كتابات

مكانة العقل في الاسلام

مكانة العقل في الاسلام

مقالات شرعية – محمد لافي

كثيراً ما يحاول أعداء الإسلام التسلل من باب “العقل” للطعن بدين الله، وذلك من خلال اتهام الإسلام بأنه دين يعتمد على الغيبيات، ويهمش العقل بشكل كامل ويبعده عن حياة المسلم الدينية والدنيوية، في محاولة منهم لتشبيه الإسلام بالنصرانية المحرفة، وبتعاليم الكنيسة التي كانت تصطدم دائما بالعلم والعقل، حتى قامت ضد تلك الهيمنة ثورة أقصتها عن مشهد الحياة وأودعتها جدران المعبد.

والحقيقة أن العلمانية “اللادينية” هي أكثر من يشن حملات التشويش على دين الله الإسلام من هذا الباب، نظرا لتغلغل العلمانية الغربية في كثير من بلاد المسلمين، وادعائها الاعتماد على العقل والعلم – وهي أبعد ما تكون عن تلك الدعاوى -، في مقابل اتهامها الإسلام باعتماده على الغيبيات.

ومن يدقق في كلام العلمانيين في جميع وسائل الإعلام، يرى التركيز على جانب الغيبيات في دين الله وكأنها كل الإسلام، في مقابل إغفال متعمد لمكانة ومنزلة العقل في دين الله، وتعتيم مقصود للتشريعات التي أحاطها الإسلام بالعقل لحمايته وصيانته من أسباب الفساد، سواء من حيث صلاحية وجوده أو حفظه من أسباب الزوال والانعدام.

والحقيقة أن محاولة العلمانية – وغيرها – الطعن في الإسلام من باب اللمز بمكانة العقل ومنزلته في خاتم الأديان، تحمل في ذاتها الرد على مزاعمهم الباطلة وادعاءاتهم الفاسدة، فمن درس الإسلام وعرف جوهره وحقيقته، علم مكانة ومنزلة العقل فيه، وتيقن أنه الدين الذي أعطى العقل حقه، وأنزله منزلته دون إفراط أو تفريط.

منزلة العقل في الإسلام:

لقد اهتم الإسلام بالعقل اهتماماً كبيراً، وأعلى من منزلته وقيمته، ويكفي ما ورد في كتاب الله تعالى من الآيات الكريمة التي تؤكد هذه الأهمية وتلك المكانة، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} الإسراء/70، ومن المعلوم أن من أبرز ما فضل الله به الإنسان على سائر مخلوقاته العقل.

ومن يدقق في آيات القرآن الكريم يلاحظ أن إعمال العقل بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل جاء دائما بصيغة المدح والثناء، ناهيك عن الحض والطلب، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…} يونس/101، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى…} الروم/8…

ويكفي الإشارة إلى أهمية “العقل” في كتاب الله أنها تكررت ومشتقاتها حوالي سبعين مرة، ناهيك عن الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية كالتفكر والتأمل والنظر بتمعن في آيات الله في الأنفس والآفاق، والتي لا يمكن حصرها من كثرتها في كتاب الله.

يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في منزلة العقل ومكانته في كتاب الله: “والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه”( (1).

بل يكفي الإسلام تكريماً للعقل وإعلاء من شأنه أن جعله مناط التكليف، فلا يتوجه الخطاب الشرعي إلا للعقلاء من البشر، بينما يسقط التكليف وترتفع المسؤولية عن فاقدي هذه النعمة الإلهية والجوهرة الثمينة، ففي الحديث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق) (2).

تشريعات الإسلام في حفظ العقل:

إن أول ما يشير إلى مكانة العقل في الإسلام هو اعتبار حفظه من الضروريات والمقاصد العامة الأساسية في دين الله تعالى، فمن المعلوم أن الضروريات الخمس الكبرى في الإسلام هي: حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وهي بمثابة المقاصد العليا لهذا الدين الحنيف، والكليات العظمى التي لا بد من المحافظة عليها لاستمرار الحياة.

ويظهر اهتمام الإسلام بحفظ العقل من خلال أمرين اثنين هما:

أولا: تشريعات تحفظ العقل من التعطيل والجمود والانحراف:

وهي في الحقيقة تشريعات تحفظ العقل من حيث وجوده، وذلك من خلال ذم تعطيل العقل وعدم إعماله فيما خلق له، والحض على النظر والتدبر في ملكوت الله وخلقه البديع، واستخراج ما في الكون من كنوز ومنافع لا يمكن استخراجها إلا من خلال إعمال العقل وعدم إهماله، قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} الغاشية/17-20، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} الأعراف/185….. وغيرها من الآيات كثير.

كما حث القرآن الكريم على تحرير العقل من مفسدة التقليد الأعمى لما كان عليه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، وقد ذم الله تعالى تقليد المشركين والكفار لآبائهم وأجدادهم، والركون إلى ما كانوا عليه من انحراف في العقيدة، وعدم إعمال عقولهم في الاستدلال على فساد ما كان عليه آباؤهم… قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} البقرة/170.

وإذا كان الإسلام قد حفظ العقل من خلال تحريره من مفاسد التقليد الأعمى، فإنه كذلك قد حفظه من خطر الانحراف والخروج عن نطاق ما خلق له، وذلك بوضع المنهج الصحيح للعقل للعمل والتفكير، ورفع العوائق والموانع التي تعطله عن وظيفته الصحيحة من أمامه، كاتباع الظن والأوهام والخرافة، والتحذير من اتباع الهوى عند إعمال العقل، ومن هنا ذكر العز بن عبد السلام في قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} البقرة/ 269، قال: هم من خلصت عقولهم من شوائب الهوى.

ومن يدقق في الفرق بين إعمال العقل في الإسلام وإعماله في المفهوم الغربي، يجد أن الهوى والغرور هما سمة إعمال العقل العلماني الغربي، بينما يجد الموضوعية والتوازن سمة إعمال العقل في الشريعة الإسلامية، حيث لم يقحم الإسلام العقل فيما لا شأن له به أو علاقة – كالغيبيات وما شابه ذلك – كما لم يقدسه أو يغتر به كما فعل ويفعل الغرب حتى يومنا هذا، رغم أن العلم الحديث يثبت يوما بعد يوم محدودية العقل التي أكدها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.

ثانيا: تحريم ما يفسد العقل حسياً ومعنوياً:

1- أما تحريم ما يفسد العقل حسياً: فقد حرم الإسلام كل ما يؤدي إلى الإخلال بالعقل وزواله كلياً أو جزئياً، وذلك من خلال تحريم المسكرات والمخدرات التي تغيب العقل وتعطله، وربما تؤدي إلى زواله بشكل نهائي بموت صاحبه أو جنونه في بعض الحالات، قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأنصَابُ وَٱلأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} المائدة/90-91

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى “فَاجْتَنِبُوهُ”: يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً.، وقال السعدي رحمه الله: “يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. {فَاجْتَنِبُوهُ} أي: اتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله (3).

والحقيقة أن حفظ الإسلام للعقل هو جزء من حفظه للنفس، فالعقل هو جزء من النفس الإنسانية، بل هو في الحقيقة الجزء الأهم من كيان الإنسان، يقول العز بن عبدالسلام: ” ونحفظ العقل لفوائده… ولا يجوز تخبيله بشيء من المسكرات إلا بإكراه أو ضرورة، ولا يجوز ستره بالمغفلات المحرمات، ويُستحب صونه عن الغفلة، وذلك بنفي أسباب الغفلات من الشواغل الملهيات” (4).

وفي تحريم الله تعالى الخمر وكل ما يذهب العقل ويغيبه تأكيد على اهتمامه بهذه النعمة العظيمة التي وهبها الله تعالى للإنسان، ورد واضح على كل من يشكك في منزلة العقل في دين الله، فمن المعلوم أن برهان الاهتمام بالشيء تشريع السبل والوسائل لحفظه وعدم التفريط به، وهو ما فعله الإسلام كدليل على منزلة العقل فيه.

أما العلمانية الغربية التي تتشدق بالعقلانية وتزعم أنها تقدس العقل وترفعه فوق كل اعتبار ديني أو دنيوي، فإن الواقع والحقيقة يكذبان ما ترفعه من شعارات، حيث لم تستطع حفظ عقول أبنائها من تغول الخمر والمخدرات عليها، رغم علمها الأكيد بأضرار الخمر ونتائجه الكارثية على هذه المنحة الإلهية العظيمة “العقل”.

وفي الوقت الذي حفظ الإسلام العقل من كل ما يمكن أن يؤذيه أو يضره بآية واحدة تحرمه ويلتزم بها المسلمون في كل أنحاء العالم، فشلت العلمانية الغربية في ذلك، رغم الجهود والأموال الطائلة التي تبذل في سبيل الحد من انتشار الخمر والمخدرات في مجتمعاتها، بل رغم التحذيرات التي تطلقها مؤسساتها الصحية بخطر تعاطي الخمر أو الإدمان عليه، والتأكيد بأن كأساً واحدة من الخمر يوميا تزيد فرص احتمال الإصابة بالسرطان بنسبة 168%.

ولم يكتف الإسلام بتحريم ما يفسد العقل حسياً، بل شرع عقوبة لكل من يتجاوز هذا التحريم، فيتناول ما يفسد العقل ويغيبه، فقد ورد في صحيح البخاري “أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين” (5).

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: “كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا أو فسقوا جلد ثمانين” (6).

2-  وأما حفظ العقل معنوياً: فمن خلال النهي عن تورط العقل بالولوج في متابهات المذاهب الضالة والعقائد الفاسدة والتيارات الفكرية المنحرفة، وما ذاك إلا لأن النظر في كتب أهل البدع والضلال يؤثر على العقل فتلتبس عليه بعض الشبه – وهذا طبعا بحق غير العلماء الذين يحسنون الرد على ما فيها من الباطل ــ .

ومن هنا جاء نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في التوراة وغيرها من الكتب المحرفة التي قد تفسد العقل وتشوش على المسلم، ففي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: “أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ وَقَالَ: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي‏) (7).

وختاماً لا بد من التأكيد على أن ما سبق من رفع الإسلام لمكانة العقل لا يعني أن نجعل منه مصدراً نستقي منه العقيدة، أو نجعله حاكـماً عليها، يقبل منها ما يدركه، ويرفـض ما لا يدركه أو ما لا يحيط به علماً، فلو كـان الله سبحانه – وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها – يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه الله تعالى للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم…

ولكن لما علم الله- سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى- بغير توجيه من الرسالة وعون وضبط – وقاصرة عن رسم منهج للحياة الإنسانية، يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة. لما علم الله- سبحانه- هذا: قضت حكمته ورحمته أن يبعث الرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء/15] (8).

_____________________

(1)  التفكير فريضة إسلامية ص7-8.

(2)  صحيح ابن ماجه للألباني برقم 1660.

(3)  الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/288 وتفسير السعدي 1/243.

(4)  شجرة المعارف ص380.

(5)  صحيح البخاري برقم6773.

(6)  صحيح البخاري برقم 6779.

(7)  رواه أحمد 14736، وحسنه الألباني في ” إرواء الغليل ” 6/34 .

(8) في ظلال القرآن 2/806.

المصدر: “موقع المسلم”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى