كتب وبحوث

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 4 من 6

نشأة القوميَّة في مجتمع بني إسرائيل بين الكتاب المقدَّس والقرآن الكريم 4 من 6

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

صراع على المُلك بعد داود وتدخُّل إلهي في تثبيت حُكم خليفته

سبقت الإشارة إلى أنَّ سفري صموئيل قد أرَّخا انتقال الحُكم في بني إسرائيل من الحُكم الدّيني على يد القُضاة إلى الحُكم المدني العلماني على يد الملوك. تتدخَّل بثشبع أم سليمان، هي ذاتها التي ارتكب معها داود الزّنا، لإحباط محاولة أدونيا، أخ سليمان من أبيه، لخلافة داود بعد أن هرِم. حينها، يأمر داود بتنصيب سليمان خليفةً له وفق المراسم الدّينيَّة “قَالَ الْمَلِكُ لَهُمْ: «خُذُوا مَعَكُمْ عَبِيدَ سَيِّدِكُمْ، وَأَرْكِبُوا سُلَيْمَانَ ابْنِي عَلَى الْبَغْلَةِ الَّتِي لِي، وَانْزِلُوا بِهِ إِلَى جِيحُونَ. وَلْيَمْسَحْهُ هُنَاكَ صَادُوقُ الْكَاهِنُ وَنَاثَانُ النَّبِيُّ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَاضْرِبُوا بِالْبُوقِ وَقُولُوا: لِيَحْيَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ. وَتَصْعَدُونَ وَرَاءَهُ، فَيَأْتِي وَيَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّي وَهُوَ يَمْلِكُ عِوَضًا عَنِّي، وَإِيَّاهُ قَدْ أَوْصَيْتُ أَنْ يَكُونَ رَئِيسًا عَلَى إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا»” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 1، آيات 33-35). يكشف أمر داود بشأن خليفته سليمان “لْيَمْسَحْهُ هُنَاكَ صَادُوقُ الْكَاهِنُ وَنَاثَانُ النَّبِيُّ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ” حرْص المَلك على أن يكتسب خليفته الشَّرعيَّة بتأييد رجال الدّين لاختياره ملكًا جديدًا، وهذا يعني أنَّ اللجوء إلى رجال الدّين كان شكليًّا لنيل تأييد العامَّة، وليس لوضع سياسة الحُكم.

يرى سليمان الرَّبَّ في رؤيا، ويعبّر الرَّبُّ عن رضاه عن تولّي سليمان الحُكم، ويطلب منه أن يسأل فيعيطه؛ فيسأل سليمان من الرَّبّ “قَلْبًا فَهِيمًا لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ الْعَظِيمِ هذَا؟” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 3، آية 9). يستجيب الرَّبُّ لسليمان ويعطيه ما أراد “هُوَ ذَا أَعْطَيْتُكَ قَلْبًا حَكِيمًا وَمُمَيِّزًا حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُكَ قَبْلَكَ وَلاَ يَقُومُ بَعْدَكَ نَظِيرُكَ. وَقَدْ أَعْطَيْتُكَ أَيْضًا مَا لَمْ تَسْأَلْهُ، غِنًى وَكَرَامَةً حَتَّى إِنَّهُ لاَ يَكُونُ رَجُلٌ مِثْلَكَ فِي الْمُلُوكِ كُلَّ أَيَّامِكَ. فَإِنْ سَلَكْتَ فِي طَرِيقِي وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَوَصَايَايَ، كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ، فَإِنِّي أُطِيلُ أَيَّامَكَ” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 3، آيات 12-14). يطلب سليمان من ربّه الحكمة لكي يقضي بين النَّاس بالحقّ “لأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ“، ويستجيب الرَّبُ ويهَب له “قَلْبًا حَكِيمًا وَمُمَيِّزًا” يتميَّز به عن سائر الملوك الآخرين، لكنَّ الرَّبَّ يشترط لتثبيت مُلك سليمان أن يسلك طريقه ويحفظ فرائضه، فهل هذا ما فعله سليمان، كما يشير سفر الملوك الأوَّل؟ الإجابة لا.

ما حدث هو أنَّ سليمان، بعد أن تعاظَم ملكه وتميَّز عن “كُلِّ مُلُوكِ الأَرْضِ فِي الْغِنَى وَالْحِكْمَةِ”، كثرت زيجاته، واتَّبع الهوى؛ فعَبَد آلهة غير الرَّبّ “وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلًا مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 11، آيات 3-6). من المفارقات أنَّ قول “فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ” لا يستقيم أبدًا مع ما قيل من قبل عن أنَّ الرَّبَّ وهَب سليمان “قَلْبًا حَكِيمًا وَمُمَيِّزًا“، ولا يصحُّ أن يعمل صالح القلب الحكيم “الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”، ولكن هذا قول الكتاب المقدَّس عن المَلك سليمان، الذي لم يعترف به نبيًّا؛ في حين يشهد ذكره في سورة الأنبياء على نبوَّته في قوله تعالى “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” (سورة الأنبياء: آيتان 78-79). ومن المفارقات كذلك أن يُذكر أنَّ سليمان عَبَد “عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ”، وهي الأنثى في الثُّنائي الإلهي البابلي، الذي يشكَّل باتّحاده إله الشَّمس عند البابليين في الأزمنة القديمة، وهذا لا يستقيم أبدًا مع ما ذُكر في سورة النَّمل عن دعوة سليمان ملكة سبأ وقومها إلى الإسلام ونبْذ عبادة الشَّمس.

تحكي سورة النَّمل قصَّة معرفة سليمان بسجود أهل سبأ، وعلى رأسهم امرأة تملكهم، للشَّمس من دون الله لمَّا حمل له الهدهد، وهو أحد جنوده من الجنّ والأنس والطَّير، خبرهم، كما يقول تعالى على لسان الهدهد “فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)” (سورة النَّمل : آيات 22-24). فما كان من سليمان، النَّبيّ المَلك، إلَّا أن حمَّل الهدهد رسالة تدعوهم إلى الإسلام والتَّخلّي عن الاستكبار بالاستجابة إلى دعوته “اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)” (سورة النَّمل: آيات 28-31). كان ردُّ فعل حاكمة سبأ أن استشارت قومها، الذين اتَّكلوا على تصريفها الأمور واكتفوا بالامتثال لأوامرها، فقالت المرأة “قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ۖ وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)” (سورة النَّمل: آيات 32-35). تتصرَّف المرأة بحكمة ملحوظة، وتؤثر التودُّد إلى سليمان لمعرفتها بشدَّة بأس الملوك إذا ما اجتاحوا بلدًا ” أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً”، ويصدّق القرآن على قولها بتعقيبه ” وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ”.

أمَّا عن بداية تواصُل حاكمة سبأ في الكتاب المقدَّس، فهي كالتَّالي “وَسَمِعَتْ مَلِكَةُ سَبَا بِخَبَرِ سُلَيْمَانَ لِمَجْدِ الرَّبِّ، فَأَتَتْ لِتَمْتَحِنَهُ بِمَسَائِلَ. فَأَتَتْ إِلَى أُورُشَلِيمَ بِمَوْكِبٍ عَظِيمٍ جِدًّا، بِجِمَال حَامِلَةٍ أَطْيَابًا وَذَهَبًا كَثِيرًا جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 10، آيتان 1-2). لا يُذكر شيءٌ عن دعوة سليمان الحاكمة وقومها لعبادة الرَّبّ إله إسرائيل، في تأكيد على الجانب العنصري الذي يشكّل الفكر القومي لبني إسرائيل، والذي أغراهم باعتبار أنفسهم شعب الرَّبّ المختار المتميّز عن سائر الأمم. ولم يرفض سليمان عطيَّة المرأة، التي “أَعْطَتِ الْمَلِكَ مِئَةً وَعِشْرِينَ وَزْنَةَ ذَهَب. وَأَطْيَابًا كَثِيرَةً جِدًّا وَحِجَارَةً كَرِيمَةً. لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِثْلُ ذلِكَ الطِّيبِ فِي الْكَثْرَةِ، الَّذِيِ أَعْطَتْهُ مَلِكَةُ سَبَا لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ. وَكَذَا سُفُنُ حِيرَامَ الَّتِي حَمَلَتْ ذَهَبًا مِنْ أُوفِيرَ، أَتَتْ مِنْ أُوفِيرَ بِخَشَبِ الصَّنْدَلِ كَثِيرًا جِدًّا وَبِحِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 10، آيتان 10-11). أمَّا ردُّ فعل سليمان في الرُّواية القرآنيَّة، فهو كالتَّالي “فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)” (سورة النَّمل: آيتان 36-37). ومن الملاحظات واجبة التَّنبيه أنَّ القرآن الكريم أشار إلى حاكمة سبأ على لسان الهدهد، المفترض أنَّه غير عاقل، بـ “امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ” في تحقير لشأنها واستنكار لتولية امرأة الحُكم على أمَّة، بينما وصفها الكتاب المقدَّس بـ “مَلِكَةُ سَبَا”. ويتَّفق الاستنكار القرآني لحُكم المرأة مع ورد في صحيح البخاري (4425) عن أنَّ النَّبيّ (ﷺ) لمَّا سمع عن أنَّ أهل فارس ملَّكوا عليهم ابنة كسرى، قال “لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً”.

أثمرت دعوة سليمان حاكمة سبأ إلى الإسلام عن هداية المرأة إلى دين الله، بقولها “قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ“، وربَّما أفضى ذلك بدوره إلى هداية قومها من جرَّاء شدَّة تأثيرها عليهم (سورة النَّمل: آية 44). أمَّا في الكتاب المقدَّس، فبدلًا من أن يهدي سليمان نساءه إلى عبادة “الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ”، اتَّبع هو طقوسهن في بناء المعابد للآلهة الوثنيَّة فوق المرتفعات، وإيقاد النَّار في تلك المعابد، والذَّبح لتقديم القرابين للآلهة، وكلُّ ذلك من طقوس عبادة إله الشَّمس عند الأمم الوثنيَّة “بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 11، آيتان 7-8). ونتيجة ذلك أن غضب الرَّبُّ على سليمان “لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ”؛ فتوعَّده تمزيق مُلكه من بعده، وعلى يد ابنه ووريث عرشه “فَقَالَ الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ عِنْدَكَ، وَلَمْ تَحْفَظْ عَهْدِي وَفَرَائِضِيَ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ بِهَا، فَإِنِّي أُمَزِّقُ الْمَمْلَكَةَ عَنْكَ تَمْزِيقًا وَأُعْطِيهَا لِعَبْدِكَ. إِلاَّ إِنِّي لاَ أَفْعَلُ ذلِكَ فِي أَيَّامِكَ، مِنْ أَجْلِ دَاوُدَ أَبِيكَ، بَلْ مِنْ يَدِ ابْنِكَ أُمَزِّقُهَا” (سفر الملوك الأوَّل: إصحاح 11، آيتان 11-12). انقسمت مملكة إسرائيل بعد سليمان إلى مملكتين، يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وإسرائيل في الشَّمال وعاصمتها السَّامرة، وقد تكرَّر نهْج تَّمرُّد ملوك يهوذا وإسرائيل على الرَّبّ والشَّرك به بعبادة البعل وعشتار وبناء المعابد لهما والانحراف عن العهد بالالتزام بعبادة الرَّبّ دون سواه، ومعظمهم “عَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”، قلَّما وُجد ملك “عَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ”. ومن الملفت أنَّ دور الأنبياء في مجتمع بني إسرائيل اقتصر على تقديم نبوءات عن الغيب أو التَّحذير من مخاطر تحدق ببني إسرائيل، الذين تسلَّط عليهم حينها الإيمان بالقدريَّة إل أقصى درجة، دون تدخُّل هؤلاء الأنبياء في سياسة الحُكم، كما يروي سفر الملوك الأوَّل عن النَّبيّ إيليا، وينطبق في سفر الملوك الثَّاني على النَّبيّ أَلِيشَعُ، أو اليسع كما ورد اسمه في القرآن الكريم (سورة ص: الآية 48).

محاولة غير مجدية للإصلاح الدّيني وكارثة تعصف ببيت إسرائيل

أطلق يوشيا، أحد ملوك يهوذا المتأخّرين، حملة للإصلاح الدّيني، وقد “عَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَسَارَ فِي جَمِيعِ طَرِيقِ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَحِدْ يَمِينًا وَلاَ شِمَالًا” (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 22، آية 2). بدأت حملة يوشيا بعد أن عُثر على “سِفْرِ الشَّرِيعَةِ…فِي بَيْتِ الرَّبِّ“، في مرحلة فُقد فيها كتاب أسفار الوحي الإلهي خلال المعارك المتجدّدة، ولم يُعثر إلَّا على “سِفْرِ الشَّرِيعَةِ“، من بين أسفار موسى الخمسة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أسفار الوحي لم تكن في متناول شعب إسرائيل؛ بل انفرد الكهنة بالاحتفاظ بها وقراءتها في المناسبات الدّينيَّة أمام الشَّعب، في تكريس تامّ للعلمانيَّة واقتصار الدّين على دور العبادة. وأعلن يوشيا حملته بعد أن تبيَّن له أنَّ غضب الرَّبّ لم ينصب على إسرائيل إلَّا بحيادهم عمَّا أمرت به شريعة ربَّهم، فهم “لَمْ يَسْمَعُوا لِكَلاَمِ هذَا السِّفْرِ لِيَعْمَلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا” (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 22، آية 13). ويُذكر عن حملة يوشيا الإصلاحيَّة “صَعِدَ الْمَلِكُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ وَجَمِيعُ رِجَالِ يَهُوذَا وَكُلُّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ، وَالْكَهَنَةُ وَالأَنْبِيَاءُ وَكُلُّ الشَّعْبِ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ، وَقَرَأَ فِي آذَانِهِمْ كُلَّ كَلاَمِ سِفْرِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي وُجِدَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ. وَوَقَفَ الْمَلِكُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَطَعَ عَهْدًا أَمَامَ الرَّبِّ لِلذَّهَابِ وَرَاءَ الرَّبِّ، وَلِحِفْظِ وَصَايَاهُ وَشَهَادَاتِهِ وَفَرَائِضِهِ بِكُلِّ الْقَلْبِ وَكُلِّ النَّفْسِ، لإِقَامَةِ كَلاَمِ هذَا الْعَهْدِ الْمَكْتُوبِ فِي هذَا السِّفْرِ. وَوَقَفَ جَمِيعُ الشَّعْبِ عِنْدَ الْعَهْدِ” (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 23، آيتان 2-3). استعان يوشيا بالكهنة والأنبياء والصَّالحين من شيوخ يهوذا، وتعهَّد أمام الجميع في بيت الرَّبّ على العمل بمقتضى الشَّريعة، والالتزام بـ “الْعَهْدِ الْمَكْتُوبِ فِي هذَا السِّفْرِ”، وعبادة الرَّبّ وحده “لِحِفْظِ وَصَايَاهُ وَشَهَادَاتِهِ وَفَرَائِضِهِ”.

وكانت الخطوات التَّالية في حملة الإصلاح أن أبطل يوشيا كافَّة طقوس العبادة الوثنيَّة والبدع التي أُحدثت وأُدخلت بالباطل على صحيح الدّين، من عبادة البعل وعشتار والنَّذر لـ “أَجْنَادِ السَّمَاءِ“، أي الملائكة، كما يتَّضح في “أَمَرَ الْمَلِكُ حِلْقِيَّا الْكَاهِنَ الْعَظِيمَ، وَكَهَنَةَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَحُرَّاسَ الْبَابِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ هَيْكَلِ الرَّبِّ جَمِيعَ الآنِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ لِلْبَعْلِ وَلِلسَّارِيَةِ وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ…وَلاَشَى كَهَنَةَ الأَصْنَامِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ مُلُوكُ يَهُوذَا…يُوقِدُونَ: لِلْبَعْلِ، لِلشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْمَنَازِلِ، وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ. وَأَخْرَجَ السَّارِيَةَ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ خَارِجَ أُورُشَلِيمَ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ وَأَحْرَقَهَا فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَدَقَّهَا إِلَى أَنْ صَارَتْ غُبَارًا…وَهَدَمَ بُيُوتَ الْمَأْبُونِينَ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الرَّبِّ حَيْثُ كَانَتِ النِّسَاءُ يَنْسِجْنَ بُيُوتًا لِلسَّارِيَةِ. وَجَاءَ بِجَمِيعِ الْكَهَنَةِ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا، وَنَجَّسَ الْمُرْتَفَعَاتِ حَيْثُ كَانَ الْكَهَنَةُ يُوقِدُونَ…وَهَدَمَ مُرْتَفَعَاتِ الأَبْوَابِ… (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 23، آيات 4-8).

لم تستمر استقامة بني إسرائيل باستقامة ملكهم وإمامهم يوشيا، الذي بعد موته “أَخَذَ شَعْبُ الأَرْضِ يَهُوآحَازَ بْنَ يُوشِيَّا وَمَسَحُوهُ وَمَلَّكُوهُ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ”، ليحيد يَهُوآحَازَ عن نهْج أبيه؛ “فَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَهُ آبَاؤُهُ” (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 23، آية 32). واصل ملوك بني إسرائيل الانحلال والانحراف الدّيني، حتَّى عهْد يَهُويَاكِينُ، الذي “عَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ كُلِّ مَا عَمِلَ أَبُوهُ؛ والنتيجة أنَّ بني إسرائيل استحقُّوا الغضب الإلهي، بأن حاصر نبوخذناصَّر، ملك بابل، التي عبدوا آلهتها الوثنيَّة، أورشليم وسبى المَلك وقومه إلى بابل، واستولى على تراث بني إسرائيل، كما يرد في “فِي ذلِكَ الزَّمَانِ صَعِدَ عَبِيدُ نَبُوخَذْنَاصَّرَ مَلِكِ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، فَدَخَلَتِ الْمَدِينَةُ تَحْتَ الْحِصَارِ. وَجَاءَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَبِيدُهُ يُحَاصِرُونَهَا. فَخَرَجَ يَهُويَاكِينُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَعَبِيدُهُ وَرُؤَسَاؤُهُ وَخِصْيَانُهُ، وَأَخَذَهُ مَلِكُ بَابِلَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُلْكِهِ. وَأَخْرَجَ مِنْ هُنَاكَ جَمِيعَ خَزَائِنِ بَيْتِ الرَّبِّ، وَخَزَائِنِ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَكَسَّرَ كُلَّ آنِيَةِ الذَّهَبِ الَّتِي عَمِلَهَا سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ. وَسَبَى كُلَّ أُورُشَلِيمَ وَكُلَّ الرُّؤَسَاءِ وَجَمِيعَ جَبَابِرَةِ الْبَأْسِ، عَشَرَةَ آلاَفِ مَسْبِيٍّ، وَجَمِيعَ الصُّنَّاعِ وَالأَقْيَانِ. لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلاَّ مَسَاكِينُ شَعْبِ الأَرْضِ” (سفر الملوك الثَّاني: إصحاح 24، آيات 10-14). وهكذا، دُمرت دولة بني إسرائيل “لأَجْلِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَى أُورُشَلِيمَ وَعَلَى يَهُوذَا”؛ نتيجة انحرافهم عن صحيح شريعتهم، وباعتراف أسفارهم.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى