كتب وبحوث

نظام التوارث بين المسلم وغير المسلم

اسم البحث: نظام التوارث بين المسلم وغير المسلم

إعداد: محمد والقاضي.

إن فقه الأقليات أصبح ضرورة ملحَّة يحتاج إلى مجتهدين، يُعيدون قراءة النصوص الشرعية قراءة جديدة بشكل أعمق؛ ليُلبُّوا متطلبات الأقليات الإسلامية، وبناء على ذلك، ارتأيتُ أن يكون عنوان هذه الدراسة “حكم التوارث بين المسلمين وغير المسلمين”، وهو أحد فروع فقه الأقليات المسلمة.

 وقد تناولتُ هذه الدراسة؛ آملًا أن أبيِّن حُكم التوارث بين المسلمين وغيرهم، تحت ضوء الرُّؤية الشرعية.

 الأسباب والدوافع:

منها: انتشار الزواج المختلط بين المسلمين وغيرهم.

 ومنها: تقديم صورة جليَّة عن موقف الإسلام، بعيدًا عن التحيُّز والعاطفة، وفتح باب الدخول إلى الإسلام لمن له إرادة ورغبة في اعتناقه، وليدركوا أن الإسلام لا يقف حجَر عثرة في وجهِ أحد، حيث يحرمه من إرث ممتلكات وليِّه، ومنها اختيار الرأي القوي، الذي يتَلاءم مع المغتربين، مستنِدًا في ذلك إلى النصوص الشرعية، واجتهادات بعض علماء الإسلام.

 منهج البحث:

لقد اخترتُ في هذه الدراسة المنهج الاستقرائي، والتحليلي، والنَّقدي، وفي نهاية المطاف أستنتج الراجح حسبما توصلتُ إليه من خلال الأدلة التي توجد بين يدَيَّ، واجتهاداتِ الباحثين، دون تبنِّي أيِّ مذهب من المذاهب، أو رأي أيِّ عالم من العلماء، بل أقرر ما أطمئن إليه تحت ضوء النصوص، بعيدًا عن التعصب والحماسة والعاطفة.

خطة البحث:

ينحصر هذا البحث في مقدمة، وتمهيد، ومبحث، وخاتمة.

المقدمة، وفيها: عنوان البحث، وأسبابه ودوافعه، ومنهج البحث، وخطة الدراسة.

التمهيد، وفيه: شرح مصطلحات البحث.

 المبحث الأول: بيان اختلاف الدين في حكم التوارث.

وفيه تمهيد، ومطلبان:

تمهيد عام.

المطلب الأول: حكم إرث غيرِ المسلم المسلمَ.

المطلب الثاني: إرث المسلم غير المسلم.

الخاتمة: بيان بعض النتائج.

 ——————–

تمهيد

مصطلحات البحث

وأقسام غير المسلمين

إن النَّظرة إلى غير المسلمين الذين يتعايشون معًا في كثير من الدول، سواء أكانت دولة عربية إسلامية، أم دولة ليست إسلامية، يجب أن لا تكون نظرة واحدة لدى الباحثين، ولا ينبغي أن يصنِّفوهم في خانة واحدة، والحالة أنهم متباينون، حسبما هو مقرَّر لدى علماء الفقه والشريعة الإسلامية؛ لأنهم نظروا إليهم نظرة مختلفة، مراعاة لبعض الاعتبارات والفوارق، ومن ثَم صنَّفوهم أصنافًا عديدة، منها:

الحربي: وقد عرَّفه بعضهم بأنه: غير المسلم الذي يوجد بين المسلمين، ودولته دولة حرب وعداء، وليست دولة هدنة، أو معاهدة أمن وصداقة[1].

 ثانيًا – الذِّمِّيون: ويعرف الذميُّ عند الفقهاء بأنَّه مَن يعيش تحت ظل الدولة الإسلامية، وبينه وبين المسلمين عهدٌ واتفاق، والذِّمة تَعني لغة: العهد والأمان، وبموجِب عقد أمان وهدنة تتحمَّل الدولة الإسلامية مسؤولية حماية المعاهدين، وحمايتهم من كل ما عسى أن قد يَلحَقهم من أي جهة ما، مقابل دفع راتب تفرضه الدَّولة الإسلامية كضريبةٍ، والمصطلح عليها بـ(الجزية)، ومعناها: الجزاء على ما تتكفَّل به الدولة الإسلامية من رعايتهم وتأمينهم، وإعطائهم حقوقهم كاملة، بل وإقرارهم على عقيدتهم التي هم عليها، ولا حقَّ لأيِّ أحد أن يُنازعهم في دينهم، ويفرض عليهم أيَّة سلطة لاعتناق الإسلام.

 ثالثًا – المعاهدون: وهم الذين يسكنون ببلادهم، وبينهم وبين المسلمين صلح وعهد وهدنة، وتربط بينهم مجموعة من المصالح المشتركة، بمقتضى المعاهدة، وتسمح لهم بالزيارات والانتقال بحرية كاملة ضمن شروط المعاهدة، وفي التنزيل: ﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنفال: 61].

 رابعًا – المستأمنون: وهم غير المسلمين الوافدين إلى بلاد المسلمين دون أن يستوطنوها، ومن بين هؤلاء: السفراء وحاملو الخطابات الرسمية، واللاجئون الذين فرُّوا من الظُّلم والاستبداد، وطلبة العلم، والسياح[2].

 الإسلام لغة: التَّسليم والانقياد. وفي الشَّرع: الدِّين الإلهي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم متضمِّنًا شريعة الإسلام، التي شملت تنظيم العقيدة والأخلاق، والمعاملات[3].

 الدِّين: وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قَبول ما أتى به رسولُ الله[4].

 الدَّيْن لغة: يطلق الدَّيْن بسكون الياء، على كل شيء غير حاضر، قال أبو عبيد: الدَّيْن: واحد الدُّيون، تقول: دنت الرجل: أقرضته، فهو مَدين ومديون[5].

 الإرث: لغة: يطلق على معنيين:

أولهما: البقاء، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، ومعنى “الوارث”: أي الباقي بعد فناء الكون[6].

ثانيهما: انتقال الشيء من ناس إلى ناس آخرين، سواء أكان الشيء المنقول ماديًّا، أم معنويًّا[7].

المورث: الميِّت الذي ترك مالًا، أو حقًّا[8].

الوارث: من يستحق حصَّته من التركة، وإن لم يأخذها فعلًا، كالمحروم والمحجوب[9].

التَّركة: ما يتركه الميِّت من الأموال[10].

الوصيَّة: تمليك مضاف إلى ما بعد الموت[11].

الحكم لغة: القضاء، وعند الأصوليين: خطاب الله تعالى المتعلِّق بالمكلَّفين[12].

  • • •

 المبحث الأول

اختلاف الدِّين وأثره في التَّوارث

وفيه تمهيد، ومطلبان:

تمهيد عام.

المطلب الأول: إرث غير المسلم المسلمَ.

المطلب الثاني: إرث المسلم غير المسلم.

 تمهيد:

إن عناية الإسلام بالإنسان لا تقتصر على حياته فقط، بل يظل الإسلام مهتمًّا بالإنسان حتى بعد وفاته؛ لذلك جعل تجهيزه فرضَ كفاية على المسلمين، وإذا ما تقاعسوا عن القيام بهذا الواجب ينصبُّ العقاب على الجميع.

 وبوفاة الإنسان يرتفع عنه الخطاب الإلهي، ويُلغى من جميع الاشتراكات والمؤسَّسات، ومن سجل الأحياء، وينتقل إلى عالم آخر، وهو عالم الآخرة، “البرزخ” ففي هذه الحالة تنتقل أملاكه إلى مَن بعده من الذين يستحقون تركته، وتوزَّع عليهم بطريقة شرعية منتظمة، لكنه لا يُصار إلى تقسيم التَّركة إلا بعد استيفاء حقوق الميِّت؛ كمؤونة تجهيزه، وتسديد ديونه إن كانت عليه ديون، ثم إخراج الوصايا والهبات إن كانت عليه، وبعد إخراج تلك الحقوق المتعلقة بذمته، يأتي دور الورثة – إن بقيت هناك بقيةٌ من تركته – فتُوزَّع عليهم؛ كلٌّ حسب حظه ومكانته من المورِّث، إلا أن الإرث لا يتحقق إلا باستيفاء الشروط والأسباب والأركان، وانتفاء الموانع، وليس هذا موضِعَ تفصيلها، بل محلُّ ذلك كتب أصول الفقه، والذي يهمُّنا في هذا المضمار هو اختلاف “الدِّين والمعتقَد” بين المورِّث والوارث، وهل يعتبر ذلك من موانع الإرث؟ وما رأي فقهاء الإسلام؟

 ولبيان ذلك سأذكر المطالب التالية:

المطلب الأول

توريث غير المسلم من المسلم

لقد أجمع جمهور فقهاء السنة، على أن غير المسلم لا حقَّ له في الإرث من المسلم، الذي يتَباين معه في الدِّين والمعتقَد[13]، سواء أكان عن طريق القرابة والنسب، أم كان عن طريق المصاهرة والنكاح، وعُمدتهم في ذلك من القرآن قولُه جلَّ وعلا: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141]، ومن السنة حديث أسامة بن زيد: ((لا يرث المسلمُ الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ))[14].

 وقد ورَد خِلاف فيما إذا حدَث إسلامُ غير المسلم بعد وفاة المسلم المورَث، “والتركة لم تقسم بعد، فذهب جمهور الفقهاء: منهم مالكٌ، والشافعي، وأبو حنيفة، أنه لا يَرث بحال، وخالفهم في ذلك الحنابلة.

 أدلَّة الطرف الأول:

استدلوا بأدلَّة نقلية، وعقلية:

الدليل النقلي: قولُه صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث الكافر المسلم.))[15]. وقولُه: ((لا يتوارث أهل مِلَّتين شتى))[16]، وتوجيه هذا: أن الحديثين عامَّان يشملان عدم التوارث بين المسلم وغيره، وليس فيه أيَّة إشارة بين من أسلم قبل تقسيم التركة أو بعدها.

 أما الدليل العقلي: أن المانع كان محقَّقًا أثناء الوفاة، وقد انتقلت المِلكيَّة بمجرد الموت، فلا حق له في التركة؛ لأنها أصبحت في حيز الوارثين، ولا يشاركهم فيها أحد، سواء مَن أسلم قبل القسمة أو بعدها.

 أدلة الطرف الثاني:

ذهب إلى توريث من أسلم بعد وفاة المورث وقبل توزيع التركة على الورثة: عمرُ، وعثمان، والحسن بنُ عليٍّ، وابن مسعود، وهو مذهب الحنابلة، لكن محلَّ ذلك عندهم ما لم تقسَّم التركة، أما إذا قسِّمت فلا إرث بعد. ومذهب الشيعة الإمامية أشبه ما يكون بمذهب أحمد في توريث من أسلم بعد موت الميت، وقبل تقسيم التركة، إلا في صورة واحدة، وهي فيما إذا كان المورث المسلم واحدًا، وأسلم غير المسلم فإنه لا يرث إلا إذا كان إمامًا[17].

 أدلته المعتمدة:

منها حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ قَسْم قُسِّم في الجاهلية، فهو على ما قسِّم، وكل قسم أدركه الإسلام؛ فإنه على قسم الإسلام))[18].

 ووجه الاستدلال من الحديث: أن الاعتبار في الميراث أثناء القسمة، فمن أدركه وهو مسلم نال حظَّه من التركة، وإلا فلا.

وهناك أدلة أخرى من كلام الخلفاء، عَدَلتُ عنها؛ لأن هذه الدراسة لا تتسع لذلك.

 مناقشة الأدلة:

بعد عرض الأدلة والنظر فيها ومناقشتها في توريث من تأخر إسلامه بعد وفاة المورث وقبل تقسيم التركة – بدا لي أن الحديث المستدَلَّ به لا يُنزَّل على المسألة المتنازَعِ فيها، وهي توريث من أسلم بعد وفاة المورث، بل الحديث يتضمن معنى آخر، فقوله: ((كل قسم قسِّم في الجاهلية)) يفيد أن الإسلام قد يُمضي ما وقع في الجاهلية من أحكام الأنكحة والأموال والأنساب، لكن ما حدث في الإسلام يستأنف فيه حكم الإسلام.

الترجيح بين القولين:

الظَّاهر لي من خلال الأدلة الموجودة بين يديَّ ومناقشتها أن من أسلم بعد وفاة المورث لا يرث سواء كان ذلك قبل تقسيم التركة أو بعدها؛ لعموم الحديث المتقدم الذي أخرجه الشيخان، وهو حديث عام، والعام يبقي على عمومه، إلى ورود الخاص، ولكون التركة أصبحت حقًّا للورثة بمجرَّد موت الميت، ولم يكن مسلمًا بعد.

المطلب الثاني

إرث المسلم غير المسلم

إن توريث المسلم من قريبه الكافر، اختُلف فيه على رأيين بين فقهاء الإسلام:

الرأي الأول:

قال أهل هذا الرأي: إن المسلم لا يرث من قريبه غير المسلم؛ منهم: الخلفاء الراشدون، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهذا الرأي هو الرأي الذي تبنَّته المذاهب الأربعة.

 واستدلوا بأدلة تثبت دعواهم، منها:

أولًا: حديث أسامة بن زيد: ((لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر))[19].

والحديث واضح لا غبار عليه، في منع التوارث بين كلا الجانبين معًا.

 ثانيًا: ((لا يتوارث أهل ملَّتين شتَّى))[20].

 ثالثًا: قصة الفتح التي قال فيها صلى الله عليه وسلم إجابةً عن سؤال زيد حينما سأله: ألا تنزل غدًا يا رسول الله، قال: ((وهل ترك لنا عقيلٌ من منزل))؟ يعني أن عقيلًا كان لم يُسلم حين وفاة أبيه (أبي طالب) فورثه، أما عليٌّ فلم يحظَ من إرث أبيه بشيء؛ لأنه كان من الذين اعتنقوا الإسلام قبل، فكان ذلك سببًا في حرمانه من إرث أبيه.

 الرأي الثاني:

روي عن عمر ومعاذ بن جبل ومعاوية رضي الله عنهم القولُ بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، وحُكي ذلك عن محمد بن الحنفيَّة، وسعيد بن المسيِّب، وعلي بن الحسين، ومسروق، والشعبي. وغيرهم[21].

 وأدلتهم على ذلك كالتالي:

أولًا: حديث ابن عباس: ((الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه))[22].

 ثانيًا: روي ابن شهاب عن داود بن هند، قال: قال مسروق: ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية؛ كان يورِّث المسلم من اليهودي والنصراني، ولا يورِّثهما من المسلم، قال: فقضى بها أهل الشام، قال داود: فلما قدم عمر بن عبدالعزيز ردَّهم إلى الأمر الأول[23].

 ثالثًا: قصة معاذ بن جبل التي قضى فيها بتوريث المسلم من اليهودي، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الإسلام يزيد ولا ينقص))[24].

 رابعًا: “نحن ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا”[25].

 مناقشة أدلة أصحاب الرأي الأول:

أقوى أدلَّتهم التي استندوا إليها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرث المسلم الكافر.))، وهذا الحديث صحيح وصريح، ومخرَّج في الصحيحين، والقاعدة أن كلَّ ما أخرجه الشيخان صحيح، وهذا بالإضافة إلى باقي الأدلة الأخرى.

 وبثبوت الأدلة وصحَّتها تثبت دعوى المدَّعي، وهي دعوى القول بعدم التَّوارث بنصٍّ من الحديث الذي أفاد العلم النظريَّ المكتسَب من مخرِّجيه.

 مناقشة أدلة أصحاب الرأي الثاني:

هذه الأدلة بمقارنتها مع الأدلة السابقة، نجدها أقل منها رتبة، ولا تصل إليها في درجة القوة، وإليك بيان ذلك:

الدليل الأول: ((الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه)) هذا ليس صريحًا فيما نحن بصدده، وهو التوارث، بل غاية ما في الحديث أن الإسلام أعلى من غيره، والعلو يعود إلى نفس الإسلام، لا إلى توريث المسلم من غير المسلم؛ وعلى هذا لم ينهض الدليل لمعارضته دليلَ الفريق الأول الصريح.

 الدليلان الثاني، والثالث: الاستدلال بأقوال الصحابة وأفعالهم ليس بحجة، خاصة إذا صادم النصَّ الصريح.

 الدليل الرابع: “الإسلام يزيد ولا ينقص” لا يتناول التوارث، بل يَحتمل أن الإسلام يَزداد بازدياد معتنِقيه، ولا يَنقص بمن ارتدَّ من المسلمين؛ لأنَّ الذين يدخلون في الإسلام أكثرُ من المرتدِّين، وهذا هو الواقع.

 الدليل الخامس: الاستدلال بالقياس: “على أننا ننكح نساءهم ولا ينكحون نساءنا”، فهو قياسٌ فاسدُ الاعتبار؛ لأنه قياس مع وجود الفارق، لأن العبد يَنكح الحرة ولا يرثها.

 الترجيح بين الرَّأيين:

بعد مناقشة الأدلة يبدو لي – والله أعلم – أن القول بتوريث المسلم من الكافر أولى؛ لعدة اعتبارات:

أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنع من توارث المنافقين والزنادقة، فهذا عبدالله بن أُبيِّ بن سلول كان أعتى المنافقين، وبعد وفاته ورثه ابنه.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ثبَت في السنة المتواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجري الزَّنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مُجرى المسلمين، فيرثون ويورثون، وبهذا استنتج ابن تيمية[26] أن الميراث مداره على النُّصرة الظاهرة لا على إيمان القلوب والموالاة الباطنة، والمسلمون يوالون المعاهدين والمستأمنين وينصرونهم.

 ثانيها: أن مصلحة الإسلام التي تُبنى على رعاية مَقاصد الشريعة تَقتضي توريث المسلم من غير المسلم؛ حِفظًا لحقوق الداخلين في الإسلام، وتشجيعًا لهم، ولتقويتهم، وإلا وقف الإسلام عقَبة في وجوههم، ولم يجرؤ أحد على الدخول في الإسلام، حفاظًا على حقوقه، وخوفًا من إجحافه وحرمانه من ممتلكات مورثه.

 يقول ابن قيِّم الجوزية: فإنَّ في توريث المسلمين منهم ترغيبًا في الإسلام لمن أراد الدخول فيه، من أهل الذِّمة.

 ثالثها: حديث أسامة: ((لا يرث المسلم الكافر.))، فيقتصر فيه على الحربيِّ؛ لأنه الذي يمتنع التوارث بينه وبين المسلم، أما المعاهد والذمي والمستأمن فيورثون؛ يقول ابن القيم: “فإن كثيرًا منهم يمنعهم الدخول في الإسلام؛ خوفًا أن يموت أقاربُهم، ولهم أموال فلا يرثون، وقد سمعنا ذلك من غير واحد منهم شفاهًا.

ثم عقب على كلامه هذا قائلًا: إن هذا كافٍ في التخصيص، وهم يخصِّصون بما هو أضعف من هذا، فإن هذه مصلحة ظاهرة يشهد لها الشرع، وقد تكون مصلحتها أعظمَ من مصلحة نكاح الكتابية[27].

 وعلى توريث المسلم من غير المسلم درَج “المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث”؛ عملًا بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيِّم الجوزية، وهو القول الأنسب – عندي – نظرًا للتعايش المطلوب بين المسلمين، وغير المسلمين، وارتفاع الزواج المختلط، وتزايده بشكل ملحوظ، والإقبال على الإسلام واعتناقه من المسلمين الجدد، هذا بالإضافة إلى الأدلة التي استدل بها المجيزون للتَّوارث بين المسلمين وغير المسلمين.

 وبمجموع الأدلة وتخصيص حديث البخاري وقَصرِه على الحربي؛ تتَّضح الصورة جليَّة، وترتفع الإشكالية بإذن الله وحوله وقوته.

 وصلى الله على سيدنا محمد.

 خاتمة:

من خلال هذه الدراسة يبدو لي – والله أعلم – أن المسلم يجوز له أن يرث غير المسلم، وأما غير المسلم فلا يحق له أن يرث المسلم؛ بناء على ما لاح من خلال عرض الأدلة ومناقشتها، وهذه روح الإسلام، المبنيَّة على رفع الحرج، خاصة للمقيمين بديار الغرب، وللذين يَطرقون باب الدخول في الإسلام.

 أهم المصادر والمراجع:

1- أحكام أهل الذمة؛ ابن قيم الجوزية.

2- أحكام القرآن؛ للجصاص، الجزء الثالث، بيروت – لبنان 1996، المحقق محمد الصادق قمحاوي.

3- الفقه المقارن، الجزء الثالث، الدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر.

4- أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام؛ الدكتور عبدالكريم زيدان، مؤسسة الرسالة 1982.

5- آثار الحرب؛ الدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر.

6- فقه المواريث والوصية؛ الدكتور نصر فريد محمد واصل مفتي الديار المصرية.

7- فقه الأقليات المسلمة؛ يوسف القرضاوي، دار الشروق، 2001.

8- فتاوى ابن تيمية، الجزء 11.

9- مجلة البحوث الإسلامية.

10- البخاري ومسلم.

——————————–

[1] أورد هذا: وهبة الزحيلي في هامش كتابه (آثار الحرب) 176 دار الفكر؛ نقلًا عن كتاب: (المدخل الفقه الإسلامي) الأستاذ محمد سلام المدكور.

[2] مجلة البحوث الإسلامية، العدد: التاسع والسبعون، 1427 هـ/ ص 215 إلى 217، ومحاضرة للدكتور مصطفى بن حمزة.

[3] فقه المواريث والوصية، 57 الدكتور نصر فريد محمد واصل، المكتبة الإسكندرية.

[4] تعريفات الجرجاني، 111، مكتبة لبنان – بيروت 1985.

[5] الصحاح في اللغة، 13/ 167.

[6] نفس المرجع السابق.

[7] نفس المرجع السابق.

[8] الوجيز، 3/ 332، وهبة الزحيلي، دار الفكر دمشق.

[9] نفس المرجع، 132.

[10] نفس المرجع، 132.

[11] أحكام الذميين والمستأمنين 494 عبدالكريم زيدان؛ نقلًا عن الدر المختار.

[12] ابن السبكي (جمع الجوامع)، 1/ 65 – 66، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان.

[13] أورد هذا الإمام ابن رشد في (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) 2075، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، المحقق: د. عبدالله العبادي.

[14] أخرجه البخاري ومسلم.

[15] تقدم تخريجه

[16] رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أخرجه أبو داود في سننه، باب الفرائض، هل يرث المسلم الكافر، وسكت عنه أبو داود، وقال المنذري: وابن أبي ليلى لا يحتج بحديثه.

[17] انظر: (أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام) ص 536، الدكتور عبدالكريم زيدان، مؤسسة الرسالة 1982.

[18] نفس المرجع السابق 537.

[19] تقدم تخريج الحديث.

[20] تقدم أيضًا تخريجه.

[21] (فقه الأقليات)، ص 126، القرضاوي، دار الشروق.

[22] الحديث روي مرفوعًا وموقوفًا، فالموقوف رواه البخاري (كتاب الجنائز)، باب إذا أسلم الصبي ومات؛ هل يصلى عليه؟

[23] أحكام القرآن للجصاص، 3/ 37، أحكام الذميين والمستأمَنين، 542.

[24] الأحكام للجصاص، نفس الصفحة.

[25] أحكام الذميين والمستأمنين، 542.

[26] مجموع الفتاوى (7) 210 – 211.

[27] ابن قيم الجوزية (أحكام أهل الذمة) 853، 1997، وقد أطال الكلام هناك، رمادي للنشر، المحققان: يوسف بن أحمد البكري، شاكر بن توفيق العاروري.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى