كتب وبحوث

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 5 من 10

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 5 من 10

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

تزوير الحقائق من أدوات الغزو الفكري

تسرد ياعيل دايان، ابنة موشيه دايان، السياسي والقائد العسكري ووزير الدِّفاع الإسرائيلي خلال حرب الأيَّام الستَّة، في سيرتها الذَّاتيَّة الصَّادرة عام 1967م، تحت عنوان جورنال إسرائيل: حزيران (وتُعرف كذلك باسم مذكِّرات جندي)، عن إهدائها عند وصولها العريش، بعد أن سقطت سيناء بالكامل في أيدي إسرائيل بحلول 9 يونيو 1967م، وهو خامس أيَّام الحرب، ميداليَّة مصريَّة استولى عليها ضابط إسرائيلي ضمن غنائم الحرب، والملفت أنَّه نُقش على أحد وجهيها خارطة لسيناء، وعلى الآخر عبارة “سيناء أرض النَّصر” وتاريخ 1956م، في إشارة إلى إجلاء الإسرائيليين عن سيناء بعد العدوان الثُّلاثي في ذلك العام. ويعلِّق كشك على ذلك بقوله “إنَّها أشهر عمليَّة تزوير في التَّاريخ، أن تظلَّ أمَّة عشر سنوات، تجهل أنَّها هُزمت هزيمة فادحة” (ص21). يتأسَّف كشك على الخداع الإعلامي الممارَس بزعم أنَّ الوحدة العربيَّة بين مصر وسوريا (1958-1961م) لم تفشل، بينما كانت الحقيقة هي “عجْز مصر عن اتِّخاذ أيِّ إجراء عسكري”، بالإضافة إلى عدم تطوير القدرات الدِّفاعيَّة أو الهجوميَّة للجيش، ناهيك عن عدم إعداد ساحة القتال على النَّحو السَّليم، واحتفاظ قيادات كان لها دخلٌ في الهزائم بمناصبها.

يعلِّق كشك على زعْم نديم البيطار في كتابه آنف الذِّكر (1968م)، بأنَّ هزيمة العرب في حرب الأيَّام الستَّة لم تكن “عسكريَّة أو سياسيَّة أو دبلوماسيَّة”، بنفي لذلك الزَّعم، والتَّشديد على أنَّ إسرائيل، التي لم يتجاوز عدد سكَّانها حينها 5 بالمائة من تعداد الدُّول المحيطة، حشدت من القوَّات أكثر ما حشدته الدُّول الثلاث المعادية خلال الحرب، وهي مصر وسوريا والأردن، والإشارة إلى أنَّ “ضَعف المستوى الفنِّي لجيوشنا”، في مقابل ما وصلت إليه القوَّة العسكريَّة الإسرائيليَّة بفضل التَّدريب والتَّطوير التقني للأسلحة، كان من أهم أسباب الهزيمة (ص24-25). يضيف كشك أنَّ ما بذلته الحكومات العربيَّة في سبيل اكتساب مكانة عالميَّة وثقَل دولي ذهب سدى؛ وليس أدل على ذلك أكثر ممَّا نالته إسرائيل من تعاطُف وتأييد في عدوانها على جيرانها العرب في 5 يونيو 1967م، ويقول في ذلك “ما من أمَّة وقفت تواجه عداء العالم ورفضه، كما وقفت الأمَّة العربيَّة عشيَّة الخامس من يونيو…كلُّ العالم ضدَّنا…حكومات وشعوب…بل والشُّعوب التي تعادينا أكثر من الحكومات!” (ص37). ولا توجد إشارة إلى الهزيمة الدبلوماسيَّة أوضح من تأييد إسرائيل كافَّة الكيانات الاستعماريَّة العنصريَّة في إفريقيا، ومسارعة كل دولة تستقل بتبادل التَّمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، هذا بالإضافة إلى سيطرة اليهود على مقاليد الحُكم في دول المعسكر الشَّرقي الشُّيوعيَّة، حليفة مصر، ممَّا يجعل ادِّعاءها نُصرة مصر غير قابل للإقناع.

الإصرار على الاشتراكيَّة برغم دورها في الهزيمة

من أغرب ما قد يفعله مفكِّر معاصر للأحداث أن يرحِّب بالهزيمة الممهِّدة للسَّيطرة الكاملة للاشتراكيَّة على مفاصل العالم العربي، ما يذكِّر بما فعله لينين اليهودي، قائد الثَّورة البلشفيَّة (نوفمبر 1917م) وزعيم الشُّيوعيَّة، بتمنِّيه هزيمة الإمبراطوريَّة الرُّوسيَّة، وطنه، أمام الإمبراطوريَّة اليابانيَّة في حرب عامي 1904و1905م؛ كي تنكسر روسيا القيصريَّة تصبح أسهل في التجاوب مع ثورته الاشتراكيَّة لاحقًا. ويبدو الأمر وكأنَّ ندير البيطار أراد تمهيد الطَّريق لهزيمة رابعة تفتح الطَّريق أمام ثورة اشتراكيَّة تنشر العلمانيَّة وتبرِّر إبادة العرب المخالفين لنهجها. ويثني كشك على رأي الكاتبة السُّوريَّة غادة السَّمان في مسمَّى “النَّكسة”، برفضها إيَّاه وتفضيلها الاعتراف بالهزيمة؛ على اعتبار أنَّ مسمَّى “نكسة” يوحي بالانتكاس عن طريق صحيح، وهو طريق تطبيق الاشتراكيَّة، فيما تؤكِّد هزيمة يونيو خلاف ذلك. يزعم البيطار أنَّ المسلك السَّليم لمعالجة نكبة 1948م، كان بالتَّخلُّص من القيادات العربيَّة “الرَّجعيَّة” المسؤولة عنها، وتطبيق نظام اشتراكي متكامل في كافَّة الدُّول العربيَّة من شأنه تحقيق الوحدة وهزيمة المحتل، معتبرًا أنَّ معالجة النَّكبة اشترط “قيام نُظُم اشتراكيَّة ثوريَّة” (ص63). ويردُّ كشك على ذلك بنفيه أن تكون الاشتراكيَّة أثمت عن أيِّ وحدة بين الشُّعوب، لا في حالة الصِّين وروسيا، ولا في أيٍّ من دول المعسكر الشَّرقي الشُّيوعي؛ بل تحقَّقت الوحدة خارج نطاق الاشتراكيَّة بين مصر وسوريا، وبين العراق والأردن الهاشميتين.

السبيل الوحيد لمواجهة الغزو الصُّهيوني

يعتقد محمَّد جلال كشك أنَّ هزيمة يونيو 1967م قد أثبتت 3 حقائق غُيِّبت الجماهير عن إدراكها، وهي أنَّ الغزو الصُّهيوني هو العدو الأوَّل للأمَّة المسلمة، والتَّهديد الأكبر على وجودها؛ وأنَّ ذلك الخطر القومي الصُّهيوني من الضَّروري مواجهته بتشكيل جبهة عربيَّة تضمُّ كافَّة القوى الوطنيَّة بعد أن تترفَّع عن اختلافاتها الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة؛ وأنَّ وحدة العالم الإسلامي هي السَّبيل الوحيد لمواجهة الحملة الصَّليبيَّة الغربيَّة التي تنال من سمعة الإسلام وتنادي بتقتيل المسلمين نُصرةً لليهود، ويضرب كشك المثل في ذلك بخروج مظاهرات في باريس تنادي “قاتلوا المسلمين”، بعد انتشار مزاعم بأنَّ جيران إسرائيل من البلدان المسلمة تشكِّل تهديدًا على أمنها وتجبرها على محاربتها (ص72). يعارض كشك ما ردَّده نديم البيطار في كتابه من النَّكسة إلى الثَّورة (1968م) عن ضرورة تحرير العالم العربي من الأنظمة الرَّجعيَّة، وبخاصَّة في الجزيرة العربيَّة، وإنهاء سيطرتها على منابع الثَّروة النَّفطيَّة. أراد البيطار استمرار شقِّ الصَّف العربي من خلال التَّصارع بين الأنظمة الاشتراكيَّة، التي كان الرَّئيس الأسبق جمال عبد النَّاصر مؤيِّدها الأكبر، والأنظمة الرَّأسماليَّة في منطقة الخليج، برغم أنَّ السُّلطة المصريَّة اعترفت بخطأ “استراتيجيَّة تحرير الجزيرة العربيَّة”، بإشعال ثورة اجتماعيَّة تطيح بمشايخ النَّفط (ص84).

هل استمرار الأنظمة العسكريَّة الاشتراكيَّة هو الحل؟

يجدر التَّذكير بأنَّ خلاف عبد النَّاصر مع الأسرة الحاكمة السَّعوديَّة بدأ تأييد عبد النَّاصر انقلاب القائد العسكري عبد الله السَّلال على الإمام محمد البدر بن حميد الدين، آخر حُكَّام المملكة المتوكليَّة اليمنيَّة، في 26 سبتمبر 1962م، وإعلانه الجمهوريَّة اليمنيَّة في سبتمبر من العام ذاته. من هنا، اشتعلت حربٌ في اليمن، ساند فيها النظام الاشتراكي في مصر النظام الجمهوري، بينما دعَّمت ممالك النَّفط النظام البائد؛ وقد تسبَّب مشاركة مصر في حرب اليمن في استنزاف العتاد العسكري والطَّاقات البشريَّة، وأسهم ذلك في هزيمة الجيش المصري في حرب يونيو 1967م، وفق ما أخبر عنه المؤرِّخ الإسرائيلي مايكل في كتابه ستَّة أيَّام من الحرب: يونيو 1967 وصناعة الشَّرق الأوسط الجديد (2002م). ويذكِّر كشك أنَّ تحرير النَّفط العربي يبدأ بـ “استرداد آبار سدر في سيناء، والأنابيب التي تمرُّ في الجولان المحتلَّة”، ومن المفارقات أنَّ سوريا البعثيَّة الاشتراكيَّة تعهَّدت بمنع أيِّ نشاط فدائي ضدَّ أنابيب ضخِّ النَّفط إلى مرتفعات الجولان المحتلَّة، كأنَّما أتاح النظام البعثي للمحتل أن يستوفي حاجته من الثَّروة النَّفطيَّة العربيَّة (ص94). ويواصل كشك دحضه مزاعم البيطار بأنَّ الأنظمة العسكريَّة التي قامت على أنقاض الدَّولة العثمانيَّة في العالم العرب تقدُّميَّة وعادلة في توزيع الثَّروة، مشيرًا إلى أنَّ معاناة تلك الأنظمة من مشكلات اقتصاديَّة ناتجة عن انعدام سُبل تطبيق التقنيات الحديثة في تحسين الإنتاج المحلِّي، ويردِّد كشك مُزحة انتشرت في أعقاب عدوان 5 يونيو، تقول “أنَّ طيَّارًا إسرائيليًّا ضرب مصنعًا عربيًّا في دولة ((تقدُّميَّة)) فعوقب في إسرائيل لأنَّ المصنع يخسر مليون جنيه في السَّنة!” (ص107). أمَّا عن قول البيطار عن العدالة في توزيع الثَّروة في الأنظمة العسكريَّة، فيأتيه ردُ كشك كما يلي (ص107):

وليس عند الانقلابيين توزيعٌ عادلٌ للثَّروة إلَّا إذا قصدنا بين كبار العسكر، وحتَّى هذا ليس عادلًا تمامًا…بل وفقًا لحجم مراكز القوى. أمَّا ثروات البلاد، فقد نُهبت بُدّدت وهرّبت إلى الخارج…

يواصل كشك تحديده دور الأنظمة القائمة في الهزيمة أمام دولة الكيان الصُّهيوني، بإشارته إلى عجز تلك الأنظمة، أثناء سلبها خيرات البلاد وخلْع الامتيازات على خاصَّة رجالها، عن إعداد جيش قوي يدافع عن وطنه؛ “لأنَّ مثل هذا الجيش يفترض قيادة سياسيَّة مخلصة ونزيهة في نفس الوقت، أو على الأقل قادرة على أن تقدِّم للجنود فلسفة تقنعهم بالموت دفاعًا عن السُّلطة التي تتمتَّع بالامتيازات” (ص108). وينتقد كشك طبقة المتسلِّطين من القادة العسكريين بمزيد من كلامه اللاذع (ص109):

ولأنَّ طبقة العسكريين، هذه بلا مبرّر تاريخي، فهي عاجزة عن تقديم مثل هذه الفلسفة، ومن ثمَّ كان من المنطقي والطَّبيعي أن يتطلَّع كلُّ ضابط لأن يحلَّ محلَّها، ويتمتَّع بما تتمتَّع هي به ما دام الأساس الوحيد الَّذي تبرّر به وجودها هو استنادها إلى الدَّبَّابات في مواجهة خصومها بالدَّاخل…ومن هنا كان فزع هذه الارستوقراطيَّة العسكريَّة من قوَّة جيشها، وحرضها على تجريده من كلّ ضابط له شخصيَّة استقلاليَّة أو طموح…وهؤلاء الضُّبَّاط بالذَّات هو الَّذين يجيدون القتال.

ويذكِّر كشك بما تردَّد عن امتناع الطَّيران السُّوري عن أداء مهامه القتاليَّة في اليوم الخامس للحرب، ممَّا أسفر عن سهولة سقوط مدينة القنيطرة الواقعة على هضبة الجولان دون قتال، بعد أن لاحظ العدوُّ الإسرائيلي انسحاب القوَّات البريَّة من المدينة، كما أخبر كتاب ستَّة أيَّام من الحرب (ص510). أمَّا عن تبرير ذلك التقاعُس، فقد كان خوف الحكومة من انقلاب عسكري للجيش، ولا يوجد حلٌّ يطمئن الحكومات العسكريَّة سوى زرْع قيادات داخل الجيش تدين لها بالولاء للتَّصدِّي لأيِّ انقلاب في وقت مبكِّر. ونتيجة تشكيل تلك التنظيمات داخل الجيش، كما يقول كشك، “سمعنا بتنظيم شمس بدارن، وتنظيم المشير، وتنظيم…”؛ وشمس بدران هو وزير الحربيَّة الموالي للمشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للجيش، وقد وقف بدران “يتبجَّح في المحاكمة بأنَّه يستطيع أن يقوم بانقلاب من منزله“، وهنا يعلِّق كشك بتساؤله “لماذا يعجُّ الجيش بالتَّنظيمات التي يراقب بعضها بعضًا؟”، ولا ردًّا مناسبًا سوى أنَّ وجود صراع داخلي على السُّلطة بين قيادات الجيش، حامي الوطن من العدوان، وهو ما أُطلق عليه “مراكز القوى” (ص110).

تشويه الإسلام من بين استراتيجيَّات الهدم

يشير المفكِّر الإسلامي إلى تبجُّح اليهود إلى درجة هتافهم في المسجد الأقصى بسقوط الإسلام، كما أخبرت تسجيلات قدَّمتها حركة فَتَح إلى مؤتمر علماء المسلمين بالقاهرة في أكتوبر من عام 1968م، وإلى تأكيد ذلك على يقين اليهود بأنَّ الإسلام هو الخصم الأكبر والتَّهديد الأعظم لحُلم تأسيس مملكة الدَّجَّال العالميَّة من القُدس. أمَّا عن موقف دُعاة العلمنة من أنصار الاشتراكيَّة، فهو تأييد هتاف اليهود بدعوات صريحة للثَّورة على الإسلام تحمل شعار “التَّخلُّف سببه الإسلام…والتَّقدُّم يبدأ بنبذ الإسلام” (ص116). لا يخشى الغرب أكثر من إعلان الجهاد في سبيل الله تعالى، حتَّى أنَّ الكلمة صارت مدرجة في المعاجم الأعجميَّة وتُكتب “Jihad” (ص116). وعبثًا حاول السُّلطان عبد الحميد الثَّاني (1876-1909م) في أواخر عهده استصراخ المسلمين ليهبُّوا في مواجهة الزَّخف الاستعمار الغربي، ولا شكَّ في أنَّ الرُّكون إلى الدُّنيا والانشغال عن الآخرة بالتَّصارع على السُّلطة والمال هو السَّبب الأساسي وراء تمكُّن الاستعمار من بلاد الإسلام وإذلاله المسلمين، ولا تعليق على ذلك أبلغ قولًا من قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [سورة التَّوبة: 38].

يتطرَّق كشك إلى خذلان الحلفاء غير المسلمين من القوى الاستعماريَّة حلفاءهم من زعماء الأنظمة الاشتراكيَّة، مذكِّرًا بموقف الاتحاد السُّوفييتي، مدَّعي الشُّيوعيَّة ومبطن الإيمان بعقيدة مخلِّص بني إسرائيل، ويعلِّق على ذلك بقوله “احتمال نزول ملائكة مسوِّمة مع جيش البعث السُّوري، أقرب للتَّصديق من تأييد الاتحاد السُّوفييتي لنا إلى حدِّ الانتصار على إسرائيل” (ص123). ويشدِّد كشك على أنَّ العتاد العسكري ليس هو القادر على حسْم الصِّراع، بل بالتَّمسُّك بالإيمان والعودة إلى صحيح العقيدة والابتعاد عن الفكر الغربي ونبْذ الأفكار الدَّخيلة على الإسلام يكفل الحسم. ومن المفارقات الدَّاعية للذُّهول أنَّ الإعلام العبري يسلِّط الضوء على تمسُّك قادته بدينهم، وينقل كشك عن بعض تلك الصُّحف ما نشرته من عناوين على لسان زعيم الصُّهيونيَّة الأهم خلال القرن العشرين، دافيد بن غوريون، من بينها دعوته للعضِّ على الدِّين بالنَّواجذ “على إسرائيل أن تتمسَّك بمبادئ أنبياء العبرانيين القدامى”، وتنبُّئه عن مستقبل إسرائيل المستمد من نبوءات العهد القديم، بقوله “إسرائيل ستحقِّق وجودها عندما تصبح ‘كسارية على رأس جبل’ بالنِّسبة للأمم”، عملًا بنبوءة النَّبي اشعياء (ص127). ويتعجَّب كشك من موقف دُعامة العلمنة، ومن بينهم نديم البيطار، من الإسلام، بينما لم يعلِّقوا على تمسُّك اليهود بدينه، بقوله (ص128):

لماذا لا يفضي إيمان بن غوريون بضرورة التزام اليهود بتعاليم الأنبياء؟ لماذا لا يفضي ذلك إلى هزيمة إسرائيل، ولا يثير سخرية المنتصرين هناك، المنتصرون بأحدث ما وصَل إليه العلم المادّيّ…بينما يكون من حظّنا نحن أن نُرزأ بعلمانيَّة الَّذين لا يعرفون حتَّى قيادة سيَّارة، ولكنَّهم يسخرون من منهزمين، يحاولون تلمُّس النَّجاة بالعودة إلى تعاليم نبيّهم؟!

لا يجد المفكِّر الإسلامي في الدَّعوة إلى العلمنة ونبْذ الإسلام سوى محاولة لإجهاض أيِّ محاولة حقيقيَّة لإنهاض الأمَّة المسلمة من كبوتها واتِّخاذ موقف جدِّيٍّ في مواجهة الاستعمار الغربي بكافَّة أشكاله، النَّاعمة، بالغزو الفكري وتحريف القيم المتوارثة، والصَّارمة، بالاحتلال والعدوان العسكريين. يتَّخذ أعداء الإسلام من اعتناق الماركسيَّة ستارًا لهم؛ لتبرير محاربتهم للدِّين بحجَّة وقوفه في طريق التَّقدُّم بالانفتاح على الغرب، وبزعم أنَّه أحد أشكال الاستغلال الممارَس من خلال استئثار الحاكم وفق الشَّريعة بالسُّلطة الدِّينيَّة التي تبرِّر تصرُّفاته وتجعلها محصَّنة من أيِّ نقْد. غير أنَّ دعاة العلمنة والإلحاد عجزوا عن تأجيج ثورة عربيَّة ماركسيَّة ملحدة، في تأكيد على أنَّ المجتمعات العربيَّة، مهما انحرفت عن صحيح دينها وطبَّقت قيم الغرب، فهي لم تتخلَّ عن إسلامها بالكليَّة، مما يعن أنَّ “أيَّ محاولة لتلقيح الثَّورة العربيَّة بلقاح الفكر الغربي…محكومٌ عليها بالإعدام” (ص167). العقيدة الإسلاميَّة، أو لتقل عقيدة الدِّين السَّماوي الحقِّ المنزَّل على كافَّة الأنبياء، الآمرة بالتَّركيز على عمل الآخرة والمحقِّرة من شأن الدُّنيا ومتاعها “الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ” (سورة التَّوبة: الآية 38)، هي وحدها القادرة على تحريك همم النَّاس ودفعهم إلى الانتفاض على الذُّل والهوان، وحماية مقدَّساتهم الدِّينيَّة، وعلى رأسها المسجد الأقصى، الذي يُراد تحويله إلى كنيس لممارسة طقوس شيطانيَّة محسوبة زورًا على أنبياء بني إسرائيل. ويجد كشك في “المغرَّر بهم” من عملاء الاستعمار الغربي في محاولتهم اقتلاع الإسلام من جذوره وكأنَّما حاولوا “مناطحة الصَّخر”؛ فانفلقت رؤوسهم بفشل مساعيهم مهما بدا خلاف ذلك، “وبقيت صخرة الإسلام شامخة” (ص198). ويقتبس كشك عن المفكِّر التُّركي عمر أزجان قوله (ص198):

إنَّ رفْض الأيديولوجيَّة الإسلاميَّة في بلاد مستعمرَة، يُضطهَد فيها دين الأكثريَّة السَّاحقة لسكَّانها، هو مجرَّد تظاهُر بتحضُّر مزيَّف، تنادي به فئة منفصلة عن الشَّعب، غريبة الحياة والفكر، امتَّصتها أو شلَّتها أيديولوجيَّة العدو المستعمِر.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى