تقارير وإضاءات

من الدعوة إلى العزلة.. قصة انكفاء الإسلاميين داخل مجتمعاتهم المغلقة

من الدعوة إلى العزلة.. قصة انكفاء الإسلاميين داخل مجتمعاتهم المغلقة

إعداد محمد فتوح

“يجري الضغط بإحكام على الناس في المنظمات الشمولية بحيث تُمحى شخصياتهم. فالجميع “صديق”، إلا أن الصداقة الحقيقية تُقمع، بتحويلها، وتهديدها نحو التعلق بالقضية، والقائد، والجماعة. وفي الواقع، يواجه الأتباع عزلة ثلاثية: عن العالم الخارجي، وعن بعضهم البعض داخل النظام المغلق، وعن الحوار الداخلي الخاص بهم، حيث ينشأ تفكير واضح حول الجماعة”.

(إلكسندرا شتاين [أ])

في عام 1939م، فُوجئ الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، بانتقادات حادة قادها مجموعة من شباب الإخوان طالت حسن البنا ذاته، قبل أن ينشق هؤلاء الشباب ويقوموا بتأسيس جماعة عُرفت “بجمعية شباب محمد”.[1] لم ينشغل البنا بنفي هذه الاتهامات عنه وعن جماعته، ولم يشوه سمعة رفاق الأمس أو يعتبرهم خصوما دائمين، وإنما مَدّ وشائج الصلة مع هؤلاء المنشقين، وقام بزيارتهم يوم افتتاح مقرهم الرسمي، مهنئا إياهم بالتأسيس الجديد، وهو ما مَثّل مفاجأة للحضور، حيث قام بتعبئة استمارة عضوية في جمعيتهم الجديدة، وقَدّم لهم دعما ماليا وتبرّعا للمقر الجديد.[2]

مشهد قصير، يعكس صورة كادت أن تندثر في العلاقة بين الإسلاميين وبعضهم البعض، فضلا عن علاقتهم بالعالم الذي يخرج عن حدود دوائرهم الضيّقة. فعبارة “الدعوة تنفي خبثها” كانت شعار الإسلاميين لعقود طويلة حينما يختلف معهم من كان منهم، فما عليك إلا أن تُعلن مخالفتك لفكر الجماعة حتى تُطرد من رحاب الأُخوة الإيمانية إلى خانة العدو الذي يتربص للانقضاض على الدعوة.

حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين (مواقع التواصل)

أما المجتمع الذي يخرج عن حدود “الإسلاميين” فالحذر منه أشد، واستشعار الأخوة الإيمانية لأفراده أصعب. إذ تطل فكرة التصنيف المجتمعي الحاد لدى الإسلاميين على أساس نقاويّ -ليس على أساس شرعي في الغالب- من الأفكار الحاضرة بكثافة في خطاب عموم التيار الإسلامي القديم باستثناء بعض الأفراد القلائل من ذوي القدرة على التفريق بين الالتزام التنظيمي والولاية للمؤمنين جميعا بحسب إيمانهم لا تنظيماتهم.

فكما أن الدولة تطرح تعريفها الخاص للإنسان باعتباره “مواطنا” قبل كونه إنسانا، فكذلك الحال لدى قطاعات واسعة من الإسلاميين الذين انخرطوا في التنظيمات المغلقة، حيث يتمثل تصنيفهم للمسلم باعتباره إما “أخا” وإما “مدعوّا/إنسانا عاديا” قبل كونه مسلما[3]. لتتحوّل الدعوة إلى الإسلام ونشر مفاهيمه لدى الكثير من أصحاب التنظيمات -بغير وعي منهم- نحو دعوة إلى التنظيمات ذاتها باعتبارها الغاية، ليحدث بذلك تماهٍ بين سعة الإسلام وبين ضيق الأيديولوجيا.

ولينكفئ مجتمع الإسلاميين على ذاته بصورة تتسع مع تراكم الأعداد وامتداد الزمن لسنوات عديدة، ولينزوي عن المجتمع في صور من “الأخويات الضيقة”، والتي اتسعت من مجرد كونها دعوةً دينية وانتماءً إلى مفاهيم إسلامية معينة، لتشمل وفق تلك التحولات، المظاهر الحياتية كالزواج والتجارة والمصاهرة والسكن، ولتتخفّف بذلك مخالطتهم عموم الناس، مهما حملوا من الخير، ليتحول بذلك التنظيم، من كونه وسيلة للتأثير في المجتمع، لاعتباره غاية، تنعزل وفق ممارستها عن المجتمع، ورغم استنادها على نصوص دينية لترسيخ معتقداتها وإعطائها بُعدَا قيميا، فإن هذا الانعزال، من حيث انعكاسه الواقعي، يخالف قول النبي: “مثل المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم”.

بعد الثورة، انكسر حاجز احتكار الجماعات لأنماط التدين، وتم إعادة تشكيل خارطة التدين في المجتمع بعدما فقد الإسلاميون محاضنهم الخاصة، ومع الانفتاح على شرائح مجتمعية أوسع، حاول بعض الإسلاميين -بمعزل عن التنظيمات- الحفاظ على دوائرهم الإيمانية عن طريق “صُحبة صالحة” صغيرة. وهو ما مَثّل حالة جيدة من كسر العزلة بين الإسلاميين والمجتمعات، مع التبشير بانكسار ضيق الأيديولوجيا التي فرضتها بعض التنظيمات. إلا أن هذه الحالة ذاتها تبقى إشكالية، حيث تحمل معها تحدي الانطلاق من النظر إلى المجتمع بعين هويّاتية أوسع، وليس إلى أخويات ضيقة [ب].

الأُخوة في الله.. ونفي الدعوة لخبثها

“ما من أحد قد تمرد على المرشد العام اعتدادا بمكانته إلا كان مصيره النبذ والإبعاد”

(عمر التلمساني)

في كتابه “إخوان إصلاحيون – شهادات عن تجارب الإصلاح الممنوعة داخل الجماعة” عدد الحقوقي هيثم أبو خليل حالات الإبعاد والطرد والفصل التعسفي التي لاحقت كل من حاول انتقاد جماعة الإخوان المسلمين أو التعقيب على قرارات مكتب الإرشاد. فما أن يخرج “الأخ” خارج الإطار المرسوم، إلا ويُهدر كل جهده السابق ويصير منبوذا، إن لم يُتخذ قرار بفصله بالفعل، ويَخرج من دائرة “الأُخوة الإسلامية” حتى وإن كان من أهل الدين والتقوى والورع، ليتحوّل بجرة قلم، إلى دائرة “الخبث” الذي نفته الدعوة. ويصل الحال إلى أن يُمارس نوع من الاغتيال المعنوي للمُخالفين باسم الربانية [ج]. وفي المدارس السلفية المختلفة كانت الردود العلمية العنيفة، والتي تصف مخالفها بالبدعة والخوارج والإرجاء والشرور، هي السمة الأساسية في التعامل مع المخالفين، ولو كانوا من التيار السلفي ذاته [د].

فعلى مدار وقت طويل بين الإسلاميين، فإنه ليس على الإنسان إلا أن يكون مخالفا، بحسب وصف المفكر جاسم سلطان، حتى “تتحول العلاقة إلى حرب وإن كان رفيق درب طويل، وتصبح الخصومة معه أشد وأقسى ويصل التجريح إلى مداه، حتى يصير كل شيء في حقه مستباحا، وتُطلق أوصاف مثل أن الدعوة تنفي خبثها، إلى شتى التهم بالعمالة والخيانة”[4].

وعلى الرغم من نظرة الريبة والشك في نيّات أولئك المطالبين بنقد ومحاسبة التنظيمات على أخطائها، فإن المنتمين للجماعات عادة ما لا يُحرّكون ساكنا في الكوارث الكبرى الإنسانية والدينية التي تقع فيها تياراتهم ذاتها، فواحدة من كوارث تعامل مكتب الإرشاد العام والتنظيم العالمي للإخوان كان مذبحة حماة 1982، ومع ذلك، لم تتم محاسبة مسؤول واحد. يقول د. عبد الله النفيسي عن تعامل مكتب الإرشاد مع مأساة حماة: “كانت تأتيهم الأخبار غير الدقيقة والتقارير التي أعدّها الهواة والشعراء والخطباء حول الوضع السياسي والعسكري في حماة. فتورطوا في تحريض الناس على المواجهة العسكرية مع الحكومة السورية آنذاك، وعندما سالت الدماء وطُحنت الرؤوس تحت الأنقاض ودمرت المدينة وزُهقت الأرواح، نفض مكتب الإرشاد العام يده من الأمر وأخذ يبرر ويتلعثم ويُسقط كل الإخفاقات على الجهات الأخرى، رغم أن جريمة حماة في الأساس هي جريمة قرار غير مسؤول وغير مدروس”، إلى أن يقول النفيسي: “كيف -إذن- تُجيز قيادة الجماعة المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هزيمة حزيران 1967 (القتلى 12 ألف جندي) ولا تقوم بمحاسبة مكتب الإرشاد على جريمة حماة (القتلى 30 ألف نسمة من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب)”[5].

يبدو جليّا إذن، أن الإشكال في تعامل كثير من الإسلاميين بانتقائية مع الخارجين عنهم من داخلهم، والسكوت في المقابل على أخطائهم الداخلية مهما عظمت، يرجع بالأساس للرغبة في الانتماء للتنظيم، ورفع راية الانتماء تلك فوق أي راية. وهو ما يثير التساؤل: هل كانت العلاقة القديمة للدعوة إلى الله حقا، أم لمصالح التنظيم؟! وهل هذه الأُخوة هي أُخوة في الله أم أخويات ضيقة لمصالح حزبية وتنظيمية، والتي ما تلبث أن تتفكك حين النقد، ولو كان موضوعيا.

المطاردات الأمنية.. خلق الأخويات الضيقة

“إن السمع والطاعة دون مناقشة أو مراجعة يُنتج أفرادا مشوهين تربويا غير قادرين على تحمل أعباء الحركة ومسؤولياتها، وينتج جماعة من المستهلكين غير المُنتجين، يأخذ ولا يُعطي، فيُصاب الفرد بعزلة عقلية وفكرية” 

(خالد داود – قيادي إخواني سابق)

حين نُبحر بعيدا عن تعاملات أصحاب التنظيمات مع المنشقين عن التيارات الإسلامية تحت وطأة “الأخويات الضيقة”، فإن حال الإسلاميين يغدو أسوأ حين التعامل مع المجتمع العام. حيث دفعت المطاردات الأمنية الإسلاميين لبناء سد في وجه “الآخر”، باعتباره تهديدا وجوديا لكيانية الجماعة، وبابا يمكن أن تدخل منه الرياح الأمنية لتعصف بالتنظيم، لينعزل الإسلاميون بذلك عن المجتمع الخارجي بالكُليّة.

منذ الاستقلال، نظرت أجهزة أمن الدولة في البلدان العربية الحديثة [هـ] إلى التيارات الإسلامية باعتبارها خصوما تهدد ركائز الدولة الوطنية الناشئة بعد الاستعمار. وهو ما استلزم تعامل الدولة مع هذه الجماعات بوحشية وقمع ممنهج في مواطن عديدة، وقد حرصت الأجهزة الأمنية على رصد حركة التيارات الإسلامية من “الهيكل الإداري، والتكوين الفكري، القوة العددية، والانتشار الجغرافي، ومراكز النشاط، ومصادر التمويل، وعلاقتها ببعضها البعض أو بغيرها من التيارات”[6].

 صاحبَ ذلك الرصد، تعرض العدد الأكبر من أبناء الحركات الإسلامية إلى المضايقات الأمنية، أو الحرمان من الوظائف المرموقة، أو التهميش الاجتماعي والسياسي، وصولا للسجن والاعتقال وربما الإعدام[7]. وعلى الرغم من أن الغرض الأساسي للسرية تمثّل في الحفاظ على الدعوة وهيكلها الإداري ومحاضنها التربوية، فقد أعاقت هذه السرية انفتاح الإسلاميين على المجتمع الخارجي، وبات الحديث من الإسلاميين إلى هذا المجتمع بشفافية ووضوح أمرا شاقا، وربما غير مستطاع من الأساس.

وعلى الرغم من أن هناك عوامل موضوعية، منحت الجماعة عذرا إلى حد بعيد في انتهاجها السرية نتيجة البطش الذي تعرضت له، إلا أن تلك المرحلة، امتدت لتصبح سَمتها الدائم مع المجتمع، وبمرور الوقت، ومع تأزم الوضع الأمني أكثر فأكثر، اتسعت عُزلة الإسلاميين عن المجتمع ليتحوّل عالم الإسلاميين إلى عالم ذي طابع خفي، يحمل معه سماته ومظاهره الخاصة، وبنيته الغريبة عن المجتمع العام، وهو ما أدى إلى زيادة التقارب بين أفراد هذا المجتمع وتوسيع لُحْمة الاندماج بينهم، والانعزال عن العالم الخارجي.

الأيديولوجيا وتعميق الأخويات الضيقة

“بعد فترة من الزمان في التنظيمات الشاملة، الأشياء التي تبدو غير معقولة تبدو طبيعية”

(ألكسندر شِتاين)

لم تكن السرية بحال سببا وحيدا في تعميق “الأخويات الضيقة” وعزل الإسلاميين عن غيرهم، حيث شكّلت “الأيديولوجيا” التي سعت التنظيمات لبنائها، لتشكيل حائط صد بنيوي، أي في بنية التنظيم نفسه، بدءا من مناهجه التربوية ووصولا للممارسة اليومية، إلى تعزيز تلك الهوة التي فصلت الجماعة عن المجتمع.

وبحسب الألماني كارل مانهايم[8] فإن الأيديولوجيا تصبغ التاريخ والمستقبل بلونها الخاص حين تُكسى بثوب فوق زماني في الماضي (super-temporal) ليصبح على المستقبل أن يتطور في اتجاه هذه الصورة المستلهمة من الماضي المُضيء، أي إن الأيديولوجيا ترسم صورة متوهمة عن الماضي والتاريخ، وصورة مثالية متخيلة للمستقبل.

كارل مانهايم عالم الاجتماع الألماني (مواقع التواصل)

بهذه الحيلة ذاتها استدعت التنظيمات الإسلامية صورا تاريخية مشرقة من الماضي، بُغية رسم فردوس أرضي خفي ينبغي الوصول إليه، وتمثّل غالبا عند الإسلاميين الحركيين في إقامة الخلافة الخاتمة وأستاذية العالم.

عملت الجماعات وفق تلك الرؤى على تدعيم الأيديولوجيا التي تتبناها بعدد من النصوص المُختارة بعناية لخدمة التصور “الطوباوي” الأيديولوجي الذي تتبناه ، لكن اللافت للنظر أن هذه النصوص تبدو مبتورة في الغالب عن سياقها، أو ذات وزن نسبي، أثقلته الأيديولوجيا [و].

وبحسب حنة أرندت فإن التنظيمات الشاملة لكي تعزز من أيديولوجيتها فلا بد لها من “الغموض المجتمعي، إذ يتفاعل أعضاؤها مع بعضهم البعض وفقا لقواعد عالم متوهم بينهم”[9]، وهو ما ينتج عنه من الأتباع الانخراط أكثر وأكثر في متوالية تراتبية نحو التنظيم بدافع تدعيم الأيديولوجيا والبُعد عن المجتمع الخارج عن هذه الأيديولوجيا، بل ونسج هواجس المؤامرة حول هذه المجتمعات.

بناء على هذا المفهوم النظري حول أهمية الأيديولوجيا في التنظيمات الشمولية، فإن هذه الأهمية ستؤدي في النهاية إلى محاولة خلق مجتمع موازٍ لدى أصحاب التنظيم يمارسون فيه طقوسهم الخاصة، والتي تتجلّى عبر الممارسات اليومية في المجتمعات الخاصة وفي أدق التفاصيل، بعيدا عن مساحات الحلال والحرام.

في كتابه “داخل الإخوان المسلمين”، يذكر الباحث خليل العناني[10] أن عملية بناء الأيديولوجيا للجماعة، وتحويل أفرادها إلى نسق منغلق على ذاته، تكون مقصودة في حَدّ ذاتها. إذ إن تلك الأيديولوجيا تؤثر في عملية إقناع الأتباع، وتُضفي حالة من الشرعية، وأحيانا القدسية، على الخيارات التي تميل لها التنظيمات. ومع الوقت يتم تغذية الانتماء عبر الممارسات اليومية داخل هذا النسق المغلق من الحياة الاجتماعية[11].

من دعوة المجتمع إلى الغربة عن المجتمع

“حين نعتزل الناس لأننا نحس أننا أطهر منهم روحا، أو أطيب منهم قلبا، أو أرحب منهم نفسا، أو أذكى منهم عقلا، لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا. فلقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل، وأقلها مؤونة! إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس، مُشْبَعين بروح السماحة، والعطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم، ورفعهم إلى مستوانا بقدر ما نستطيع!”

(سيد قطب)

اتسعت -مع الوقت- الفجوة لدى الإسلاميين وعموم المجتمع، حتى طالت أخص الناس مثل الأقارب والجيران، وهو ما أنشأ عالما، يمكن وصفه بالموازي عن العالم الأول. وتوسعت فكرة السريّة فوق الطبيعي -وبدون حاجة أمنية أحيانا- وتحت مضائق الأيديولوجيا “تم التشويش على كل علاقة، ولتولد شخصيات ترى العالم بمنظار شك وريبة للمجتمع الموبوء، والذي على الأخ أن يحتاط من كل شيء فيه دائما”[12]، ووصل هذا الانفصال ليطال الأسرة والسكن والتجارة والعمل.

سيد قطب، منظر إسلامي مصري (مواقع التواصل)

كان الدافع المركزي للإسلاميين حين نشأة هذا الميكانيزم الاجتماعي ذا غاية واضحة، تمثّل في الحفاظ على مفهوم “الصُّحبة الإيمانية، ومد روابط الأُخوة”. إلا أن ما لم يدركه بعض الإسلاميين أن تلك السمات التي بدت محددة لملامح الشخصية “المثالية”، كالصحبة الصالحة والتعاون على الخير وأعمال البر، ليس منحصرةً بتنظيمات الإسلاميين أو تياراتهم فحسب، وإنما يمكن أن تكون لدى كل مسلم. الأمر الذي جعل البعض يترفّع -دون وعي- عن المجتمعات الخارجة عن مجتمعه الصغير، مهما حوى أهل هذه المجتمعات من مفاهيم “الصلاح”. وليشيع مع تلك التحولات وصف المجتمع ب”الجاهلي” -وإن لم يُقصد بهذا الوصف التكفير للمجتمعات-. بيد أن -وللمفارقة- العديد من مظاهر هذه الجاهلية في المجتمعات الخارجية، من ترك لطاعات وارتكاب للسيئات أو وقوع في قوادح أخلاقية، متحقق كثير منها في أفراد وتيارات الإسلاميين أنفسهم، وهو ما يحتاج إلى المراجعة، وفق منطقهم، في نظرتهم وتقييمهم تجاه من خرج عن الدوائر التي صُنّف الناس على أساسها [ز].

ومن هنا، تجلّى أحد “أخطر” المظاهر التي طالت الإسلاميين، دون الوعي بمآلها، من تضييق على معاني “الأخوة الإيمانية” ذاتها، ونسيان ما يمكن وصفه بـ “رابطة الإسلام العامة”، ورفع رابطة الولاء للتنظيم الضيق فوق مرتبتها. وزاد من هذه الإشكالية استدعاء نصوص “الولاء والبراء” بمعناها العقدي أو نصوص الحث على “جماعة المسلمين وإمامهم” بمعناها السياسي، للتدليل على الانتماء التنظيمي، ولتتحوّل التنظيمات -في العقل الباطن لأصحابها- من “جماعة من المسلمين” إلى “جماعة المسلمين” وإن لم يتم التصريح بهذا. وهو ما يُفسر الشدة التي تعاملت بها التنظيمات مع الخارجين عنها -كما أسلفنا الإشارة- وتذكيرهم بوجوب لزوم جماعة المسلمين، ونسيان الكثير من فضائلهم، حتى وإن كانوا في العلم مثل الشيخ محمد الغزالي أو السيد سابق، وفي الجهد الحركي بوزن عبد المنعم أبو الفتوح.

عبدالمنعم أبو الفتوح المرشح لانتخابات رئاسة الجمهورية 2012 (مواقع التواصل)

يرصد د. عبد الله النفيسي أحد الأمثلة على هذا، فيقول: “ومن الملاحظ أن التنظيم الدولي للإخوان بدأ عبر لجنة العالم الإسلامي لمساندة أفريقيا السوداء، وهذه اللجنة يرأسها شاب كويتي -قليل التجربة كثير المال- للاتصال بالمجموعات هنا وهناك في آسيا وأفريقيا وتوظيف معادلة الثراء والفقر لإحكام السيطرة على الأنشطة الإسلامية. ولدينا معلومات مؤسفة عن نشاط هذه اللجنة بين الشعوب الإسلامية فحواها أن من يُبايع التنظيم الدولي للإخوان يتلقى الصدقات والزكوات والإعانات والدعم، ومن يرفض ذلك يُحرم من كل شيء، وهو نفس أسلوب تعامل مجلس الكنائس العالمي ووفود التبشير في أواسط شعوب آسيا وأفريقيا”[13].

فلكلور الاغتراب

“كنت أشعر ساعتها أن المجتمع غريب، كنت أقف بالساعات أمام المرآة أجمع الكثير من “طُرح” والدتي وأربطها على رأسي متفننا في عمامات كبيرة وملونة كالتي أراها في القصص المصورة التي تحكي عن الصحابة والفاتحين، ثم أنزع يد المقشة واستخدمها كسيف أجول به وأصول في صالة البيت”

(يوما ما كنت إسلاميا – المدرسة والدولة)

في الفيديو التالي، تناول أحد الشباب بشكل هزلي الفرق بين طقوس الإسلاميين وطقوس غيرهم من عموم الناس. ركّز التناول على أمور بسيطة من الممارسات اليومية، إلا أنه يُنبئ عن حجم الخلاف الكبير بين المجتمعين، فشكل المشاجرات والهيئة والملبس والرحلات يختلف بالكلية عما يحدث في “المجتمع الخارجي”. بعض ذلك ناتج عن حرص الإسلاميين على ترك المخالفات الدينية في طقوسهم اليومية، لكن البعض الآخر هو حالة من اغتراب الإسلاميين داخل المجتمع ذاته، وهو ما نجد شكل الممارسات الهوياتية طاغيا فيه على تفاصيل الحياة البسيطة، مما جعل المجتمعين لا يلتقيان إلا قليلا.

يرصد حسام تمام في كتابه “تحولات الإخوان المسلمين.. تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم”[14] تطور الإنشاد الديني لدى الإخوان، والذي كان بعيدا كل البُعد في كلماته ومفاهيمه عن تلك التي يعرفها المجتمع العام. وللمفارقة، فعلى الرغم من اتساع ما يُعرف بالغناء الإسلامي والنشيد الإسلامي إلى اليوم، فإن الإسلاميين لم يستطيعوا إنتاج أعمال يُكتب لها الانتشار خارج مجتمعاتهم.

فمذ بداية ما عُرف بالنشيد الإسلامي وهو يغلب عليه طابع “الأيديولوجيا”، ففي بداية ظهور النشيد الإسلامي كان نشيد “يا معشر الإخوان لا تترددوا” الذي كتبه الشيخ أحمد حسن الباقوري أشهر هذه الأناشيد، والذي لم يمس عموم الناس بالطبع.

“يا معشر الاخوان لاتترددوا *** عن حوضكم حيث الرسول محمد

نادتكم الفردوس فامضوا نحوها *** في دعوة الإسلام عزّوا واسعدوا”

ثم بتتابع وتأمل كلمات الأناشيد الأشهر، فإنها تتقاطع جميعها باعتبارها مُحمّلة بأفكار التنظيم والمجتمع الخاص أكثر من كونها موجهة لعموم الناس، مثل “لبيك إسلام البطولة كُلنا يفدي الحمى .. لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سُلما”، و”هو الحق يحشد أجناده، ويعتد للموقف الفاصل”، و”أخي أنت حُر وراء السدود”، و”بارودتي بيدي، وبجعبتي كفني”. فعلى الرغم من نُبل كثير من المعاني والكلمات فإنها لم تتطور لتصبح حالة مجتمعية عامة وإنما انحصرت في النسق المغلق للتنظيم، ولم يستطع الإسلاميون تطويرها لعموم الناس ولا إدماج المجتمع الواسع في هذا الفلكلور الشخصي الذي صنعوه [ط]، على الرغم من أن أغنية مثل “الحلم العربي” قد تناولت المفاهيم المجتمعية التي تصنعها الأناشيد وانطلقت خارج حدود الإسلاميين في الانتشار، وقريب من هذا “حمزة نمرة” في تطوراته الأخيرة.

كيف يمكن دعوة “المجتمع الغريب”؟

تعددت الكتابات -من مفكرين إسلاميين وعلماء بارزين- التي حثت الإسلاميين على مراجعة أفكارهم وتشكّلاتهم المجتمعية وخطابهم الدعوي لا سيما في العصر الحالي.[15] فترك التنظيمات فقط، لن يحل مشكلات الأيديولوجيا التي صاغها الإسلاميون لأنفسهم على مدار سنين، والانتماء حق مكفول، لكن الإشكال يكمن في عدم صبغ شكل العالم من خلال نظارة التنظيم.

ويمكن للإسلاميين الخروج من أزمة الأخويات الضيقة بتتبع عدد من المسارات، التي طرحها عدد من المفكرين، والتي ننهي معها عناصر التقرير [ي]: الأول: إعادة توزيع الأوزان النسبية لخطاب الإسلاميين المجتمعي، وتقليل حجم توغل الفلكلور الأيديولوجي، والمظاهر المخالفة للسائد المجتمعي ما دام في حيز الإباحة، مع مخاطبة المجتمعات بما يمسها وما هي في حاجة إليه، وليس بأهداف التنظيمات البعيدة فحسب، وذلك بُغية الإصلاح وليس إحداث القطيعة المجتمعية، أو ترسيخ العزلة الشعورية مع المجتمعات.[16]

الثاني: أن يكون هدف الإسلاميين حشد المجتمع للقضايا التي آمن المجتمع ذاته بها، وليس خوض حرب بالوكالة نيابة عن المجتمعات في هذه القضايا.[17] إذ إن الغالب هو فشل الإسلاميين في تحميل المجتمعات مسؤولية القضايا التي ينافحون لأجلها، ولم يستطع غير نفر قليل من الدعاة حشد المجتمع لهذه القضايا، وكان على الرأس منهم في الثورة خطابات حازم صلاح أبو إسماعيل، والتي كانت أكثر إقناعا لشرائح واسعة من الناس، رغم صرامة خطابه وراديكاليّته مقارنة بعموم الإسلاميين.[18]

الثالث: تخفيف الخطوط الفاصلة التي تصنعها الأيديولوجيا وتنمّيها التنظيمات والتي تعمل على التزهيد في الكفاءات غير المنتمية للتيار أو التنظيم، علاوة على رؤية الخير في عموم الناس الخارجين عن المجتمعات النسقيّة المغلقة.

الرابع: ترك التماهي بين التنظيم والأيديولوجيا وبين الإسلام، إذ إن الإسلام أوسع من حصره في صورة بعينها أو حيّز ضيق مهما حمل هذا الحيز أو الكيان من الخير بداخله، وتقبل النقد للأفكار والتيارات دون سحبها مباشرة على الإسلام، أو اعتبار كل ناقد عدوا للإسلام من حيث كونه دينا.

الخامس: استشعار الإسلاميين كأفراد وشائج الصلة بالمجتمعات المسلمة وإن حملت في طياتها أخطاء يحمل الإسلاميون مثلا، فلا تكون المفاصلة والعزلة هي الحل السريع والأسهل.

———————————————–

الهوامش

[أ] إلكسندرا شِتاين: محاضرة سابقة في علم النفس الاجتماعي، وتركّز أبحاثها على التطرف الأيديولوجي. كانت عضوة في منظمة توتاليتارية “شمولية/كُليانية” من قبل، وهو ما أثرى نظرتها الداخلية للتنظيمات الشمولية وتحليل سلوك أفرادها. والنقل بتصرف من بحثها “كيف تعمل التوتاليتارية؟” https://goo.gl/hqXtzh

[ب] ورد في الشرع الحنيف العديد من النصوص في الحث على الأخوة في الله، وولاية المسلمين عامة وجعل أساس العلاقة بين الناس على هذه الرابطة الإيمانية، وهو ما يُعرف في كتب الاعتقاد “بالولاء والبراء”. من هذه النصوص قوله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة”، وقوله تعالى: “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون”. وقول النبي: “أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله”، وقوله: “أن يُحب المرء لا يُحبه إلا لله”. لكن هذه النصوص عامة لكل المسلمين وليست خاصة لطائفة دعوية أو سياسية أو تنظيم بعينه، ومن الخطأ الشرعي الذي وقعت فيه بعض التنظيمات أن حصرت هذه النصوص بين أتباعها وتناست أخوة المؤمنين العامة مهما حملوا من الخير. وهذا من الإشكالات التي وقعت فيها بعض التنظيمات حال إنزال النصوص على غير محلها في الشريعة. فالأصل أن كل المؤمنين إخوة، حتى من جمع بين أفعال الطاعة والمعصية من المسلمين، فيُحب لطاعته ويُبغض لمعصيته.

[ج] يغلب على تعامل الجماعات العنف دوما مع المنشقين عنهم في العصر الحديث، وقد تتبعت ورقة “إشكالية المنشقين عن الإخوان، وتعاطي الجماعة معهم”، وكتاب “إخوان إصلاحيون”، وكتاب “اختلاف الإسلاميين” بعض هذه الحِدة والعنف الذي اتسمت به الجماعات مع المنشقين. فكُفران العشير ونكران الجميل هو جزاء من تعدى على قرارات الجماعة وإن كان أحد أعمدتها في فترة من الفترات، أو صار عضوا في مكتب الإرشاد، وهو ما حدث مع د. عبد المنعم أبو الفتوح حين أعلن ترشحه للرئاسة. وفي رأينا أن ذلك يُفسر شيئا من السلوك العدائي الذي يتخذه بعض الإخوان المنشقين على الجماعة، وأن ذلك رد فعل عكسي نتيجة التشويه ونكران الود الذي لقيه حين المخالفة، وقد ظهرت نماذج عديدة لذلك مثل كمال الهلباوي، وثروت الخرباوي، ومختار نوح، وآخرين من ناقدي الجماعة بكل نقيصة بعد خروجهم منها.

[د] لا نقصد هنا هدر أهمية المسائل العلمية الدقيقة وعدم الاعتناء بها، ولا التبرم من الأوصاف الشرعية لمستحقيها كالوصف بالبدعة وغيرها، وإنما الأمر في حدّة هذا وكثرة الردود ونكران كل شيخ/مدرسة لمحاسن مخالفه أو حتى خصمه.

[هـ] لا يشمل هذا كل البلدان العربية، ففي الخليج كان الوضع مختلفا نسبيا، لا سيما في المملكة السعودية إذ تحالف الإسلاميون السلفيون من أول يوم مع حكام الدولة.

[و] غالب استدلالات الحركيين من الإسلاميين لا غبار عليها من حيث ثبوت أصلها، إنما الإشكال يكمن في الوزن النسبي الذي يُحمّلونه المسائل من جهة، وفي أخذ مفهوم ديني وترك آخر لتكميل صورة الأيديولوجيا من جهة أخرى. ومثال ذلك الخلافة، فإن الإسلاميين استخدموا نصوصا ثابتة تشير إلى قيام خلافة آخر الزمان، لكن هذه النصوص لا تدل على الفردوس الأرضى الذي يعد به الإسلاميون ضمنا أتباعهم، وليس فيه أن الخلافة في آخر الزمان ستدوم وقتا طويلا، ولم تكن الخلافة الراشدة إلا ثلاثين عاما فقط، وهذا ما يدل على أن الخطاب الشرعي الذي يتبناه الإسلاميون للتدليل على أيديولوجيتهم رغم ثبوت أصله فإنه إما مرفوع فوق وزنه الكُلي في الشريعة، وإما مكسوّ بثوب الأيديولوجيا وليس إثباتا لنص شرعي.

[ز] كانت معايير التصنيف لملتزم وغير ملتزم غريبة بعض الشيء، فأحيانا الملتزم هو الملتحي أو المنتقبة، وغير الملتزم هو أي شيء آخر وإن كان من أهل الصلاح والعلم والتقوى. أو عند آخرين كان الأخ هو من انتمى للكيان، والإنسان العادي هو من لم ينتم مهما حمل هم العمل للدين والدعوة! وهذه النظرات تحتاج إلى مراجعات عديدة لا شك.

[ط] وليس هذا قدحا في أنماط هذه الأناشيد وإنما وصف للحالة المجتمعية، وإلا فالكاتب يحفظ العديد من هذه الأناشيد، ويرى في معانيها وكلماتها والمواقف التي كُتبت فيها نُبلا وعزّة ومحبة للدين.

[ي] تم تطوير هذه المسارات عبر عدد من النقاشات مع المهتمين بالشأن العام الإسلامي، ولم نعثر عليها مجموعة في كتاب مُوحّد، ويمكن مراجعة الكتب التي اهتمت بتقويم الحركات الإسلامية من الإسلاميين، مثل كتب عمرو عبيد حسنة، وفريد الأنصاري، وعبد الكريم بكار، وغيرهم.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى