كتب وبحوث

هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلًا شرعيًّا يستنبط منه حكم شرعي؟

 إعداد: الباتول أيت سملال.

التمهيد:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فعند اطلاعي على مجموعة مصادر، وتتبُّعي لأقوال العلماء القدامى منهم والمعاصرين، وجدتُ أنَّ هذه المسألة، رغم أنها قد نوقشت، وكَتب فيها الكثير من العلماء، فهي في عصرنا الحالي صارت مسألة محسومةً، ولم يعد هذا السؤال يستحق عناء الباحث وجهوده، ما دامت هذه القواعد يعمل بها وصارت أصل الفتاوى لدى كل المذاهب.

لكنْ هناك أمر آخر يتعلَّق بالقواعد الفقهية، هو في نظري أكثر أهميَّة من هذه المسألة؛ لأنها قد حسمت فعلًا، وهو مدى استيعاب القواعد الفقهية للنوازل المعاصرة، ونص الدكتور الميمي في كتابه “واقع الأقليات الإسلامية” يؤكِّد ما ذهبتُ إليه؛ إذ يقول: (لم يقصد العلماء المتقدمون من دراسة القواعد الفقهيَّة مع كثرة تصانيفهم تأصيلًا وتفريعًا، مجرَّد رياضات العقول بإنفاق الأعمار في جمعٍ مجرد للأحكام الفقهية فحسب؛ بل كان من المسلَّم عندهم أن تلك الغاية الفائقة إنما تنطلق من اعتبارهم أحقية القواعد الفقهية لأن تكون أدلَّة تساعِد في تحصيل أحكام الفروع وتتخرَّج عليها الحوادث والنوازل غير المنصوص عليها شرعًا، فتكون الغاية من ذلك حجيَّة الاستدلال بها)[1].

وقبل عرض هذا الأمر للنقاش لا بد أولًا من استقراء كلام العلماء في حجيَّة القواعد الفقهية والاستدلال بها، وعرض نتيجة هذا الاستقراء؛ حتى يتم البناء على الأساس.

أقوال من يعتبر القاعدة الفقهية دليلًا:

يرى بعضُ العلماء أنَّ القاعدة الفقهية تعتبر دليلًا يُحتجُّ به إذا كان لهذه القاعدة أصل من الكتاب أو السنة، أو مبنية على أدلَّة من الكتاب والسنَّة وواضح الأخذ منهما، أو معبرة عن دليل أصولي أو كونها حديثًا ثابتًا مستقلًّا.

♦ ومن هذه القواعد نجد قاعدة: “الأمور بمقاصدها”، فالاحتجاج بها نابع من الاحتجاج بأصلها؛ وهو حديث: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات))[2]، ونجد نفس الأمر بالنسبة لقاعدة: “اليقين لا يزول بالشك”، و”لا ضرر ولا ضرار”، و”البينة على المدَّعي واليمين على من أَنكر”، و”العادة محكَّمة”؛ اعتبرت هذه القواعد الخمس قواعد كبرى وبمثابة أدلَّة شرعية، وهناك من العلماء من يضيف عليها قاعدة “الخراج بالضمان”.

وهي قواعد متَّفَق على حجيَّتها والاستدلال بها، ولا يحق للمفتي أن يعارِضَها في فتواه؛ وهذا ما صرَّح به الإمام القرافي من أنَّ حكم القاضي ينقض إذا خالَف قاعدةً من القواعد السالمة عن المعارضة[3].

ويقول الدكتور السدلان: “والحق أنَّنا إذا استثنينا القواعد التشريعيَّة التي مبناها وأساسها على أدلَّة من الكتاب والسنَّة، فلا يصح الرجوع إلى هذه القواعد وحدها فقط دون نصٍّ آخر أو عام يشمل بعمومه الحادثة المقضي فيها؛ لأنَّ تلك القواعد على ما لها من قيمة واعتبار كثيرة المستثنيات وأحكامها أغلبيَّة غير مطردة”، ويضيف في نفس الصفحة: “ولهذا؛ فإنَّ هذه القواعد تعتبر دساتير للتفقه لا نصوص للقضاء”[4]، وهذا أيضًا ما قصده الإمام القرافي بقوله: (فإنَّ القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه؛ بل للشريعة قواعد كثيرة جدًّا عند أئمَّة الفتوى والقضاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا)[5].

إذًا؛ المختلف في الاستدلال بها هي تلك القواعد التي لها أحكام أغلبيَّة وكثيرة المستثنيات، وهي كثيرة عند أئمَّة الفتوى والقضاء، وهذا ما استنتج من النصَّين معًا، وهذا أيضًا هو المعتبر عند مَن لا يقولون بحجيَّة القاعدة.

أقوال من لا يعتبرون القاعدة الفقهية دليلًا:

وأمَّا إذا استعرضنا نصوصَ القائلين بعدم جواز الاستدلال بالقواعد الفقهية، فإنَّ أول ملاحظة أوقفتني وأنا أتتبَّع هذه النصوص في بعض كتب القواعد الفقهية خصوصًا، هي أنَّني أجد النصوص نفسها المستشهد بها عندهم وعلى قلَّتها، وهي نصُّ الإمام القرافي الذي سبق أن أشرتُ إليه، ونص ابن نجيم، وتقرير مجلَّة الأحكام العدلية، ولا بد أولًا من استعراض بعض نصوص أصحاب هذا القول؛ لنرى هل آراؤهم يقصد بها القاعدة الفقهية الكلية أم أمر آخر؟

♦ قال ابن نجيم في الفوائد الزينية، كما نقله عنه الحموي في غمز عيون البصائر: (لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط؛ لأنَّها ليست كليَّة بل أغلبية، خصوصًا وهي لم تثبت عن الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه)[6].

إنَّ ابن نجيم لا يجوِّز الفتوى بالضابط وليس بالقاعدة؛ لأنَّه لم يذكر لفظ القاعدة، وحتى مفهوم الضابط عنده لم يعتبره كليًّا بل اعتبره أغلبيًّا، فاعتراضه هذا ليس على الاستدلال بالقاعدة ككل، حتى نَعتبره من المعارضين للاستدلال بالقواعد الفقهية، وإنَّما حدَّد أنها ضوابط استخرجها المشايخ من أقوال أئمَّتهم، داخل المذهب؛ وهذه مسألة خاصَّة.

♦ وهناك قول آخر حول هذا النصِّ، وهو ما ذكره الدكتور الباحسين في كتابه القواعد الفقهية: (ولم أعثر على ذلك في القواعد الزينية المشار إليها، والبالغة 225 فائدة)[7]؛ إذًا لا وجود لهذا النصِّ أصلًا.

♦ أمَّا تقرير مجلَّة الأحكام العدلية، فجاء فيه ما يلي: (فحكام الشرع ما لم يَقفوا على نقل صريح لا يَحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد، إلَّا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل، فمَن اطَّلع عليها من المطالعين بضبط المسائل بأدلَّتها، وسائر المأمورين يرجعون إليها في كلِّ خصوص، وبهذه القواعد يمكن للإنسان تطبيق معاملاته على الشَّرع الشريف أو في الأقل التقريب)[8].

♦ وفي مادة أخرى في المجلة اعتبروا ذِكر القواعد موجبًا للاستئناس فقط، يقول مصطفى الزرقا وهو يشرح ما جاء في المجلة: (ولذلك كانت تلك القواعد الفقهية قلَّما تخلو إحداها من مستثنيات في فروع الأحكام التطبيقية خارجة عنها؛ إذ يرى الفقهاء أنَّ تلك الفروع المستثنيات من القاعدة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، أو أنها تستدعي أحكامًا استحسانية خاصة، ومن ثمَّ لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكليَّة فقط دون نص آخر خاص أو عام يشمل بعمومه الحادثةَ المقضي فيها؛ لأنَّ تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة واعتبار هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه لا نصوص للقضاء)[9].

فهذه النصوص، تفيد بأنَّه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلَّة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:

1 – أنَّ هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها.

2 – أنَّ معظم هذه القواعد لا تخلو من المستثنيات.

ولكن تعتبر شواهد يستأنس بها في تخريج الأحكام للوقائع الجديدة قياسًا على المسائل الفقهية المدونة.

مناقشة هذا الرأي:

إنَّ هذا الذي قالوه لا يعتبر على إطلاقه؛ لأنَّ القواعد الفقهية تَختلف من حيث أصولها ومصادرُها أولًا.

وثانيًا: من حيث وجودُ الدَّليل على حكم المسألة المبحوث عنها.

(فإذا كانت القاعدة نصًّا قرآنيًّا كريمًا فهي قبل أن تكون قاعدة أو تجري مجرى القواعد فهي دليل شَرعي بالاتفاق، فهل إذا جرى النصُّ القرآني مجرى القاعدة خرج عن كونه دليلًا شرعيًّا معمولًا به، ولا يجوز تقديم غيره عليه؟)[10].

ومثال ذلك قوله عز وجل: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، فهذه الآية تصلح أن تكون قاعدة تَشمل أنواعَ البيوع المختلفة، وأيضًا المسائل الخاصَّة بالرِّبا، ونفس القول بالنسبة للسنَّة؛ مثل حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) و(الخراج بالضمان).

ويضيف الأستاذ البورنو: (إنَّ من القواعد ما كان أصله من كتاب الله سبحانه وتعالى أو من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون مبنيًّا على أدلَّة واضحة من الكتاب والسنَّة المطهرة، أو مبنيًّا على دليل شرعي من الأدلَّة المعتبرة عند العلماء، أو تكون القاعدة مبنية على الاستدلال القياسي وتعليل الأحكام)[11].

فما كان أصله كتابًا أو سنة يُحتج به، وأمَّا إذا كانت القاعدة مبنية على دليل شرعي من الأدلَّة التي اختلف فيها، فيجب الرجوع إلى الأدلَّة المتفق عليها لنبحث عن حكم يستأنس بالقاعدة، أو ننظر إلى الدليل الذي بُنيت عليه القاعدة لنبحث للمسألة عن حكم بموجبه عند مَن يعتبرونه دليلًا.

 (وينبغي أن يبين هنا أنَّ عدم جواز استناد القاضي أو المفتي إلى إحدى القواعد الفقهية وحدها، إنَّما محله فيما يوجد فيه نصٌّ فقهي يمكن الاستناد إليه، فأمَّا إذا كانت الحادثة لا يوجد فيها نص فقهي أصلًا لعدم تعرُّض الفقهاء لها، ووجدت القاعدة التي تشملها، فيمكن عندئذ استناد الفتوى والقضاء إليها، اللهمَّ إلا إذا قطع أو ظنَّ فرق بين ما اشتملت عليه القاعدة وهذه المسألة الجديدة)[12].

أمَّا إذا لم يوجد دليل شرعي لمسألةٍ ما ووجدت قاعدة فقهية تشملها، فالمعروف أنَّ القاعدة استنبطها العلماء من النصوص أو القواعد العامَّة للشريعة، أو بناء على مصلحة رأوها أو عُرف اعتبروه أو استقراء، وبناء على هذه الأمور فإنَّ على المجتهد أو المفتي أن يدرك ويحيط بكلِّ قاعدة ومن أين استنبطت وما يُستثنى منها؛ حتى لا يفتي بعكس ما يريد، وهناك من العلماء من وضع شروطًا وضوابط للتعامل مع القاعدة، حتى يتم الجمع بين مَن لا يقولون بالاستدلال بها ومن يقولون بها.

شروط الاستدلال بالقاعدة الفقهية وضوابطها:

أمَّا شروط الاستدلال بالقواعد الفقهية، كما ذكرها الأستاذ الميمي، فهي:

1- إذا وافقت القاعدة الفقهية نصًّا شرعيًّا معتبرًا فالقاعدة حجَّة، سواء أطابقت القاعدة لفظ النصِّ أم طابقت معناه، شريطة أن يكون اللفظ الشرعي معتبرَ الدلالة؛ بحيث لا تكون الآية منسوخة أو الحديث ضعيفًا؛ وهذا محلُّ اتفاق.

2- إذا بُنيت القاعدة على الاستقراء التام فالقاعدة حجَّة، تبعًا لقوة دلالة الاستقراء؛ وهذا أيضًا محلُّ اتفاق بين العلماء.

3- وإذا بُنيَت على القياس؛ فهي حجَّة كذلك تبعًا لاعتبار حجَّة القياس كدليل إجمالي[13].

وأمَّا الضوابط التي يجب توفرها عند الاستدلال بالقاعدة الفقهية، والتي وضعها علماء الأصول حتى لا يَبقى القول على إطلاقه، ويسلم الاستدلال من الانحراف، فهي كالتالي:

1- أن تكون القاعدة الفقهيَّة المستدل بها على الفروع مما صحَّ فيها الاستقراء، مهما قيل في مسألة الاستقراء؛ فكلما قوي الأصل قوي الاحتجاج بها.

2- عند وجود تعارض بين النصِّ والقاعدة الفقهية، تأخَّرت القاعدة؛ لأنها دليل تبعي، شأنها شأن سائر الأدلَّة المختلف فيها، ولا يصار إليها إلا عند الضرورة؛ أي: انعدام ما هو أعلى منها رتبة.

3- مطابقة الفرع المراد الحكم عليه مع القاعدة الفقهية المستند عليها؛ (فإنَّ ضابط الفروع في القاعدة الفقهية ما اتَّحد صورة وحكمًا، فإذا تخلفتْ صورة الفرع عن نظائره لم يصحَّ إلحاقه بحكمها الكلي الفقهي)[14]، مثال ذلك: الخطأ أحيانًا في تحديد طرفي اليقين والشك لفرع يراد الاستدلال عليه بالقاعدة الفقهية: (اليقين لا يزول بالشك)، “فلا بدَّ للمستدل بالقاعدة الفقهية من أن يكون بصيرًا ذا فهم سديد بكلِّ من الطرفين معًا؛ وهما القاعدة الفقهية المستدل بها، والفرع المراد تخريجه عليها، ثمَّ يضبط أحدهما على الآخر”[15].

4- الناظر في عمليَّة الاستدلال وإلحاق الفرع بالقاعدة الفقهيَّة، يتطلَّب فيه الوعي والعلم بكثير من الاجتهاد والتدريب في استنباط الأحكام من أدلَّتها، وكذلك الفهم الدقيق للقواعد الفقهية.

الخلاصة:

إنَّ العلماء لم يختلفوا في حجيَّة القواعد الفقهية الكبرى والاستدلال بها، وإنَّما اختلفوا فقط في الاستدلال بالقواعد الفرعيَّة والضوابط، وهذا الأمر له علاقة بطريقة التنزيل للقاعدة، وأيضًا مدى سعة النظر عند المجتهد.

أمَّا بالنسبة لواقعنا المعاصر، هناك مستجدَّات قد لا نجد لها قاعدة للحكم فيها، فلماذا لا يتم استنباط قواعد أو ضوابط جديدة على غرار ما فعله علماؤنا القدامى؟! مثلًا في مسألة التدخين أو قانون السير… والأمثلة كثيرة؛ حتى يَستطيع المفتي الرجوعَ إليها كقاعدة يَبني عليها فتواه بدلًا من البحث في كلِّ مرة في أمَّهات الكتب، وقد لا يجد، خصوصًا إذا لم يكن قد تلقَّى تكوينًا أصوليًّا مقاصديًّا!

المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.

2- “فتح الباري شرح صحيح البخاري”؛ لابن حجر العسقلاني.

3- فقه الأقليات المسلمة بين النظرية والتطبيق”؛ لعبدالعاطي الميمي.

4- “الفروق”؛ للإمام القرافي.

5- “القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها”؛ لغانم السدلان.

6- “غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر”؛ لمحمد الحموي.

7- مجلة الأحكام العدلية مع شرح علي حيدر المسمى: “درر الحكام شرح مجلة الأحكام”.

8- “موسوعة القواعد الفقهية”؛ د. أحمد البورنو.

9- “المدخل الفقهي العام”؛ د. أحمد الزرقا.

10- “الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية”؛ د. أحمد البورنو.

11- “القواعد الفقهية – مفهومها، نشأتها، تطورها، دراسة مؤلفاتها، أدلتها، مهمتها، تطبيقاتها”؛ علي أحمد الندوي.

12- “إعلام الموقعين”؛ لابن القيم.

———————————-

[1] فقه الأقليات المسلمة، ص (265).

[2] رواه الستة، فتح الباري ج 1، ص (12).

[3] الفروق، ج 4، ص (4)؛ بتصرف.

[4] القواعد الفقهية الكبرى وما تفرع عنها، ص (38).

[5] الفروق ج 2 ص (11).

[6] غمز عيون البصائر ج 1، ص (38).

[7] القواعد الفقهية (267).

[8] مجلة الأحكام العدلية ص (15).

[9] المدخل الفقهي العام ج 2 ص (934).

[10] الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية ص (40).

[11] موسوعة القواعد الفقهية ص (46).

[12] القواعد الفقهية ص (331).

[13] فقه الأقليات المسلمة ص (265).

[14] واقع الأقليات الإسلامية ص (267).

[15] إعلام الموقعين ج 1 ص (87).

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى