مرسي آخر ضحاياه.. كيف تحول القضاء المصري من حماية القانون إلى انتهاكه؟

مرسي آخر ضحاياه.. كيف تحول القضاء المصري من حماية القانون إلى انتهاكه؟

إعداد إبراهيم هلال

كان لمشهد الموت المهيب للرئيس المصري المعزول محمد مرسي في ساحة من ساحات “القضاء المصري” إيقاع تراجيدي مؤلم، فالساحات التي لطالما درس طلاب الحقوق والقانون أنها مكان لإقامة العدل وحماية المظلوم وملجأ الضعفاء من بطش السلطة، تحولت مع إيقاع نبرات “محمد مرسي” التي تستجدي مجرد مراجعة وضعه الصحي ووجبات طعامه إلى مساحات خوف مظلم ومقلق.

فقد كان القضاء المصري رغم الاختراقات السلطوية المتعددة مساحة للمعارضة المصرية طيلة 30 عاما للرد على تجاوزات السلطة الإدارية والأمنية، وطالما كان النظام يقوم بعمليات اعتقال وفصل للمعارضين ثم ينتهي الأمر بالإفراج في ساحات القضاء، وتزايد النظر للقضاء كمساحة يمكن مواجهة السلطة فيها قبيل أحداث ثورة يناير، خاصة مع دخول القضاة في معركة الاستقلال ضد تغول دولة مبارك.

يبقى التساؤل حاضرا الآن مع مشهد سقوط أول رئيس منتخب متوفيا أمام أعين المحكمة، كيف تحول القضاء المصري -بهذه الجذرية- من ساحة للمعارضة إلى أداة مطلقة للبطش والظلم؟

نص التقرير

في 12 مايو/أيار من عام 2003 أصدرت الدائرة الأولى من محكمة النقض المصرية، التي تألّفت من المستشار حسام الغرياني وعبد الرحمن هيكل ومحمد شتا وهشام البسطويسي ورفعت حنا، حكما ببطلان نتائج انتخابات مجلس الشعب التي أُجريت في 8 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000 بدائرة قسم الزيتون في القاهرة بموجب الطعنين 959 و949 لسنة 2000، وكان الفائز حينها عن مقعد الفئات في تلك الدائرة هو زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية، والأمين المساعد للحزب الوطني المنحل. (1)

كان هذا الحكم بمنزلة الشرخ الأول في جدار دولة مبارك الفاسدة، والذي سيملأ سقفها لاحقا بالتشققات، ستكون ذروتها مع احتجاجات “استقلال القضاة” التي انضم إليها عدد كبير من النشطاء والسياسين والحركات الاحتجاجية في الشارع المصري، مكونة موجة الحركة الاحتجاجية التي تصاعدت بعد ذلك ممهدة الطريق لثورة يناير بداية عام 2011.

لكن، رغم وجود تيار “استقلال القضاة” في قلب الثورة المصرية، وما بعدها، فإن الأمر سينقلب رأسا على عقب بداية من عام 2012، حيث بدأ ظهور تصريحات رئيس نادي القضاة “أحمد الزند” المعادية للثورة بشكل عام وجماعة الإخوان المسلمين وسلطة الرئيس السابق “محمد مرسي” بشكل خاص، وبدأت المحكمة الدستورية العليا في سلوك مسلك معادٍ لسلطة الدولة ومحاولة عرقلتها بشكل صريح، حتى انتهى الأمر باشتراك عدد من القضاة وبعض المؤسسات القضائية، في حركة الانقلاب العسكري، ثم تنصيب عبد الفتاح السيسي جنرالا عسكريا على مصر، يحكمها بالحديد والنار، وأتاح له الغطاء القضائي والتشريعي فعل ما يحلو له من عزل وقتل وسحل واعتقال، وقضاء على المبادئ والمطالب، التي قامت من أجلها ثورة يناير، فكيف نفهم موقف القضاة داخل الساحة السياسية؟ وكيف كان دورهم فعالا في الواقع الذي نعيشه اليوم في مصر والعالم العربي الذي تأثر بدوره بما حدث في مصر من انقلاب عسكري وانتهاكات واضحة للدستور والقانون؟

 أحمد الزند،  رئيس نادي القضاة (الجزيرة)

   

“إن في مصر قضاة لا يخشون إلا الله”.. جذور احتجاج القضاة

انتهى حكم المستشار حسام الغرياني وهشام البسطويسي وزملائهما إلى “تقرير بطلان الانتخابات محل الطعن”، ورفض هؤلاء القضاة تدخل المستشار فتحي خليفة رئيس محكمة النقض حينذاك في قرارهم دفاعا عن استقلال القضاء، فعندما علّق “خليفة” على النسخة الأصلية للقرار وتعييب إجراءات التحقيق والقرار الصادر فيهما طالبا إعادة عرض الطعنين، ردت اللجنة على “خليفة” قائلة: “فلا صفة لرئيس المحكمة في التعقيب عليها أو إملاء طريق معين للتحقيق، أو توجيه الدائرة أو أحد من أعضائها في شأنها” (1)، وبدأت المناوشات بين نظام مبارك ودولته وبين مؤسسات القضاء في الاحتدام حتى جاءت الانتخابات البرلمانية في عام 2005.

شهدت انتخابات عام 2005 وصول نسبة غير مسبوقة في التاريخ المصري من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلى البرلمان، حيث بلغت 88 مقعدا، وحُسمت أغلبية هذه المقاعد في الجولة الأولى في السابع والثامن من نوفمبر/تشرين الثاني. فيما استخدم النظام العنف في الجولات التالية لمنع تحقيق الإخوان نسبة ضخمة تُحرج الحزب الوطني وتكشف حقيقة شعبيته الضعيفة (2)، وحسب الدكتور المفكر عزمي بشارة، قام نظام مبارك بالتواطؤ مع بعض القضاة المشرفين على العملية الانتخابية بتزوير نتائج عدد من الدوائر الانتخابية لمنع وصول مرشحي الإخوان بنسب كبيرة إلى البرلمان، إلا أن الجهة الوحيدة الرسمية التي كشفت هذا التزوير كان “القضاء”.

بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية، نشرت الصحف المصرية شهادة من داخل مؤسسة القضاء قلبت الموازين السياسية وقتها (3)، فقد نشرت الصحف شهادة المستشارة نهى الزيني، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية، بشأن تجاوزات فاضحة وقعت خلال مشاركتها في الإشراف القضائي على الانتخابات البرلمانية في دائرة بندر دمنهور في نوفمبر/تشرين الثاني 2005، وتزوير نتائج الانتخابات لصالح مرشح الحزب الوطني الحاكم حينذاك “مصطفى الفقي” على حساب مرشح جماعة الإخوان “د. جمال حشمت”، وفي تلك الشهادة حذرت الزيني مما أسمته “القضاء المنبطح” قائلة: “مع الأسف، من لم يرهبهم سيف المعز تراخت إرادتهم عن ذهبه وبدلاته ومكافآته وانتداباته في السلطة التنفيذية، حيث يتحول الجميع جالسين أو واقفين إلى مرؤوسين لوزراء تنفيذيين منبطحين أمام توجيهاتهم حريصين على عدم ضياع مكتسبات مادية مغرية استبدلوها باستقلالهم وشموخهم وترفّعهم عن الشبهات”. (4)

الأمر الذي خرجت “حركة استقلال القضاء” لتؤكّد عليه، وتتصدر المشهد على أساسه. فكان حراك نادي القضاة قد بدأ في 13 مايو/أيار 2005 بتجمع عدد كبير من القضاة للتداول في شأن إشرافهم على الاستفتاء الخاص بتعديل المادة 76 من الدستور، والتي ينتقل بموجبها انتخاب رئيس الجمهورية في مصر من الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر، وفي شأن إشرافهم أيضا على انتخابات رئيس الجمهورية والانتخابات البرلمانية، وتعليق هذه المشاركات كلها إن لم تصدر السلطة مشروعها بتعديل قانون السلطة القضائية، وتعديلات أخرى على قانون مباشرة الحقوق السياسية، كي يكون إشرافهم على الانتخابات كاملا وحقيقيا وفاعلا، لكن النظام المصري بسلطتيه التشريعية والتنفيذية لم يعبأ بتلك المطالب. (5)

مما دفع نادي القضاة للتصعيد بإعلانه خلال اجتماع جمعيته العمومية مقاطعته الإشراف على العملية الانتخابية الرئاسية، ما لم تتوافر ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات من خلال إصدار قانون للسلطة القضائية يكفل استقلالها، لكنّ القضاة المنفعلين عاودوا التعديل على قرارهم، من أجل عدم تفويت فرصة الانتقال من طريقة الاستفتاء إلى الانتخاب المباشر، بيد أن النادي قد أكّد خلال انعقاد جمعيته العمومية غير العادية في الثاني من سبتمبر/أيلول 2005 أنه لا يتحمل أي مسؤولية أمام الرأي العام المصري والعالمي في حال لم يؤخذ بشروط، أهمها وجود مراقبين من منظمات المجتمع المدني داخل لجان التصويت. (5)

كان نادي القضاة بصدد التصعيد لأعلى درجة مع النظام، فكان يرى نفسه ممثلا لسلطة مماثلة لسلطة الحكومة ورئيس الجمهورية نفسه، وهي السلطة الثالثة المشكلة للدولة بعد السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، لذلك وفي خطوة غير مسبوقة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك على الأقل، دعا النادي إلى تدخل القوات المسلحة لحماية القضاة خلال المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية التي استخدم فيها الأمن و”البلطجية” القوة على الصناديق، ورغم أن أحدا لم يأخذ هذه الدعوة بجدية فإنها تكشف بشكل واضح أنه منذ تلك الفترة انتشر انطباع حتى في أوساط القضاة أن الجيش يمكنه أن يوازن قوى الحزب الحاكم والأمن الداخلي التي تستخدم البلطجية (5)، وهو الأمر الذي أعادت قوى “الثورة المضادة” استخدامه مرة أخرى ضد الرئيس المعزول “محمد مرسي”.

وفي خطوة تصعيدية جديدة، أصدر نادي القضاة بعد الانتخابات تقريرا كشف فيه عن التجاوزات القانونية للعملية الانتخابية، وأن نسبة المشاركة لم تتجاوز 5%، وليس 50% كما أعلنت السلطات الرسمية. وفي إثر هذه الخطوة استُبعد نحو 1500 قاضٍ من الإشراف على الانتخابات البرلمانية التي عُقدت بعد شهرين من الانتخابات الرئاسية، وهي الانتخابات التي فضحتها شهادة المستشارة نهى الزيني ثم خرج نادي القضاة ينتقدها مرة أخرى مؤكدا شهادة الزيني (5)، بل وقف المستشار أحمد مكي ومحمود مكي وزكريا عبد العزيز وحسام الغرياني والمئات من شيوخ القضاة وشبابهم على سلالم دار القضاء العالي مرتدين أوسمتهم، يلفّهم علم ضخم لمصر، بلغ طوله 30 مترا، يطالبون باستقلال القضاء، ويقفون موقف الند للنظام السياسي كله. (6)

وفهم النظام السياسي الرسالة بوضوح، فجاء فعله مفصحا عن رده، حيث أُحيل محمود مكي وهشام البسطويسي إلى لجنة الصلاحية تمهيدا لفصلهما، وبعدها أُحيل حسام الغرياني ويحيى جلال وعاصم عبد الجبار وناجي دربالة إلى التحقيق في أبريل/نيسان 2006، عقابا لهم على مطالبتهم باستقلال القضاء. (6) كانت المعركة قد اشتعلت بالفعل، وليس هناك متسع للتراجع، فهؤلاء القضاة كانوا يدركون بوضوح أن أي كلمة أو حركة يُقدمون عليها تُشكّل خطرا ليس على النظام السياسي فحسب، بل على بنية الدولة من الداخل وهيكلها القانوني كله، معركة تتصادم فيها سلطتان من سلطات الدولة المصرية، فأعلن نادي القضاة دخوله اعتصاما مفتوحا في مقره، وفاحت رائحة الاحتجاج فساقت حركات الاحتجاج في الشارع المصري والتي بدأ دورها في التفاقم حينذاك. (7)

محمود مكي (مواقع التواصل)

وبالموازاة مع اعتصام نادي القضاة، خرجت تظاهرات متزامنة مع جلسات المحاكمة، كما تضامنت حركة “كفاية” والمجموعات المرتبطة بها وجماعة الإخوان المسلمين مع القضاة المعتصمين، ونُظّم عدد من الفعاليات المؤيدة لاعتصام القضاة الذي بدأ 18 أبريل/نيسان 2006، وفي صباح 19 أبريل/نيسان 2006، انضم مجموعة من الشباب والفتيات والمثقفين والناشطين إلى الاحتجاج واعتصموا أمام نادي القضاة، ووزعوا منشورات وحملوا لافتات تؤيد الاعتصام وتدعو الشعب المصري إلى الانضمام إليهم، وظهرت الهتافات المؤيدة لقضاة من أجل الاستقلال، وردد المتظاهرون: “يا قضاة يا قضاة.. خلصونا من الطغاة”، و”إن في مصر قضاة لا يخشون إلا الله”، و”ياقضاة إحنا معاكم.. شعب مصر كله وراكم”. (7)

ترجم النظام السياسي حينذاك اعتصام القضاة والتفاف المجموعات الشبابية الاحتجاجية حولهم بتصعيد شديد اللهجة، وفي 24 أبريل/نيسان قامت قوات الأمن بمحاصرة مقر الاعتصام بأعداد كبيرة، وهاجمت الشباب الذين قُدّر عددهم ساعتها بنحو 30 شابا فقط، وصادوا متعلقاتهم ولافتاتهم واعتقلت بعضهم، لكن الأكثر صدمة، والدليل على أن النظام السياسي قد ضاق ذرعا بهؤلاء القضاة، هو قيام مجموعة من الضباط وأفراد الشرطة بالاعتداء بالضرب على عدد من القضاة حين خروجهم من ناديهم، ومنهم القاضي محمود حمزة الذي نُقل إلى المستشفى في حال سيئة، بعدما تسبب الاعتداء عليه وجره على الأرض بكسر ذراعه. لكن الرقع اتسع على الراتق، حيث تضامنت كثير من القوى السياسية والنقابية من الأقاليم مع القضاة وأيّدت مطالبهم وحراكهم، واستقبل نادي القضاة في 26 أبريل/نيسان 2006 وفدا من محافظات الدلتا يضم ممثلين عن نقابات المحامين والصيادلة والمهندسين، وعن جماعة الإخوان المسلمين وأحزاب الوفد والتجمع والغد، وفي اليوم التالي تمكّن القضاة مع محتجين متجمهرين في نقابتي المحامين والصحفيين من المسير نحو محكمة النقض للاحتجاج على جلسة المحاكمة الأولى للمستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي، ثم أصدرت المحكمة في مايو/أيار 2006 حكما ببراءتهما. (7)

واستمرت المواجهات التصعيدية بين القضاة والنظام حتى أيقن نظام مبارك أن أمر القضاء يحتاج إلى تدخل من داخل مؤسسة القضاء نفسها وخلخلة تكتل نادي القضاة، وهو ما حدث عندما انتهت ولاية المستشار زكريا عبد العزيز في رئاسة نادي القضاة وأجرى النادي انتخاباته في 13 فبراير/شباط 2009، وفاز بها المستشار أحمد الزند المحسوب على نظام مبارك، بدعم من أمن الدولة والحزب الوطني، وأحمد الزند نفسه الذي مثّل أحد أقطاب الثورة المضادة في المرحلة الانتقالية بعد ثورة يناير وفي عهد محمد مرسي، والذي سيكون له دور بارز في التمهيد للانقلاب العسكري.

المحكمة الدستورية العليا.. قلعة نظام مبارك المحصنة

بعد قيام ثورة يناير وتنحي مبارك عن رئاسة الجمهورية وتكليفه المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، تولى المجلس العسكري كل خيوط السلطة في مصر، لكنه عرقل عملية تفكيك النظام، لأنه في النهاية جزء منه، فلم يلغ الجيش قانون الطوارئ المفروض منذ عام 1981، ولا أوقف محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية، ولم يفكك جهاز الأمن سيئ السمعة، بل اتجه إلى التحالف مع جهاز الشرطة لتساعده في إتمام استقرار الأمن الداخلي. (8)

أما بالنسبة لعملية الانتقال الديمقراطي، فقد كان المجلس العسكري دائما قادرا على السيطرة على نتائج العمليات الانتخابية، وقبل أن يتولى محمد مرسي رئاسة مصر، حُلّ البرلمان وصدر إعلان دستوري منح المجلس العسكري الصلاحيات التشريعية بدلا من البرلمان كي لا تنتقل إلى الرئيس المنتخب، كما منحه حق تكوين جمعية دستورية، فضلا عن الاحتفاظ بالصلاحيات كلها المتعلقة بشؤون القوات المسلحة (8)، ويعلق عزمي بشارة قائلا: “كان ذلك الإعلان الذي صدر في أغسطس/آب 2012 بمنزلة انقلاب عسكري بصياغة قانونية”، وكان المفتاح وراء فهم هذا الانقلاب هو “المحكمة الدستورية العليا” التي أصدرت حكما بحل البرلمان بناء على عدم دستورية القانون الانتخابي، وأقرت الإعلان الدستوري للمجلس العسكري.

كان المجلس العسكري قد اكتسب شرعية دستورية بإدارة المرحلة الانتقالية بعد الاستفتاء على بعض المواد الدستورية المعدلة والتي جرى الاستفتاء عليها في 19 مارس/آذار 2011، حيث ألغى المجلس العسكري دستور 1971 وأصدر إعلانا دستوريا يحكم المرحلة الانتقالية باختيار 55 مادة من الدستور القديم. واكتسبت اختصاصات المجلس العسكري شرعيتها من هذا الإعلان، وتنتقل إلى المؤسسات المدنية المنتخبة بموجبه، ويفسر المستشار طارق البشري ذلك الأمر قائلا: “المجلس العسكري لاحظ أن دستور 1971 كان سينقل السلطة منه إلى المجلس النيابي فور انتخابه أو قبل انتخابه، لأنه وفقا لأحكام هذا الدستور فإن رئيس الجمهورية إذا خلا منصبه أو عجز عجزا دائما عن العمل، يتولى الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، فإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية، لذلك قرر إعداد إعلان دستوري، وهذا القرار يرد بفقه الثورة حسبما سبقت الإشارة اعتمادا على الأمر الواقع الذي أسفرت عنه عملية نقل السلطة السياسية فعلا”. (8)

بيد أن الفخ الذي وقعت فيه القوى الثورية والسياسية هو أنها أجرت الحياة السياسية الجديدة بعد ثورة يناير تحت مظلة البنية القانونية والدستورية القديمة، التي صُمّمت لصالح النظام القديم، ومن هنا أصبح للمحكمة الدستورية العليا وهوام ديوانها يد عليا على كل مجريات الحياة السياسية، يوضح عزمي بشارة ذلك قائلا: “إن سن القوانين هو الأداة الرئيسة لتقييد مؤسسات النظام القديم، ومنها القضاء الذي ما زال قائما على بنية صنعها مبارك، والذي سيتحول إلى إدارة رئيسة في تقييد الهيئات المنتخبة وشلها تمهيدا لإطاحتها. بدأت معركة مبكرة بين المجلس والقضاء بشقه الموالي للنظام القديم، وفي مقدمه أحمد الزند رئيس نادي القضاة، الذي تصاعدت مواجهاته مع البرلمان حتى معركة حل المجلس، ومن بعدها مواجهة الرئيس محمد مرسي”. (8)

ونتيجة لكل تلك الإجراءات الخاطئة التي ارتكبتها القوى السياسية، أصبحت يد حركة “استقلال القضاء” مغلولة، لا تمتلك سلطة تناور بها، فقد ألقت القوى السياسية السلطة كلها في ملعب المجلس العسكري وقلعة المحكمة الدستورية العليا التي لم يمسها أي تغيير، بينما وقفت القوى الثورية خارج ذلك الملعب تضرب رؤوسها في جدرانه، فحتى بعدما قامت المحكمة الدستورية العليا في الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 2012 بحل مجلس الشعب المنتخب، الهيئة المنتخبة الوحيدة شعبيا، لم تنشب أي انتفاضة ضد حكم المحكمة، ولم يدافع الشعب عن سلطته المنتخبة وفق إرادته، بل استبشرت القوى السياسية بالقرار لأنه جاء ضد خصومهم من الإسلام السياسي الذي كان له النصيب الأكبر داخل البرلمان. (8)

أما القوى الثورية والشارع المصري فافترشوا الأرض متفرجين ولسان حالهم يقول: “لم ينضم مجلس الشعب إلى الجهد الثوري لمحاكمة مبارك، ولم يضع قوانين تتعلق بإفساد الحياة السياسية والاستبداد، مع أن هذا كان واجبه التشريعي الأول، ولم يتحرك في هذا الشأن إلا بعد أن طرح حزب الحرية والعدالة مرشحا رئاسيا. حينئذ وضع قانون العزل السياسي على جدول أعماله، فبدا كأنه يقوم بذلك بهدف حزبي يرمي إلى عزل منافسيه.. كما أنه حاول سن قوانين لتغيير بنية المحكمة الدستورية عندما كانت تناقش مدى شرعية مجلس الشعب بمناقشة قانونه الانتخابي”. (8) ويضيف عزمي بشارة: “من غرائب مجلس الشعب أنه أضرب عن العمل أسبوعا عندما أخفق في إسقاط الوزارة لعدم توافر السلطات الدستورية لديه”.

وفي حين أن الثورة تعني تغيير نظام الحكم من خارج الدستور القائم، “ولا توجد ثورة في العالم تحتكم إلى محكمة دستورية سابقة، بل عليها تغيير الدستور، وهذا لن يحدث تحت ظل محكمة دستورية تحمي الدستور السابق والنظام القديم وتحاصر أدوات تغييرهما وتعتبرها غير شرعية”، انشغل مجلس الشعب بالتنافس الحزبي كأنه برلمان حاكم في ديمقراطية عريقة. وبينما كانت العمليات الانتخابية هي الجزرة التي ألقاها المجلس العسكري والدولة العميقة للقوى السياسية، كانت المحكمة الدستورية العليا وأعضاؤها هم الخنجر الذي طعن به نظام مبارك الثورة عدة طعنات، لكن المعركة بين القوى السياسية وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون بحكم توليهم للسلطة وبين المحكمة الدستورية العليا ستشتعل لتحرق الجميع.

فلنحتكم إذًا للدستور.. لكن أي دستور؟

كان أكثر ما استدعى المحكمة الدستورية العليا بالتدخل وإصدار حكمها ببطلان قانون الانتخاب وعدم شرعية البرلمان هو قانون العزل السياسي الذي ناقشته جلسات مجلس الشعب، والذي كان يقترح منع أي شخصية سابقة في نظام مبارك من العمل السياسي لمدة 10 أعوام، وادّعت المحكمة الدستورية وأعضاؤها أن ذلك بمنزلة تدخل بمبدأ الفصل بين السلطات، واستغل فقهاء دستوريون هذه النقطة للدفاع عن المحكمة الدستورية، وما جعل موقف المحكمة ومناصريها قويا هو “الحق الدستوري” الذي تمتلكه المحكمة في التدخل في قرارات مجلس الشعب إذا تناقضت مع مبادئ الدستور في نظام ديمقراطي، وهي أصلا قائمة لهذا الغرض، “أي لتفسير الدستور وحمايته من تقلبات الأكثرية والأقلية، ومحاولات تجاوز مبادئ التعاقد الاجتماعي القائمة في الدستور التي يقوم عليها النظام السياسي”. (8)

لكن السؤال هو أي دستور تحتكم إليه المحكمة الدستورية العليا؟ وأي دستور يحتكم إليه مجلس نواب الشعب الذي يسيطر عليه تيار الإسلام السياسي؟ يعلق المفكر عزمي بشارة قائلا إن لسان حال الفقهاء الدستوريين والقوى السياسية كان يجب أن يكون: “ليس لدينا مانع من تدخل المحكمة الدستورية في قرارات مجلس الشعب، لكن ليس هذه المحكمة الدستورية وليس هذا الدستور، وإن من يحق له ضبط عمل الأغلبية في برلمان ديمقراطي هو دستور ديمقراطي جديد يعبر عن قيم الثورة، ومحكمة دستورية ملتزمة بالقيم الديموقراطية، لا قيم النظام القديم الذي قامت الثورة من أجل تغييرها”. (8)

المفكر عزمي بشارة (مواقع التواصل)

وأضحى المجلس العسكري والمحكمة الدستورية العليا هم من يمسكون بلب الدولة المصرية ولجام الساحة السياسية بسيطرتهما على أحقية إصدار إعلانات دستورية أو أحكام يمكنها عرقلة أي خطوة سياسية أو هيئة منتخبة بحجة عدم دستوريتها، فمثلا في 14 يونيو/حزيران 2012 منح وزير العدل الشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية حق اعتقال المدنيين (سلطة الضبطية القضائية)، وفي السابع عشر من الشهر نفسه، أي بعد الانتخابات الرئاسية، وقبل أيام قليلة من إعلان نتيجتها، أصدر المجلس العسكري إعلانا دستوريا مكملا تضمّن عددا من المواد التي تحد من صلاحيات الرئيس الجديد الذي سيفوز في الانتخابات، “ونص في المادة 60 مكرر على حق المجلس العسكري في التدخل في تكوين الجمعية التأسيسية، إذا حدث ما يعرقل عملها.. وحق الفيتو على الدستور، الأمر الذي عنى أن الرئيس المنتخب سيكون موظفا عند المجلس الأعلى للقوات المسلحة”. (8)

الأمر الذي علق عليه المستشار طارق البشري قائلا: “أي إعلان دستوري يُصدره المجلس العسكري بعد انعقاد مجلس الشعب في 23 يناير/كانون الثاني الماضي منعدم قانونا، وليس من حقه حتى بعد حكم الدستورية العليا أن يُصدر أمرا يتعلق بالإعلان الدستوري، ولا يجوز له التدخل بالتعديل أو الإلغاء في أي نص دستوري أو قانوني منظم للمدة المتبقية من الفترة الانتقالية”، وعلى سؤال هل يجوز للمجلس العسكري إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور قال: “لا، وإلا أصبح مخالفا للإعلان الدستوري الذي أصدره هو، والمواد التي استفتى عليها الشعب في 19 مارس/آذار”. وعلى ما أُشيع في تلك الفترة عن أن الرئيس الجديد سيحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا أو المجلس العسكري في ظل غياب مجلس الشعب قال البشري: “لا يوجد نص ينظم الحلف أمام المحكمة، كما أنه لن تكون هناك صفة للمجلس العسكري بعد انتخاب الرئيس ليحلف اليمين أمامه” (9)، لكن ما حدث يخالف ذلك تماما.

سيدي القاضي.. “فيك الخصام وأنت الخصمُ والحكمُ”

بعد فوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية، وعلى عكس الأعراف الدستورية وكل ما يمس الثورة بصلة، أقسم الرئيس المنتخب اليمين الدستورية في 30 يونيو/حزيران 2012 أمام المحكمة الدستورية العليا التي كانت قد حلّت البرلمان المنتخب وتنتمي بشكل واضح إلى نظام مبارك. لكنه في 8 يوليو/تموز 2012، أي بعد أيام قليلة من توليه مهمّات منصبه، أصدر مرسي القرار رقم 11 لسنة 2012 الذي نص على عودة انعقاد مجلس الشعب الذي حلّته المحكمة الدستورية. (10)

لكن المحكمة الدستورية المبجّلة قد استبقت الجميع وأصدرت حكما برئاسة المستشار ماهر البحيري قضى بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية بإعادة المجلس، وقفزت القوى السياسية تحلق بمنطاد هوائي عليه لافتة “المعارضة” تتهم مرسي بالمس بسلطة القضاء واستقلاله، وظهر المجلس العسكري “كحامي حمى استقلال القضاء! وتكرر الأمر ذاته عندما أصدر مرسي قرارا بإقالة النائب العام، فلا جرى الحفاظ على السلطة القضائية بعيدا عن الصراع الثوري، ولا جرى طرح عدالة انتقالية بقضاء استثنائي يتلاءم وما أتت الثورة لتغييره في النظام القديم، بشرعية الثورة، وعبر عملية تغيير جذرية، وأثار هذا النوع من المعارك مع القضاء من دون وجود بديل انتقالي أو ثوري جدي حفيظة كثير من القانونيين” (10)، خاصة تيار استقلال القضاء في عهد مبارك.

وتطور الأمر إلى مواجهة بين محمد مرسي وأنصاره وبين مؤسسة القضاء، خاصة المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا، التي أصدرت في 22 سبتمبر/أيلول 2012 حكما بزوال مجلس الشعب بقوة القانون في ضوء حكم المحكمة الدستورية العليا. (11) وكان رد مرسي أنه استغل الحكم الذي قضت به محكمة جنايات القاهرة في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 2012 برئاسة القاضي حسن عبدالله، ببراءة جميع المتهمين في قضية “موقعة الجمل”، التي وقعت في الثاني من فبراير/شباط 2011 في ميدان التحرير والمنطقة المحيطة به، وقُتل فيها متظاهرون سلميون، وكان الأربع والعشرون شخصية سياسية المتهمة بارتكابها مرتبطة بالنظام السابق والحزب الوطني، وقد صدر القرار على أساس “عدم استعداد النائب العام للمحكمة لناحية كفاية الدلائل وتناقض الإفادات”. (12)

فاستغل مرسي ذلك الحكم، وأصدر بعد يومين من صدوره، أي في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2012، قرارا بإقالة النائب العام عبد المجيد محمود، وتعيينه سفيرا لمصر في الفاتيكان، وجاء القرار في سياق إعلان دستوري يتضمن عزل عبد المجيد محمود وتعيين طلعت إبراهيم مكانه. وهو القرار الذي قلب الشارع المصري والقضاة حتى المستقلين منهم والمعارضة والجيش وجل مؤسسات الدولة على مرسي، الأمر الذي أعطى الإشارة الخضراء للثورة المضادة وبداية الترتيب للانقلاب العسكري على مرسي وثورة يناير كلها.

“سكتُّ فَغَرَّ أعْدَائي السُّكوتُ”.. الحرب بين مرسي والقضاء

جاء قرار مرسي بعزل النائب العام عبد المجيد محمود في أجواء استقطابية شديدة، وتحت دعوى عدم دستورية القرار والتمسك باستقلال القضاء رفض النائب العام الاستجابة للقرار، وأعلن أنه مستمر في عمله، ورغم أن مطلب إقالة “عبد المجيد محمود” قد رفعته القوى الثورية في ميدان التحرير خلال أيام ثورة يناير والمظاهرات التي تلتها فإنهم بمجرد صدور قرار عزله انضموا إلى المعترضين على القرار، وادعوا أن القرار هدفه “أخونة النيابة”، وجاءت لزيارة النائب العام شخصيات عُرفت بتأييدها لثورة يناير مثل حمدين صباحي. (12)

لكن المفكر عزمي بشارة علّق على الأمر قائلا: “لم يستند هذا الموقف في رأينا إلى شجاعة فردية، بل كان مسنودا من أجهزة الدولة العميقة. كما أعلن رئيس نادي القضاة من رجالات عهد مبارك أحمد الزند في اجتماع طارئ تضامنه مع النائب المُقال. وجدير بالذكر أن موقف الزند هذا لم يكن الأول من نوعه في تصديه للهيئات المنتخبة، ويمكن القول إنه كان رأس حربة داخل السلك القضائي في مناهضة التحول الديمقراطي، ويشار هنا إلى أنه سبق أن حرض القضاة ضد مجلس الشعب المنحل معتبره شوكة في ظهر مصر”. (12)

أما ناثان براون فيقول: “لجأ مرسي إلى مجموعة جريئة من التدابير التي سعى من خلالها إلى تجاهل القوانين والإجراءات المعمول بها عبر تغيير النظام الدستوري الانتقالي ليتناسب مع أهدافه، وقد أفادت تلك الإجراءات من الحصانة التي يمنحها إياه دستور عام 2012 وتحول دون إمكانية تحديها، أو على الأقل هذا ما بدت عليه الأمور إلى أن قامت هيئة قضائية في محكمة استئناف القاهرة مكلفة بالنظر في النزاعات المتعلقة بأعضاء السلك القضائي بنقض قرار مرسي بإقالة عبد المجيد محمود”. (13)

ويعلق المستشار طارق البشري واصفا الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي بـ “المنعدم” فيقول: “وصفت قرار محمد مرسي إقالة النائب العام بالعدوان على السلطة القضائية الذي لا أظن أنه حدث من قبل في تاريخ مصر.. وأضفت في تصريحات خاصة لجريدة الشروق: من الغريب حقا أن يأتي رد فعل الرئيس هكذا، رغم أن النائب العام لم يحقق أصلا في هذه القضية الخاصة بموقعة الجمل، بل حقق فيها قضاة تحقيق منتدبون من قِبل وزير العدل السابق محمد عبد العزيز الجندي.. وأشرت وقتها أننا ندفع ثمن الخطأ الذي وقع بعد اندلاع الثورة، وهو عدم إقامة محاكمات ثورية استثنائية بعيدا عن النيابة والمحاكم القائمة للقضاء على رموز وأذناب النظام السابق، فمحاكمة المتهمين بارتكاب “موقعة الجمل” في ظل الظروف التي بوشرت فيها التحقيقات صعبة للغاية، لأنه لا توجد أدلة مادية حقيقية على هؤلاء المتهمين..

وشددت على أنه لا يجوز لقاضٍ أن يحكم إلا إذا توافر لديه الدليل القوي على المتهم، والنيابة العامة أو قضاة التحقيق لا يسألون عن الأدلة، لأنها من اختصاص البحث الجنائي والشرطة فقط، بالتالي ما يحدث الآن هو تحميل القضاء أكثر من طاقته، وانتقدت بشدة العلاقة بين الهيئات السياسية والقضاء.. وقلت: لما كان مجلس الشعب قائما لم يصدر قانونا للعزل السياسي إلا عندما تقدم من أغلبيته مرشح للرئاسة وتقدم ضده مرشح آخر ينتمي للنظام القديم، وعندما شعر المجلس بأن القانون سيبطل حتميا في المحكمة الدستورية العليا، وهو ما حدث فيما بعد، لجأ إلى تهديد المحكمة بإدخال تعديلات على قانونها، وهذا أمر مرفوض، واليوم يتكرر بشكل آخر بصدور قرار جمهوري غير سليم بإقالة النائب العام مما يدل على نظرة مرفوضة تماما للهيئات القضائية”. (14)

وكانت نتيجة تلك الموجة هي تراجع مرسي عن قرار الإقالة، ليُرضي جميع الأطراف الغاضبة، لكنه عاد وأصدر إعلانا دستوريا آخر في 22 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2012، ليكون هذا الإعلان فرصة قوى الثورة المضادة وبقايا نظام مبارك بتسديد أقوى ضربة لمرسي، وقلبت عليه الشارع المصري بشكل غير مسبوق. ففي تلك الأثناء كانت اللجنة التأسيسية لوضع الدستور تعمل على قدم وساق لتقديم دستور جديد للبلاد، لكن في السادس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2012 حشدت المعارضة في ميدان التحرير بهدف إسقاط مرسي، أو هكذا صرح بعض ممثليها، وفي 20 من نوفمبر/تشرين الثاني 2012 حوصر مقر الجمعية التأسيسية، وأبلغ أفراد جهاز الأمن أعضاءها أنهم غير مسؤولين عن سلامتهم، لكنهم رفضوا الخروج من المقر (15)، وعندما شعر مرسي بتحرك المحكمة الدستورية نحو إصدار حكم بحل الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور أصدر إعلانه الدستوري.

فقد أصدر مرسي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 إعلانا دستوريا أثار جدلا واعتراضا وغضبا غير مسبوق، بسبب ما تضمنه الإعلان من تحصين مرسي قراراته من أشكال الطعن فيها كلها، وكذا تحصين الجمعية التأسيسية ومجلس الشورى من الحل وإجراءات تعيين النائب العام. فتوالت ردود الأفعال ضد الإعلان الدستوري على مستويات عدة، وكان أهمها مستوى القضاء الذي “تحول إلى أداة لشل المؤسسات المنتخبة وتقويض عملية الانتقال الديمقراطي، فأعلنت الجمعية العمومية الطارئة لنادي القضاة الاعتصام ضد الإعلان الدستوري، كما أعلنت محكمة النقض تعليق أعمالها، فيما وصفت المحكمة الدستورية ما يحدث أنه ابتزاز للقضاء”. (15)

ومن هنا بدأت الحشود والحشود المضادة، تكونت “جبهة الإنقاذ الوطني”، ودُقت طبول الحرب واشتعل الشارع المصري. وفي الأول من ديسمبر/كانون الأول 2012 حاصر عدد كبير من أنصار مرسي مقر المحكمة الدستورية العليا في كورنيش المعادي، استباقا لنظر المحكمة في اليوم التالي في دعاوى قضائية تطالب بحل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور ومجلس الشورى، واستمر الحصار نحو شهر، إلى أن أنهت الجمعية التأسيسية أعمالها، وجرى الاستفتاء على الدستور الذي حاز أغلبية الأصوات.

لكن الأمر لم ينته، ففي 21 أبريل/نيسان 2013، أي قبل الانقلاب بشهرين، قضت المحكمة الإدارية العليا بوقف تنفيذ القرار رقم 134 لسنة 2013 الصادر عن رئيس الجمهورية بدعوة الناخبين إلى انتخاب مجلس نواب جديد، ثم في 2 يونيو/حزيران 2013، قضت المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخابات مجلس الشورى، وبطلان الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، بعد نحو عام من حكم ببطلان انتخابات مجلس الشعب، كي تستقبل مصر الانقلاب العسكري بلا أي هيئة منتخبة، وتفسح المجال لقوانين العسكر، لكن أين كان تيار استقلال القضاء من كل ذلك؟

مرسي يخسر حليفه الأخير.. انسحاب تيار القضاء المستقل

في 21 أبريل/نيسان 2013 قدم وزير العدل المستشار أحمد مكي استقالته إلى مرسي على خلفية أزمة قانون السلطة القضائية، وكان من المفترض أن يناقش مجلس الشعب هذا القانون، قبل أن تقطع المحكمة الدستورية الطريق على هذه الخطوة وتصدر قرارها بحل البرلمان في يونيو/حزيران 2012، وحين بدأ مجلس الشورى بمناقشة القانون، بدأ بعض القضاة من أعضاء نادي القضاة اعتصاما في نهاية مايو 2013 احتجاجا على مناقشة هذا القانون الذي يضع القضاء حسب قولهم في قبضة السلطة التنفيذية. (15)

كان المستشار أحمد مكي، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، قد تولى الحقيبة الوزارية مع حكومة الدكتور هشام قنديل حتى مايو/أيار 2013، وظل طوال فترة توليه تحاصره تهمة ولائه لجماعة الإخوان على الرغم من اعتراضه على الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسي، ثم جاءت استقالة مكي من منصبه بعد إصدار قانون السلطة القضائية دون عرضه على القضاة، قائلا في نص استقالته لـ “مرسي”: “لقد كلفتني عبء وزارة العدل ومعارضوك يلحون في الاستقالة، اتفاقا مع مواقفي السابقة.. وبالأمس وتحت شعار تطهير القضاء وإصدار القانون الجديد للسلطة القضائية اجتمع مؤيدوك على طلب إقالتي تحقيقا لأهدافهم النبيلة، وهكذا تحقق التوافق.. وقد آن الأوان لتحقيق أمنيتي في إزاحة هذا العبء عن كاهلي، فأناشدكم أن تستجيب فور الاطلاع على هذا الكتاب.. حفظكم الله، وحفظ مصر لمؤيديك ومعارضيك، وحفظكم منهم جميعا”. (16)

لكن موقف مكي لم يكن موقفا شخصيا بحتا، فقد كان يُمثّل موقف قضاة “تيار الاستقلال” الذين رأوا في ذلك القانون أزمة كبيرة، حيث يسمح للسلطة التنفيذية بالتدخل في أمر تشكيل اللجان القضائية والذي علق عليه المستشار طارق البشري تعليقا طويلا في جريدة الشروق المصرية (17)، إلا أن الأمر كذلك يشمل قانون “خفض سن تقاعد القضاة” الذي كان المحامي عصام سلطان قد طرحه للمناقشة في مجلس الشعب.

وقد علق عليه المستشار طارق البشري أيضا قائلا: “هذا القانون جريمة ضد مبدأ استقلال القضاء، لأنه في حقيقته قرار بعزل آلاف القضاة من مناصبهم، تماما مثل النص الذي وضع في الدستور لتحديد عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا، وخفضهم إلى رئيس و10 أعضاء فقط، لإبعاد عدد من أعضائها”.

وأضاف: “الواقع الآن يؤكد وجود محاولات من السلطتين التنفيذية والتشريعية للتدخل في عمل السلطة القضائية، وفرض الوصاية عليها، ومحاولة النيل من استقلالها الذي اكتسبته على مدار عشرات السنوات”. حيث يرى البشري أن الدولة المصرية الحديثة قامت منذ نحو 150 عاما على عمادين أساسيين، هما القوات المسلحة والقضاء، ومثّل استقرار هاتين المؤسستين وقدرتهما على الاستمرارية وتعبيرهما عن عموم المجتمع المصري أهم ضمانات تماسك جهاز الدولة المصرية. (18)

بيد أن هاتين المؤسستين اللتين تشكلان عماد الدولة المصرية قد تسببا في ضياع الانتقال الديمقراطي، والتمهيد للانقلاب العسكري، الذي حدث يوم 3 يوليو/تموز 2013 حيث تم عزل محمد مرسي والقبض عليه، ثم سيطرة الجيش على مؤسسة القضاء وتسييسها لصالح النظام العسكري الجديد، فتوالت أحكام القضاء الجائرة بالمؤبدات والإعدامات، التي قتلت آلاف المصريين على المشانق أو داخل السجون، وبعدما كان الهتاف في الشارع المصري: “إن في مصر قضاة لا يخشون إلا الله” أصبح: “إن في مصر قضاة لا يخشون حتى الله”.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى