كتب وبحوث

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 1 من 6

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 1 من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

ليس بجديد الحديث عن سعي المجتمعات الغربيَّة في زمن الحداثة إلى تطبيق نظام ديموقراطي علماني، يقوم على استبعاد الشَّريعة الإلهيَّة من سياسة الحُكم، والاستعانة بالقوانين الوضعيَّة لتسيير أعمال الدَّولة المدنيَّة. وتعد القوميَّة من أهم المفاهيم الدَّاعمة للعلمانيَّة، من حيث التَّأكيد على الحُكم الذَّاتي للدَّولة، والحفاظ على سيادتها، والسَّيطرة الكاملة للنّظام الحاكم على مقاليد الأمور ومصادر الدَّخل، والتَّشديد على مبدأ المواطَنة، والذي يقوم بدوره على اشتراك فئة من النَّاس في مجموعة من الخصائص، من بينها اللغة والتَّاريخ والانتماء العرقي.

ترتبط النَّزعة القوميَّة في عقيدة بني إسرائيل كامل الارتباط بما يعتقدون فيه من تميُّز عنصري لفرع إسحق من نسل أبرام العبراني، الذي اختُصَّ بعهد الرَّب بتوارُث الأرض من نهر النّيل إلى نهر الفرات “لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ” (سفر التَّكوين: إصحاح 15، آية 18). لم يحدّد الرَّبُّ في الآيات التَّالية مَن اختصَّه بعهده مع أبرام، الذي حوَّل اسمه إلى أبراهام، أي أب أمم “وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْدًا أَبَدِيًّا، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّاوَأَكُونُ إِلهَهُمْ” (سفر التَّكوين: إصحاح 17، آيتان 7-8). ويتَّضح تمييز إسحق عن إسماعيل، ابن أبرام من الجارية هاجر غير الوافدة من أور الكلدانيين من حيث أتى أبراهام وزوجته سارة، في هذه الآيات “«لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!». فقال الله “بل سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْدًا أَبَدِيًّا لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الآتِيَّة»” (سفر التكوين: إصحاح 17، آيات 18-21). يأمر الرَّبُّ نفسُه أبراهام بطرد “الجارية”، هاجر أم إسماعيل، ليكبر إسماعيل في مكان آخر، “سَكَنَ فِي بَرِّيَّة فَارَانَ“، غير أرض كنعان، التي تبقى وطنًا قوميَّا لسلالة إسحق. تشير الآيات عن موقف أبراهام من هاجر أنَّه “وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّة بِئْرِ سَبْعٍ… وَفَتَحَ اللهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلاَمَ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الْغُلاَمِ فَكَبِرَ، وَسَكَنَ فِي الْبَرِّيَّة، وَكَانَ يَنْمُو رَامِيَ قَوْسٍ. وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّة فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَ” (سفر التكوين: إصحاح 21، آيات 9-21).

هذا وقد سبقت الإشارة في كتاب “ليسوؤوا وجوهكم”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م) إلى أدلة بطلان العهد وفق ما ورد في العهد القديم (ص68-69):

1.وبَّخ النبي ارميا بني إسرائيل بعد خراب أورشليم على يد نبوخذ نصَّر: “هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي جَلَبْتُهُ عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَعَلَى كُلِّ مُدُنِ يَهُوذَا، فَهَا هِيَ خَرِبَةٌ هذَا الْيَوْمَ وَلَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ، مِنْ أَجْلِ شَرِّهِمِ الَّذِي فَعَلُوهُ لِيُغِيظُونِي، إِذْ ذَهَبُوا لِيُبَخِّرُوا وَيَعْبُدُوا آلِهَةً أُخْرَى لَمْ يَعْرِفُوهَا هُمْ وَلاَ أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ. فَأَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ كُلَّ عَبِيدِي الأَنْبِيَاءِ مُبَكِّرًا وَمُرْسِلاً قَائِلاً: لاَ تَفْعَلُوا أَمْرَ هذَا الرِّجْسِ الَّذِي أَبْغَضْتُهُ (سفر ارميا، الإصحاح 44: 2-4). في هذه الآيات والآيات التاليَّة لها اعتراف توراتي بشرك بني إسرائيل بالله تعالى، أي لم يعد الله “إلههم” الواحد كما أخذ على إبراهيم العهد من قبل “وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ” (سفر التكوين: إصحاح 17، آية 8).

2.يعترف النبي دانيال بتبديل بني إسرائيل شريعة الله وانحرافهم عن منهج الأنبياء في الآيات (1-13) في الإصحاح 9 من في سفر دانيال، ومن أمثلة ما قاله “وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَعَدَّى عَلَى شَرِيعَتِكَ، وَحَادُوا لِئَلاَّ يَسْمَعُوا صَوْتَكَ، فَسَكَبْتَ عَلَيْنَا اللَّعْنَةَ وَالْحَلْفَ الْمَكْتُوبَ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، لأَنَّنَا أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ” (إصحاح 9: آية 11).

3. وجاء في سفر التثنيَّة بشأن إهلاك الله تعالى لليهود بسبب حيادهم عن الشريعة الحق “وَكَمَا فَرِحَ الرَّبُّ لَكُمْ لِيُحْسِنَ إِلَيْكُمْ وَيُكَثِّرَكُمْ، كَذلِكَ يَفْرَحُ الرَّبُّ لَكُمْ لِيُفْنِيَكُمْ وَيُهْلِكَكُمْ، فَتُسْتَأْصَلُونَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا. وَيُبَدِّدُكَ الرَّبُّ فِي جَمِيعِ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَائِهَا، وَتَعْبُدُ هُنَاكَ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلاَ آبَاؤُكَ، مِنْ خَشَبٍ وَحَجَرٍ” (إصحاح 28: آيتان 63-64). تدحض هاتان الآيتان أي ادعاء بأنَّ الله عهد إلى بني إسحق بمُلك أبدي على أرض كنعان، وسبب الإهلاك هو الانحراف عن المنهج القويم ومعصيَّة الله وأنبيائه.

أمَّا عن أدلَّة بطلان العهد في القرآن الكريم، فهي كالتَّالي (ص69-70):

1.ذكر أنَّ أبرام أبصر فوجد الله أمامه “وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ.»؛” بيد أنَّ الله تعالى قد قال في الآيَّة 51 من سورة الشورى “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.” الله تعالى ينفي كلامه المباشر لأي إنسان إلا في حالات استثنائيَّة تحددها الآيَّة. أضف إلى ذلك، قوله في الآيَّة 103 من سورة الأنعام “لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.” تتحدَّث الآيات في سفر التكوين عن رؤية أبرام للربِّ بما يشابه ما يرويه المتصوِّفون عن الحضرة الإلهيَّة التي يدخلونها بعد تلاوة أذكارهم بحروف مقطَّعة لآيات من القرآن الكريم، أو بأسماء سريانيَّة هي في الحقيقة أسماء لشياطين.

2.الزعم بأنَّ الله قد فضَّل إسحق على إسماعيل، فهذا تنفيه الآيَّة 124 من سورة البقرة: “وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.” لو ربطنا هذه الآيَّة بقوله تعالى في الآيَّة 113 من سورة الصافات “وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ،” لأصبح الإحسان في الفعل هو معيار التفضيل. وكما ذكر القرطبي في تفسيره، “عليه” في الآيَّة تعود على إسماعيل بأن ذكر في الآيات السابقة. ولو أنَّ اسم الإشارة “عليه” تشير إلى إبراهيم-كما رأى الطبري-لم يزل إسماعيل مشمولًا بالمباركة الإلهيَّة. وعلى أي حال، فالميراث هو إمامة الناس والعلم، وليس الأرض. وهناك دليل آخر على أنَّ معيار التفضيل ليس النقاء العرقي، إنَّما التقوى، مصداقًا لقوله تعالى في الآيَّة 13 من سورة الحجرات “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.

3.ادِّعاء أنَّ إبراهيم قد طرد هاجر وابنها “وَصَرَفَهَا. فَمَضَتْ وَتَاهَتْ فِي بَرِّيَّة بِئْرِ سَبْعٍ…”، فقد ذكر الله تعالى على لسان رسوله إبراهيم في الآيَّة 37 من سورة إبراهيم “رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.” والمقصود بهذا الادعاء طمس آثار رحلة إبراهيم إلى بريَّة فاران في التوراة، حيث أسكن إسماعيل وأمَّه، وحيث رفع القواعد من البيت الحرام، كما ذكرت الآيات (125-127) من سورة البقرة. فهذه الرحلة لم تُذكر على الإطلاق، رغم ذِكر رحلته إلى مصر.

4. يقول الله تعالى في سورة هود عن أم إسحق “وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)”، فكيف يبشِّرها الله في حضور زوجها بأنَّهما سيولد لهما ولد، ثمَّ حفيد منه، ثمَّ يأمر زوجها بقتل ابنهما وهو لم يزل غلامًا؟

وتخبر خواتيم سفر التَّكوين أنَّ يوسف “أُنْزِلَ إِلَى مِصْرَ”، وبعد سنوات استقدم أهله أجمعين ليسكنوا في مصر بعد أن ارتقى يوسف في المناصب وصار “سيد مصر”، ويقول في ذلك “قَامَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ، وَحَمَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ أَبَاهُمْ وَأَوْلاَدَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ فِي الْعَجَلاَتِ الَّتِي أَرْسَلَ فِرْعَوْنُ لِحَمْلِهِ. وَأَخَذُوا مَوَاشِيَهُمْ وَمُقْتَنَاهُمُ الَّذِي اقْتَنَوْا فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَجَاءُوا إِلَى مِصْرَ. يَعْقُوبُ وَكُلُّ نَسْلِهِ مَعَهُ. بَنُوهُ وَبَنُو بَنِيهِ مَعَهُ، وَبَنَاتُهُ وَبَنَاتُ بَنِيهِ وَكُلُّ نَسْلِهِ، جَاءَ بِهِمْ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ” (سفر التكوين: إصحاح 46، آيات 5-7). يقول الكتاب المقدَّس أنَّ يعقوب هاجر إلى مصر “وَكُلُّ نَسْلِهِ مَعَهُ“؛ ويقول القرآن الكريم عن دعوة يوسف لإخوته للقدوم إلى مصر أنَّه قال لهم “أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ” (سورة يوسف: الآية 93)؛ ويوضح القرآن الكريم كذلك أنَّ إبراهيم، أب الأنبياء، لمَّا اعتزل قومه لم يهاجر معه إلى الأرض المقدَّسة إلَّا لوط، ابن أخيه كما يروي سفر التَّكوين، حيث يقول تعالى “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)” (سورة الأنبياء: آيتان 71-72)، وكأنَّما يريد الله أن يؤكّد على أنَّ ذريَّة إبراهيم في الأرض المقدَّسة اقتصرت على إسحق وابنه يعقوب. أمَّا بالنّسبة إلى ذريَّة لوط، فما ذُكر هو أنَّ ثمرة نكاحه ابنتيه بعد أن أسكرتاه كانت موآب، أب الموآبيين، وبن عمّي، أب بني عمُّون، كما جاء في سفر التَّكوين (إصحاح 19، آيات 31-38). وقد اعتُبر الموآبيين والعمُّونيين أبناء زنا مطرودين “جَمَاعَةِ الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ”، كما جاء في “لاَ يَدْخُلِ ابْنُ زِنًى فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الْجِيلِ الْعَاشِرِ لاَ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. لاَ يَدْخُلْ عَمُّونِيٌّ وَلاَ مُوآبِيٌّ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الْجِيلِ الْعَاشِرِ لاَ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ” (سفر التَّثنية: إصحاح 23، آيتان 2-3)؛ يعني ذلك أنَّ سلالة لوط لا تُعتبر من العبرانيين أنقياء السُّلالة. وبرغم كلّ ما سبق، تردَّد أنَّ جماعة تُسمَّى “العابيرو” سكنت أرض كنعان أثناء هجرة بني إسرائيل إلى مصر، وفي ذلك الإشارة الوحيدة لوجود جماعة قوميَّة تُعرف بالعبرانيين، خارج الكتاب المقدَّس، فيما سُمي بـ “ألواح تلّ العمارنة”، التي عُثر عليها في مصر عام 1885م. يأتي ذلك في غياب النَّصّ الأصلي للتَّوراة العبريَّة، وليس المترجمة عن اليونانيَّة في القرن العاشر الميلادي، وليس قبل الميلاد، أي بعد نزول القرآن الكريم بـ 3 قرون، وبعد زمن موسي بأكثر من 2300 عام، كما يتناول كتاب “ليسوؤوا وجوهكم”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م، ص428-429):

عثرت امرأة مصريَّة بمحض الصدفة على بعض الألواح عليها عبارات منقوشة، فباعتها مقابل 50 سنتًا، ليثمر ذلك عن العثور على حوالي 400 لوح طيني مكتوب عليها بالخط المسماري باللغة الآشوريَّة-البابليَّة (الأكَّاديَّة) القديمة. وقد أفسح الكشف عن أسرار تلك الألواح المجال أمام التعرُّف على الكثير من تاريخ فلسطين/الأرض المقدَّسة. وتُخبر هذه الألواح-التي كُتبت حوالي قرن ونصف قبل خروج بني إسرائيل من مصر-عن جماعة تُميَّز باسم “العابيرو” اجتاحت فلسطين. وتشير هذه الألواح إلى استنجاد زعماء القبائل الكنعانيَّة بملك مصر أخناتون، الذي اشتهر بإصلاحه الديني ودعوته إلى توحيد الآلهة، لإنقاذهم من غزو جماعة “العابيرو” لأرضهم. غير أنَّ أخناتون تجاهَل رسائل زعماء كنعان، التي كانت خاضعة لسيطرته. وتشير الوقائع إلى أنَّ هذا سبق اجتياح النبي يشوع بن نون لأرض فلسطين بما يقرب من مائتي عام.

وتكمُن قيمة هذه الألواح، ليس فقط في كشفها عن مرحلة غامضة في تاريخ فلسطين، بل وكذلك في تعريفها بطريقة النُطق الصحيحة للعبريَّة وببنيتها، سواءً في فترة اجتياح فلسطين على يد قُضاة بني إسرائيل تحت قيادة يشوع بن نون، أو في الفترة السابقة لذلك أثناء هجرة آباء بني إسرائيل. فبرغم أنَّ الألواح مكتوبة باللغة الآشوريَّة-البابليَّة-لغة التواصل المشترك/Lingua Franca في تلك المرحلة-فهي مدعوة بحواشي من الترجمات والشروح بالعاميَّة الكنعانيَّة استعان بها الكَتَبة في عملهم اليومي. وتتضمَّن الألواح كذلك إشارات للأحرف المتحرِّكة، مما أتاح الفرصة أمام تكوين تصوُّر لكيفيَّة نطْق اللغة.

وجاء الردُّ على أصل العبريَّة وحقيقة ألواح تل العمارة في الكتاب ذاته (2019، ص449-450):

ومن المثير للدهشة، برغم هذا التقديس للعبريَّة، عدم ذكر اسمها إطلاقًا في أسفار العهد القديم؛ بل أشير إلى “اللغة اليهوديَّة” و”اللسان اليهودي”، وشتَّان بين هذا المسمَّى ومُسمَّى العبريَّة. فما يُشار إليه بـ “اللغة اليهوديَّة” و”اللسان اليهودي” في الغالب لم يتعدَّ لهجة ميَّز بها اليهود أنفسهم بدافع من شعورهم بالتفوُّق على غيرهم المستمد من نزعتهم العنصريَّة، استمدُّوها من الألفاظ والعبارات الواردة في التوراة المكتوبة في القرن الخامس قبل الميلادي بعد العودة من السبي البابلي. وما يدعم هذا الافتراض اعتراف وليام تشومسكي نفسه بعدم وجود صعوبة في التواصل بين المتحدِّثين بـ “اليهوديَّة” والمتحدِّثين بالكنعانيَّة، التي هي في الأصل إحدى اللهجات العربيَّة. أمَّا عن الإشارة إلى بني إسرائيل بـ “العبرانيِّين”، فهي لم ترِد خارج الكتاب المقدَّس سوى في ألواح تلِّ العمارنة بكلمة “عابيرو”، المفترض أنَّها أصل الكلمة. والسؤال الهام هو: ما مدى مصداقيَّة ما ورد في ألواح تعود إلى الألفيَّة الثانية قبل الميلاد، اكتُشفت في مصر عام 1885 ميلاديًّا، أي بعد الاحتلال البريطاني-أكبر داعم لتأسيس دولة لليهود على أرض فلسطين، وللحركات السريَّة النشطة في هذا السياق-بثلاث سنوات، وحُدد عُمْرها بواسطة أدوات ابتكرها الغرب؟

تجدر الإشارة كذلك إلى رأي الدُّكتور محمَّد بهجت القبيسي، أستاذ التَّاريخ القديم في جامعة حلب السوريّة وعالم الصَّوتيَّات، بشأن العبريَّة وتطوير اليهود لها لتكوين هويَّة مستقلَّة، كما ذُكر في كتاب “ليسوؤوا وجوهكم”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م، ص392-393):

“اليهود أرادوا أن يجعلوا من الدين قوميَّة، والقوميَّة تحتاج إلى لغة، فطوَّروا ما يُعرف اليوم بالعبريَّة الحديثة، وكان الجهد الأكبر في ذلك للعالم اللغوي والمعجمي يهودا بن قريش، وذلك خلال مرحلة النهضة الثقافيَّة العربيَّة في القرن التَّاسع الميلادي، والذي يتزامن مع القرن الثَّالث الهجري. وأقدم ما يوجد مكتوبًا بالحرف العبريِّ، والذي يطلقون عليه “زورًا وبُهتانًا”-على حدِّ وصف محمد بهجت القبيسي-الحرف الآرامي المربَّع، هو نقوش الجنيزة في مصر، التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي. وكُتبت أسفار التوراة بهذا الخطِّ، وقال اليهود أنَّه الشكل الحديث لكتابة الماسوريِّين الذين عاشوا في منطقة طبرية، في محاولة لمنح الأحرف المستحدثة-بحسب وصف القبيسي، الذي يؤكِّد أنَّ أصول ذلك الخط لم توجد نهائيَّا بين الخطوط المُستخدمة في الكتابة في نقوش سوريا القديمة وحرَّان ونقوش أم الجمال-وهي نقوش استُخدمت في منطقة أم الجمال جنوب دمشق تعود إلى القرن الثالث الميلادي قريبة الشبه بالعربيَّة. على هذا، يؤكِّد القبيسي أنَّ عملية إثبات القِدم التاريخي للعبريَّة كانت عبارة عن ادَّعاءات واهية. الآراميَّة القديمة التي كان يتكلَّم بها السيد المسيح، واللغة الكنعانيَّة تشتركان مع العربيَّة في جميع أنماط تصريف الأفعال، وهذا ليس موجود بالمرَّة لا في العبريَّة، ولا في السريَّانية التي تأثَّرت باليونانيَّة”.

نعرف من أسفار موسى الخمسة أنَّ بني إسرائيل لمَّا خرجوا من مصر قاصدين الأرض المقدَّسة، نزلت ألواح الوحي الإلهي على موسى بن عمران (عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التَّسليم)، نبي بني إسرائيل وزعيمهم، وقد نصَّت على أنَّ الفصل في الخصومات يكون بالاحتكام إلى الشَّريعة الإلهيَّة، كما يقول سفر التَّثنية “إِذَا عَسِرَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ دَمٍ وَدَمٍ، أَوْ بَيْنَ دَعْوَى وَدَعْوَى، أَوْ بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَضَرْبَةٍ مِنْ أُمُورِ الْخُصُومَاتِ فِي أَبْوَابِكَ، فَقُمْ وَاصْعَدْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكَ. وَاذْهَبْ إِلَى الْكَهَنَةِ اللاَّوِيِّينَ وَإِلَى الْقَاضِي الَّذِي يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ، وَاسْأَلْ فَيُخْبِرُوكَ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ. فَتَعْمَلُ حَسَبَ الأَمْرِ الَّذِي يُخْبِرُونَكَ بِهِ مِنْ ذلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ، وَتَحْرِصُ أَنْ تَعْمَلَ حَسَبَ كُلِّ مَا يُعَلِّمُونَكَ. حَسَبَ الشَّرِيعَةِ الَّتِي يُعَلِّمُونَكَ وَالْقَضَاءِ الَّذِي يَقُولُونَهُ لَكَ تَعْمَلُ. لاَ تَحِدْ عَنِ الأَمْرِ الَّذِي يُخْبِرُونَكَ بِهِ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا” (سفر التَّثنية: الإصحاح 17، آيات 8-11). تشير الآيات آنفة الذّكر إلى أنَّ الرَّبَّ اصطفى “الْكَهَنَةِ اللاَّوِيِّينَ” على بني إسرائيل للفصل بين النَّاس، كما عيَّن لهم قضاةً أُمروا بمشاورتهم “وَاذْهَبْ إِلَى…الْقَاضِي الَّذِي يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ“.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى