تجديد الفكر الإسلامي بعد رحيل د. محمد مرسي

تجديد الفكر الإسلامي بعد رحيل د. محمد مرسي

سري سمور

لماذا يُطلب فقط من المسلمين مراجعة فكرهم، وتجديد فـقههم، وتغيير خطابهم، دون سائر الملل الأخرى في هذا العالم؟ وهل حقا يحتاج الفكر الإسلامي إلى تجديد وإعادة نظر في بعض أو جميع جوانبه، وهل علينا النظر بطريقة أخرى إلى تاريخنا، بما في ذلك عهد النبوة والخلفاء الراشدين؟ أعلم أن من يوجه هذه الدعوات في الغالب من أبناء المسلمين، وخاصة ممن يحسبون على النخبة، ولم نسمع البابا ولا حاخام ولا كاهن يقول للمسلمين افعلوا هذا. ولكن في حقيقة الأمر فإن وراء هذه الدعوات مؤثرات خارجية قوية.

المحن والهزائم

يذكرني الحال الإسلامي العامي بحالة خاصة هي وطني فلسطين وشعبها الذي أنا منه؛ فإضافة إلى النكبة التي شملت التهجير والقتل والإحلال، يطلب وبقرارات دولية مجحفة من الضحية الفلسطيني أن يعترف بحق الجلاد الإسرائيلي في اغتصاب أكثر من ثلثي أرضه، بل والإقرار أنها له ومسالمته واعتباره الأخ والصديق، هذا هو الواقع الحقيقي بعيدا عن الكلام المنمق.

والمسلمون تنهب أرضهم -لا ننسى أن فلسطين أرض إسلامية- وتسرق وتسلب ثرواتهم وتدمر بلادهم، ويسلط عليهم أراذلهم كي يحكموهم بالحديد والنار، ثم يقال للمسلمين إن دينكم بحاجة إلى تجديد أو إلى فهم مختلف! وهذا الطلب العام أحيانا يشار به على حركات إسلامية أخفقت هنا أو هناك، ومبدئيا من ينجح وينجز عليه مراكمة النجاح وتحصين مواطن القوة، والعمل على معرفة نقاط الضعف لإزالتها، ومن يفشل أو يخفق عليه القيام بمراجعة شاملة ودقيقة لتحديد أسباب الفشل أيا كانت معنوية أم مادية والانطلاق من جديد بعد الاستعداد الجيد الذي قوامه تجنب عوامل الفشل. ولكن المراجعة والتقييم في لحظات الضعف الإنساني قد تأتي بنتائج عكسية، واستغلال الهزيمة من أجل تغيير المبادئ أمر خطير للغاية.

المراجعة بعدما جرى لمرسي

وللتوضيح؛ أعلن في مصر الإثنين 17 حزيران 2019م عن وفاة الرئيس المصري المنتخب د. محمد مرسي -رحمه الله- في أثناء محاكمته بتهمة غريبة وهي التخابر مع قطر وحماس! وفي هذا الظرف كيف تكون المراجعة وإعادة النظر؟ هل بالصفح عمن تسبب بموت الرئيس المنتخب الأول في تاريخ مصر، وقبول الانقلاب ونتائجه، وتغيير المبادئ والتنكر للقيم والأفكار بدعوى التجديد والمراجعة؟ هذه ستكون بمثابة كارثة أخرى تحت عنوان المراجعة والتجديد. إنما المراجعة والتجديد بدراسة المرحلة الحالية والسابقة؛ وإعادة النظر في كل الخيارات السياسية وتقييم الوسائل والأدوات، والإقلاع عن فكرة إمكانية إصلاح النظم الفاسدة من داخلها، لأن الثورة تعني التغيير، وليس القبول باللعب في ميدان الدولة العميقة. يجب أن تكون المراجعة عقلانية ولكن لا تستبعد العاطفة، وليست تحت تأثير فشل أو خسارة أو هزيمة سياسية أو عسكرية أو غير ذلك.

لقد أصيب المسلمون في أحد واستشهد 70 صحابيا منهم أسد الله حمزة بن عبد المطلب فأنزل الله تعالى آيات بينات في سورة آل عمران تعطيهم والتابعين إلى يوم الدين دروسا وعبر: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (آل عمران 165). فالسؤال عن سبب المصيبة والقرح طبيعي حتى من الصحابة، وقد جاءهم الجواب بأن سبب ذلك مخالفتهم الأمر النبوي المعروف في تلك الغزوة. ولكن يجب ألا تأتي المراجعات بدسائس ومؤثرات من أعداء الأمة كي تجهز على ما تبقى من عوامل قوة ولو معنوية في صفوفها. فالمراجعة مطلوبة بعدما جرى للرئيس مرسي ولكن ليست مراجعة الواقع تحت صدمة وتأثير الهزيمة النفسية وقبول شروط وقواعد اللعبة التي رسمها من يريد نسفه تماما!

مراجعات الجماعة الإسلامية

الجماعة الإسلامية في مصر في تسعينيات القرن الماضي قامت بمراجعات داخل السجون، خلصت فيها إلى نبذ ما عابت على الإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات الإسلامية تركه والإحجام عنه؛ أي رفع السلاح في وجه الدولة المصرية وأجهزتها، واستهداف السياحة بهدف ضرب الاقتصاد، وأصدرت مطبوعات حول الأمر، وأفرج عن بعض قادة الجماعة المعتقلين.

مع أنني ضد أسلوب الجماعة المذكور، والذي يدل على أنهم لم يفهموا طبيعة الدولة التي فيها ولدوا وعاشوا ودرسوا وعملوا، بحيث يحسبون أن قتل السياح سيفت من عضد عسكر يمسكون بمفاصلها، والمتضرر هو سمعة الحركات الإسلامية في الداخل، وصورة الإسلام في الخارج، وقوت المواطن المصري العادي الذي يعيش على السياحة.. كما أن الدولة البوليسية هي التي جرّت الجماعة إلى ذلك المربع، واعتاشت من تلك الحقبة على رواية محاربة التطرف والإرهاب، وشغّلت معها جوقة الدراما وبقية سحرة فرعون الذين لم يؤمنوا مثل أسلافهم! مع كل ذلك فإن مراجعات خلف قضبان الأسر ستحكم بواقع نفسي وظرف موضوعي ليس مناسبا للانطلاق من جديد، وهي تشبه تزيين القبول بالهزيمة ونتائجها!

مرحلة ما بعد 11 أيلول 2001

أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وما تلاها نجم عنها ورشة لا تكل ولا تمل، تطرح فكرة إعادة النظر في الفكر الإسلامي؛ طبعا بعضها متطرف ووقح طالب بشطب الإسلام كمرجعية ثقافية للأمة، علما أن الإسلام مغيب عن صنع القرار السياسي ومعظم المنهج الاجتماعي منذ ضعف وسقوط الخلافة العثمانية. طبعا هذا غير ممكن لأن القرآن الكريم عصيّ على التحريف محمي من الزيادة والنقصان، فأتوا بفكرة (تفسير عصري للقرآن الكريم) هذا والقرآن نزل بلسان عربي مبين وبعضهم لا يمكن أن يكتب فقرة إلا ببضع أخطاء إملائية ونحوية واضحة، كما صبوا جام حقدهم -وما زالوا حتى الآن- على الأحاديث النبوية الشريفة-وهي محفوظة حفظا ربانيا كالقرآن- وطلبوا بوقاحة استبعادها.

هنا وقع بعض المخلصين والغيورين تحت تأثير الضغط وكأنهم يريدون إنقاذ السفينة بالموافقة على إحداث خرق فيها، فصارت تأتينا آراء غريبة، فتجرأ بعض المتحدثين الجدد باسم الدين على إصدار فتاوى غريبة وشاذة، ولم يتورع آخرون عن المس بأقلامهم وألسنتهم بشخصيات جليلة مبجلة من الصحابة والتابعين والعلماء والخلفاء؛ فذاك يتجرأ على أبي هريرة وهذا ينال من البخاري وآخر يغمز من قناة عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم أجمعين. كان الخضوع بفعل الخوف لتقبل دعوات التجديد وإخراجها بكلام جميل جاذب وأسلوب لم يعتد عليه الناس، وهي تميّع الدين، بمثابة هزيمة نفسية بفعل الضغط الأمريكي. والنتيجة أن الغرب لن يشبع؛ فهو يطلب قيودا على تعدد الزوجات -مثلا- الآن وصولا إلى منعه، ومسلمون يبررون ويظهرون مساوئ التعدد، وما دروا أن الغرب سيطلب، بل هو يطلب ونفوذه قوي في بلاد العرب والمسلمين عموما، إباحة زواج الشواذ (المثليين) وقد يبدو الأمر صعبا بل محالا، وكذلك كان ما نراه من تشريعات ولوائح قبل عقود أو قبل قرن، لم يكن أحد يتخيلها، فقد غزونا في عقر دارنا!

حديث التجديد

حسنا، وماذا عن الحديث الشريف الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا “إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” أفلا يدل على أن التجديد هو سنة الله الماضية في هذه الأمة؟ قلت: أنعم وأكرم والحديث ينص على تجديد الدين، لا هدمه وتمييعه بدعوى تجديده، ولن يحمل لواء التجديد من لا يصلي أو لا يحسن الوضوء، ومرتبط نفسيا أو ماديا بدوائر تتربص بالإسلام والمسلمين الدوائر… فهذا كيف نقول إنه مثل عمر بن العزيز أو ابن حنبل أو الشافعي أو غيرهم من المجددين (التجديد ليس بالضرورة لشخص بعينه بل “من” تحتمل معنى الجماعة). رحم الله الدكتور محمد مرسي، ونصر الله من يسعى لتجديد دين الأمة بردها إليه لا بإخراجها منه!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى