصرب على المدينة من المرتفعات والجبال المحيطة بها. ووقف العالم يشاهد احتضار مدينة مسلمة دون أن يحرك ساكنا.

أشار مهاجر عربي (أبو عمر المصري) قدم من أفغانستان وكان شاهدا على حروب الأنفاق هناك؛ أشار على أهل المدينة بحفر نفق يمتد إلى خارجها لكسر الحصار وإدخال السلاح والإمدادات الغذائية والطبية إلى الأهالي المنكوبين. استغرب الناس من الفكرة ورأوها مستحيلة التحقق، لكنها كانت شاهدة على إرادة الصمود والمقاومة من شعب أعزل ومحاصر، فكان أن أطلقوا على النفق اسم ” نفق الأمل “. استغرق حفر النفق 6 أشهر وكان ممرا أرضيا ممتدا على مسافة 800 متر ومدعما بـ 170 مترا مكعبا من الأخشاب. يمر عبر النفق يوميا ما يقارب 3000 شخص و30 طنا من المواد الغذائية والتموينية، والأهم من كل ذلك مكن النفق من تسليح البوسنيين المحاصرين وإمدادهم بالذخيرة الكافية للصمود والمقاومة[ البوسنة بالعربي، قصة نفق الأمل وتاريخه، http://www.arbosnia.com/sarajevo-tunnel-story-and-importan…/].

أنفاق غزة

ربما لم تشعر إسرائيل بالرعب في تاريخ صراعها مع العرب كما تشعر به اتجاه أنفاق غزة، وإذا كانت القبة الحديدية أشعرت الإسرائيليين ببعض الأمل في إمكانية إيجاد حل لصواريخ المقاومة، فإنها ليست متأكدة من إمكانية إيجاد حل مجدي لرعب الأنفاق، فكل الدراسات والأبحاث التي تقوم بها في هذا الإطار لا تثق تماما في نتائجها كما يقول الباحث المتخصص في أنفاق المقاومة رامي أبو زبيدة[ ننوه إلى أهمية الاطلاع على الدراسة التي أنجزها الباحث رامي أبو زبيدة حول ” استراتيجية الأنفاق لدى المقاومة الفلسطينية في إدارة حرب غزة 2014م ” وهي عبارة عن رسالة ماجستير تطرق فيها الباحث إلى كل ما له علاقة بأنفاق المقاومة في غزة وختمها بمجموعة من التوصيات المفيدة في مجال حفر الأنفاق. والدراسة متاحة للتحميل في هذا الرابط: http://mpa.edu.ps/uploads/120110244.pdf]، خصوصا وهذه الأنفاق تشهد تطورا متواصلا في تقنيات حفرها وتمويهها وتجهيزها لتعزز فعاليتها ونجاعتها.

خاضت المقاومة الإسلامية في غزة حربا شرسة مع أقوى جيش في المنطقة، واستطاعت الصمود وتكبيده خسائر فادحة، وأسر جنوده بفضل توظيفها المتقن للأنفاق والممرات الأرضية، كما حافظت المقاومة على قادتها وكوادرها بعيدا عن الاغتيال والاستهداف في فترة اشتداد المواجهات، بل إنهم أداروا المعركة بكفاءة واقتدار في مقراتهم الأرضية الحصينة.

استخدمت المقاومة في غزة الأنفاق للدعم والإمداد، والتسلل إلى خلف خطوط العدو والوصول إلى عمق مناطقه، واستخدمتها كمنصات لإطلاق القذائف والصواريخ. وتمكنت في 2006 من أسر الجندي جلعاد شاليط وتهريبه إلى داخل القطاع عبر أحد الأنفاق. ولا تزال المقاومة تبدع في تكتيكات الأنفاق وتراهن عليها في صناعة التفوق أمام ترسانة الجيش الإسرائيلي الذي قيل يوما إنه لا يُقهر!!

دفعت أعمال التطوير المفاجئة في تقنيات المقاومة التي تجلت في حرب الأنفاق، المراسل العسكري “روني دانيئيل” في التلفزيون الإسرائيلي للقول: “يبدو أننا خسرنا صراع الأدمغة في مواجهة حماس”، واتهم محللون عسكريون الجيش الإسرائيلي بالبطء والتأخر في البحث عن الحلول التكنولوجية والميدانية الملائمة لمشكلة الأنفاق وتطبيقها، رغم أن قادته أخذوا يتحدثون عنها منذ مدة من الزمن، باعتبارها سلاحا “يخرق التوازن”، وقد يخرج الجيش في غزة عن أطواره واتزانه، لكن هذا الأمر لم يقُد إلى “خياطة البدلة الملائمة لمواجهة تهديد الأنفاق”.[ أنفاق غزة، ساحة المواجهة القادمة، الجزيرة نت]

خاتمة:
حفر الأنفاق ليس تكتيكا أو أسلوبا حربيا فقط يلجأ إليه المستضعفون عند الضرورة الملحة بل هو سلاح استراتيجي قادر على قلب موازين القوى، وصياغة معادلات صراعية جديدة تصنع التفوق وتدفع في اتجاه الحسم أو تضع بنية تحتية متماسكة لمقاومة مستدامة. إن حفر نفق استراتيجي يشبه بناء غواصة أو سفينة مدمرة. لقد أبدت المقاومة في غزة استعدادها لوضع خبرتها في مجال الأنفاق رهن إشارة الحركات الثورية، وقد ساعدت كتائب القسام ثوار سوريا في حفر الأنفاق وتجويدها.

ولا يكفي هذا بل يجب أن تتفرغ لجنة تضم مهندسين وخبراء في الجيولوجيا لتطوير هذا المجال الحيوي بالنسبة لمعارك المستضعفين، وبعث متخصصين لزيارة أنفاق سوتشي وسراييفو لجمع المعلومات والملاحظات حولها وهي مفتوحة للسياح والزوار على مدار السنة. إن أول ما ينبغي التفكير فيه عند السيطرة على أي مدينة أو قرية استراتيجية هو وضع مخطط هندسي للأنفاق والممرات والمباشرة إلى حفرها تعزيزا لمناعتها ومقاومتها واستعدادا لأي حصار قد يفرض عليها، وتوفيرا للملاجئ والأماكن الآمنة للمدنيين والثوار في حالات القصف الشديد.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى