كتب وبحوث

مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 2 من 8

مصر ‘‘القبطيَّة’’ بين الفتح الإسلامي ومجيء الرَّبّ المرتقَب 2 من 8

 

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

 

سرْد مفصَّل لوقائع الفتح الإسلامي لمصر

يفنّد الدُّكتور جمال عبد الهادي، أستاذ الشَّريعة والدّراسات الإسلاميَّة بجامعة أمّ القرى بمكَّة المكرَّمة، في كتابه فتْح مصر (2013م) ادّعاءات المعرضين بشأن الفتح الإسلامي العربي لمصر، بإنهاء الحُكم الرُّوماني ونشْر رسالة الإسلام وتولية أحد صحابة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) عليها، عام 20 هجريًّا، الموافق لعام 641 ميلاديًّا، خاصَّةً ما يُزعم عن إجبار المصريين على التَّخلّي عن دينهم لاعتناق الإسلام؛ أي نشْر الإسلام بحدّ السَّيف، بتخيير مسيحيي مصر ما بين القتل أو دفْع جزية باهظة تُقل كواهلهم. يستهلُّ عبد الهادي تناوُله بالإشارة إلى قول الله تعالى﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[سورة البقرة: 256[؛ وكذلك إلى حديث النَّبيّ (ﷺ) الَّذي بشَّر فيه بفتح مصر وأوصى فيه بحُسن معاملة قبطها “إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا”، رواه مسلم (2543) عن أبي ذر (رضي الله عنه). يتبيَّن للقارئ منذ البداية أنَّ عبد الهادي يسعى من خلال مؤلَّفه إلى رسم “صورة صحيحة لتاريخ البشر على الأرض”، بعيدًا عن التَّضليل المتعمَّد في سرْد الوقائع التَّاريخيَّة (صـ5).

يبلور الكاتب في مستهلّ حديثه حقائق يعتبر إلمام الجميع بها في غاية الأهميَّة، وهي أنَّ “شعب مصر ينتسب في الأصل إلى المسلمين من ذريَّة النَّاجين من الطُّوفان مع نوح عليه السَّلام”؛ وأنَّ “شعب مصر يدين بالإسلام منذ أن وطأت أقدامه أرض وادي النّيل في وقت لا يعلمه إلَّا ربُّ العالمين، وقبل ميلاد إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السَّلام بقرون طويلة” (صـ7). ويوضح بيان الحقّ، سبحانه وتعالى، في مُحكم آياته أنَّ رسول الله يوسف (عليه السَّلام) قد أُرسل إلى أهل مصر لإعادتهم إلى جادَّة الصَّواب بعد انحرافهم عن التَّوحيد، وإدخال عقائد بدعيَّة على صحيح الإسلام. أوضح يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم (عليهم السَّلام) انتماءه الدّيني، الَّذي يشاركه فيه أسلافه من أنبياء الله ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ۝ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [سورة يوسف: 37-38[. واستنكر سليل بيت النُّبوَّة على صحابيه في السّجن عبادة فئة كبيرة من أهل مصر لأرباب متفرّقين، من دون الله الواحد القهَّار؛ حيث استخدم بيان الحقّ صيغة الجمع في نصّ عبارة الاستنكار الَّتي جاءت على لسان يوسف ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ۝ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 39-40[.

بقيت فئة أهل مصر على ملَّة التَّوحيد لعقود من الزَّمن، في ظلّ إمامة يوسف (عليه السَّلام) وتوجيهه، ولكن يؤمن جميعهم، وبخاصَّة الفئة الحاكمة، كما يتضَّح في قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون بعد بعثة موسى وهارون (عليهما السَّلام) ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ [سورة غافر: 34[. ويذهب بعض المفسّرين، وفق قول ابن عبَّاس (رضي الله عنهما)، إلى أنَّ المقصود بقوله تعالى ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ ليس يوسف بن يعقوب، إنَّما يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب، الَّذي بُعث نبيًّا في فترة مكوث بني إسرائيل في مصر، الَّتي تُقدَّر بـ 430 سنة، وفق ما جاء في سفر الخروج (إصحاح 12: آية 40). ويدلُّ وجود رجل مؤمن من بين آل فرعون على أنَّ رسالة الدّين الحقّ بقيت بين أهل مصر، برغم الانحراف العقائدي المتجلّي في تأليه البشر والاعتقاد في حلول الإله في جسد بشري. وقد عانى بنو إسرائيل قبل خروجهم من مصر من الاضطهاد الدّيني ومحاولة الفرعون تحريفهم عن صحيح الإسلام، وإن كانت هناك إشارة قرآنيَّة إلى أنَّ الَّذين استجابوا لدعوة موسى وأخيه لم يكونوا سوى فئة قليلة من الأجيال الجديدة لبني إسرائيل ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [سورة يونس: 83[.

ليس بجديد الإشارة إلى صراع بني إسرائيل مع رسل الله بسبب رفضهم صحيح الرّسالة السَّماويَّة ومعاندتهم في تطبيق الشَّريعة المنزَّلة اتّباعًا لأهوائهم وإرضاءً لمصالحهم الدُّنيويَّة، وفي ذلك يقول الله تعالى ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ [سورة المائدة: 70[. وينطبق ذلك على موقفهم من بعثة عيسى (عليه السَّلام) لمَّا جاء لتصحيح الانحرافات الَّتي أدخلتها التَّوراة المحرَّفة والدَّعوة إلى صحيح الإسلام، نابذًا بذلك اليهوديَّة وأباطيلها ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ [سورة الصَّفّ: 6[. وكان أهل مصر من القبط، نسبةً إلى انتمائهم إلى مصر وليس لاعتناقهم المسيحيَّة، من الأمم الَّتي اختصَّها النَّبيُّ (ﷺ) بالدَّعوة إلى الإسلام. وقد جاء في نصّ دعوته:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت، فإن عليك إثم القبط، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: 64[.

حال مصر تحت الحُكم الرُّوماني

يلقي عبد الهادي الضَّوء على حقيقة أنَّ كلمة قبطي لا علاقة لها بالاعتقاد الدّيني، أو اعتناق المسيحيَّة؛ إنَّما هي مشتقَّة من عبارة مصريَّة قديمة هي “hi ka ptah”، أو معبد الإله بتاح؛ ثمَّ تحوَّرت إلى هي كابتاح، ثمَّ إلى ايجبتوس. رزحت مصر تحت وطأة الاستعمار الرُّوماني منذ عام 47 قبل الميلاد، وحتَّى منتصف القرن السَّابع الميلادي، وهي فترة شهدت تحوُّل الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة إلى المسيحيَّة في القرن الرَّابع الميلادي، بعد استبدال المعبود الوثني بيسوع النَّاصري، باعتباره ابن الإله، كما ينطبق على الآلهة الوثنيَّة الَّتي عبدها الرُّومان من قبل. استغلُّ المستعمر الرُّوماني القبط في أعمال شاقَّة تدرُّ الرّبح، لا سيّما زراعة الغلال والحبوب؛ حتَّى صارت مصر سلَّة غذاء رومانيَّة. لم يسلم القبط من بطْش المستعمر الرُّوماني، الَّذي أعمل فيهم شتَّى وسائل القمع، واستنزف أموالهم بالضَّرائب. وكان قساوسة الكنيسة القبطيَّة من أكثر الَّذين لاقوا العناء من الرُّومان، سواءً قبل دخولهم المسيحيَّة أو بعده؛ حيث أفضى الاختلاف المذهبي إلى نزاعات عقائديَّة دفعت رجال الكنيسة القبطيَّة إلى الفرار إلى الصَّحاري. كما سبقت الإشارة، تكوَّنت صورة المسيح لدى الرُّومان عند دخولهم المسيحيَّة على نسَق اعتقادهم في آلهتهم الوثنيَّة؛ فاعتبروه نص إله، أي يجمع بين الصّفات البشريَّة الإلهيَّة. في حين يعتبر الأقباط المسيح تجسيدًا للإله، وليس مجرَّد بشر اكتسب صفات إلهيَّة. ووصل الاضطهاد الرُّوماني لمسيحيي مصر ذروته في عهد قيرس، أو المقوقس، حاكم مصر الرُّوماني الَّذي وجَّه النَّبيُّ (ﷺ) له دعوة دخول الإسلام، والَّذي كُلّف بإجبار المسيحيين من القبط على اعتناق العقيدة الكاثوليكيَّة؛ حتَّى اضطر الأب بنيامين، بطريرك اليعاقبة، إلى الهروب إلى الصَّحراء، حيث مكث 13 عامًا، ولم يخرجه من مخبأه سوى جيش دولة الخلافة الإسلاميَّة. ويقول عبد الهادي عن اضطهاد الرُّومان للقبط (صـ25):

تعاقبت الاضطهادات واستخدم أباطرة الرُّومان مع النَّصارى عمومًا، ومع شعب مصر على وجه الخصوص، كافَّة ألوان التَّعذيب الوحشي، من حرْق وسلْخ ونشْر ورجْم وتقطيع أعضاء وتهشيم أسنان وضرْب بالسّيوف وإلقاء إلى الوحوش المفترسة وسجْن…وازداد الأباطرة ونوَّابهم على المستعمرات غيظًا، فبعد أن كانوا يعمدون إلى قتْل الأفراد أخذوا يبيدون قرى ومدنًا بأكملها بما فيها الكنائس، وكان بطارقة الكنيسة القبطيَّة وعدد وافر من أساقفتها ورهبانها وعلمائها وقودًا لهذه المجازر الرُّومانيَّة.

لم يتوقَّف الاضطهاد على المسيحيين الأرثوذكس بسبب رفْضهم التَّحوُّل إلى المذهب الكاثوليكي، بل امتدَّ إلى المخالفين في الفكر والاعتقاد من اليهود والفلاسفة. هنا يتساءل الكاتب “هل تعرَّض أقباط مصر لما تعرَّض له المسلمون على يد الصّرب الأرثوذكس في البوسنة والهرسك وكوسوفا؟ …لقد آن لنا أن ندرك أنَّ الرُّومان الَّذين أذاقوا الأقباط أشدَّ صنوف العذاب، هم الَّذين ترى أحفادهم في مجلس العموم البريطاني، والكونجرس الأمريكي، والإعلام الغربي يتباكون على حقوق الأقباط المضيعة في مصر…ويطالبون بالتَّدخُّل لحمايتهم، إنَّهم الذّئاب يرتدون مسوح الغنم لإشاعة الفتنة في ربوع مصر الحبيبة والعالم الإسلامي” (صـ27-28). لا شكَّ في أنَّ بعثة النَّبيّ (ﷺ) كانت بالهدى ودين الحقّ ليظهر الله تعالى على كافَّة العقائد الدّينيَّة المنحرفة، الَّتي تناحرت فيما بينها وتشبت بين أبنائها العداوة والبغضاء بقدر الله. وكان البلاء الشَّديد الَّذي وقع بأهل مصر على أيدي الرُّومان من أهمّ دوافع شنّ حملة عسكريَّة لفتحها وتخليص أهلها من جبروت المستعمر الأوروبّي. وتسجّل صفحات التَّاريخ للصَّحابي رِبعي بن عامر التَّميمي مقولته للقائد الفارسي رستم خلال أحداث معركة القادسيَّة “الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء مِن عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتَّى نفضيَ إلى موعود الله”. أبى أمير المؤمنين، عُمر بن الخطَّاب (رضي الله عنه وأرضاه)، أن يظلَّ أهل مصر تحت وطأة الاستعمار الرُّوماني، خاصَّةً وأنَّ شوكة الرُّومان قد كُسرت في الشَّام، الَّتي فُتحت عام 636م وتسلَّم أمير المؤمنين مفاتيحها بنفسه. عقد عُمر اجتماعًا مع خاصَّته من رجال الدَّولة الفتيَّة، واتَّخذ قرار الحرب، وعهد إلى عمرو بن العاص بقيادة جيش الفتح.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى