كتب وبحوث

مراجعة كتاب العقل غير القابل للاختزال.. العلم ووجود الروح

مراجعة أحمد عبد العزيز

الروح هي واحدة من أعظم مخلوقات الله، تاريخيًا يبني عموم العلماء المسلمين نظرة ثنائية عن طبيعة الإنسان؛ فعدّوا الإنسان كائنًا ماديًا (يملك جسدًا) وكائنًا روحانيًا (يملك روحًا) في نفس الوقت، وجادلوا بأن الروح متميزة عن الجسد ولكنها تتفاعل بشكل عميق معه، وأنها هي منشأ العقل أو الوعي البشري (الخبرات البشرية الواعية كالتفكير والإدراك والتذكر….).

مع ظهور علم الأعصاب بدأ العديد من العلماء في العالم الأكاديمي الغربي يرفضون فكرة الروح وجادلوا بأن الدماغ هو العضو الذي ينتج العقل/الوعي (الفلسفة المادية)، ومع ذلك بالرغم من مرور كافة هذه السنين منذ أن ظهر علم الأعصاب ما زال كل علماء الأعصاب عاجزون عن معرفة الآلية التي يولد بها الدماغ المادي الخبرات البشرية الواعية وهذه ”معضلة العقل والجسد الشهيرة“.

مؤخرًا بدأ عدد متزايد من العلماء والفلاسفة في العالم الأكاديمي الغربي يجادلون ضد هذه الفلسفة ويظهرون نقاط ضعفها في تفسير العديد من الخبرات البشرية الواعية، كتاب “العقل غير القابل للاختزال” هو أحد أشهر الكتب في العالم الأكاديمي الغربي والذي يجادل ضد هذه الفلسفة المادية وينتصر للفلسفة الثنائية التي تبناها المسلمون ومعظم أهل الأديان على مر العصور. هذه مراجعة عامة للكتاب:

العقل غير القابل للاختزال

عبر التاريخ نتجت الثورات العلمية عندما أخذ العلماء البارزون مجموعة واسعة من الظواهر التي تم تجاهلها أو التي لم تكن معروفة مسبقًا في الاعتبار، دحضت اكتشافاتهم النماذج التي كانت مقبولة لفترة طويلة في مجالات مختلفة من العلوم.

إدوارد كيلي وآخرون يقترحون شيئًا مشابهًا في كتابهم، إنهم يجادلون بشكل مقنع أن علم النفس الحالي يجب أن يوسع من نطاقه الضيق وأن يتعامل مع مجموعة واسعة من الظواهر إن أراد علم النفس حقًا أن يقدم مساهمة حقيقية ومهمة لفهم طبيعة العقل وعلاقته بالجسد، طوال القرن الماضي، ومن خلال اتباع وجهة نظر ساذجة عن العلم؛ تخلى علم النفس بشكل تدريجي عن دراسة موضوعه الرئيسي “العقل”، من الجدير بالذكر أن نتذكر أنه اصطلاحيًا فعلم النفس يعني دراسة الروح أو العقل، ويمكن أن يقال نفس الشيء بخصوص الطب النفسي (طب العقل أو طب الروح).

علماء وأطباء النفس الحاليين عادة ما يتبنون رؤيتين: الرؤية الأولى هي أنهم لا يستطيعون في الواقع دراسة العقل، والرؤية الثانية هي أن العقل قد تم تفسيره بالكامل كمجرد نشاط للدماغ الفيزيائي، عادة ما يتم تقديم أدلة كثيرة لدعم الرؤية الثانية، غالبًا ما يتم تقديم أمثلة توضح أن العقل يتغير ويتأثر بدرجة ما عندما تحدث تغييرات فسيولوجية عصبية أو إصابات في الدماغ.

هذا النهج هو موقف معرفي منطقي خطير، كما ذكر فيلسوف العلم الكبير كارل بوبر:

العثور على أمثلة تؤكد تقريبًا أي نظرية مهمة سهلة للغاية.

وفقًا لبوبر؛ لاختبار النظرية حقًا يجب أن نلتزم بالبحث عن أدلة تخطّئ هذه النظرية، والنظريات العلمية الجيدة ستقاوم المحاولات القوية لإيجاد أدلة تخالفها.

كيلي وآخرون يجادلون أن وجود أمثلة على المصاحبة النفسية الفسيولوجية (كل حالة عقلية تترابط مع ظهور نشاط عصبي معين في الدماغ) لا تكفي كإثبات أن الدماغ ينتج العقل، بداية لقد ”قيد العلماء عمليات ملاحظاتهم للترابطات الدماغية-العقلية إلى المواقف التي يكون فيها الدماغ هو المتغير المستقل، والعقل هو المتغير التابع“ (بمعنى التغييرات الدماغية هي ما تحدث تغييرات عقلية)، لكن العكس -العقل يحدث تغييرات دماغية (بمعنى عندما تتغير حالتك العقلية، تأخذ جلسات علاج نفسي على سبيل المثال لتتخلص من الاكتئاب، يصاحب ذلك أيضًا حدوث تغييرات في نشاطات وحتى بنية دماغك، أو بمعنى آخر جعل العقل هو المتغير المستقل والدماغ هو المتغير التابع)- دومًا ما يتم تجاهله.

فالتأثير على الدماغ يؤثر على العقل بالفعل لكن العكس صحيح أيضًا، هذا دليل أن العلاقة بين العقل والدماغ هي علاقة تفاعل متبادل فقط وليست علاقة اختزال (العقل هو نفسه نشاطات الدماغ)، يجادل كيلي وزملاؤه أن علم النفس يجب أن يستأنف النهج الذي اتبعه بعض رواد علم النفس مثل ويليام جيمس وفريدريك مايرز؛ وهو أن العلم الحقيقي لدراسة العقل يجب أن يأخذ في الاعتبار كل الخبرات البشرية الواعية/العقلية قبل أن يتم تطوير نظرية علمية عن العقل.

شارك كل من مايرز وجيمس بعمق في البحث الروحاني وفي دراسة الخبرات الدينية، وأكدوا أن هذه الظواهر لا يجب تجاهلها لأنها ستساعدنا بشكل كبير على فهم طبيعة العقل، على الرغم من الانفصال الزمني بحوالي قرن بين جيمس ومايرز وكيلي وزملائه؛ إلا أنهم جميعًا يتذمرون من علماء العقل الذين يتجاهلون هذه الظواهر لمجرد أنه لا يمكن تفسيرها ضمن النماذج التي يتم قبولها عادة عن العقل.

إن رفض الأدلة التجريبية التي لا تتوافق مع النماذج السائدة في العلم ليس بالأمر غير المألوف، فيلسوف العلم توماس كون (1970) أظهر أن العلماء عادة لا يعترفون بالظواهر التي لا يمكن تفسيرها من خلال النماذج التي يلتزمون بها، يقول كون: “هل يمكن أن تكون صدفة، على سبيل المثال أن علماء الفلك الغربيين رأوا لأول مرة تغيرًا في السماوات الثابتة سابقًا خلال نصف القرن بعد اقتراح نموذج كوبرنيكوس الجديد؟ سجل الصينيون الذين لم تمنع معتقداتهم الكونية التغيير السماوي ظهور العديد من النجوم الجديدة في السماء في وقت سابق”.

كتاب العقل غير القابل للاختزال هو مراجعة شاملة للأدلة التجريبية التي تشكك في الافتراض القائل بأن “خصائص العقل سيتم تفسيرها بالكامل من خلال الدماغ”. مؤلفو الكتاب من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا ولديهم خلفيات في العديد من المجالات الجدلية: علم النفس، الطب النفسي، التاريخ، الفلسفة.

العقل غير القابل للاختزال

يبدأ كتاب العقل غير القابل للاختزال بإعطاء نظرة عامة على علم الأعصاب المعاصر متبوعًا بملخص للنهج الذي اقترحه فريدريك مايرز لعلم النفس، من المثير للدهشة أن العديد من العلماء والإكلينيكيين الذين يتعاملون مع العقل لا يعرفون شخصًا مثل فريدريك مايرز الذي قدم العديد من المساهمات المهمة في هذا المجال.

بعد أول فصلين تم تخصيص الفصول الأربعة التالية من الكتاب للحديث عن مجموعة واسعة من الظواهر النفسية المهمة لكن المهملة في نفس الوقت، باتباع طرق مايرز يبدأ كيلي وزملاؤه بذكر الأمثلة الأكثر شيوعًا ثم ينتقلون تدريجيًا إلى أمثلة تتحدى بشكل أكبر النموذج السائد عن العقل كمجرد نشاط دماغي.

هذه الظواهر تتضمن: التأثير النفسي الفسيولوجي (علم النفس الجسدي، العلاج الوهمي أو تأثير البلاسيبو، الاضطرابات الانشقاقية/الانفصالية، التغييرات الفسيولوجية التي يسببها التنويم المغناطيسي، التأثير العقلي عن بعد)، الذاكرة، التلقائية العقلية (اضطراب الهوية التفارقي، التلقائية الحركية، الغشية/الغيبة، التخاطر عن بعد)، ظواهر الاقتراب من الموت والظواهر ذات الصلة (تجارب الاقتراب من الموت، تجارب الخروج من الجسد، الأحلام الجلية، التجارب الظاهرية المختلفة، رؤى فراش الموت)، العبقرية (الإلهام الإبداعي، الشخصية الإبداعية)، والتجارب الروحانية المختلفة.

واعتمادًا على الأدلة القديمة والحديثة يعيد الكتاب فحص نظرية مايرز عن الهوية، وبما أن مؤلفي الكتاب يعرضون فيه نتائج قرن من الزمان من البحث في مجال الروحانيات ينتهي الكتاب بملحق مفيد يحتوي على مراجع المجال.

العقل غير القابل للاختزال

الخلاصة الرئيسية لهذا الكتاب هي أنه في ضوء الأدلة المتاحة إذا أخذ المرء في الاعتبار كل الأدلة وليس فقط مجموعة ضيقة من الظواهر (كما يحدث عادة في علم النفس والعلم المعرفي المعاصر) فإن النظريات السائدة حاليًا بخصوص معضلة العقل والجسد معيبة بشكل كبير، ولا تستطيع تفسير مجموعة واسعة من الخبرات البشرية العقلية الواعية على خطى ويليام جيمس وفريدريك مايرز، كيلي وزملاؤه يقترحون أنه بدلًا من أن يكون العقل نتاج الدماغ فإن الدماغ قد يعمل كمرشح فقط للنشاط العقلي في حياتنا اليومية، يجادل مؤلفو الكتاب أن:

الدماغ قد يعمل كعضو يقيد، وينظم، ويمكن أو يسمح بالتعبير عن النشاط العقلي فقط ولكنه ليس منتج للنشاط العقلي.

دعم هذا الادعاء المثير للجدل هو الهدف الرئيسي لهذا الكتاب المكون من 800 صفحة وقائمة مراجع تقارب 1800 مرجع، كتاب العقل غير القابل للاختزال هو كتاب جيد يلخص ويراجع مجموعة واسعة من الخبرات البشرية المهمة والمثير للاهتمام والمهملة، الكتاب كتاب أكاديمي، يزود القراء بحقائق تاريخية مهمة، وفي نفس الوقت يتم فيه ذكر المعلومات الحديثة حول التطورات الحالية في علم الأعصاب.

على الجانب السلبي؛ في بعض الأحيان يصبح الكتاب مكررًا فيما يتعلق بادعاءاته الرئيسية وبعض الأجزاء؛ مثل الفصل المتعلق بالذاكرة صعبة في التتبع؛ لأن المؤلفين يرغبون في دعم استنتاجاتهم فإن الكتاب أصبح طويلًا جدًا وهذا قد يزعج بعض القراء، مع ذلك قد يركز القارئ فقط على الفصول المتعلقة بمواضيع محددة ذات أهمية أكبر.

قيد آخر هو أن الكتاب يراجع الدراسات التي تمت في أوروبا وأمريكا الشمالية لأن الظواهر النفسية التي يناقشها هذا الكتاب تتضمن تجارب روحية، فإن دراسة هذه التجارب على مستوى العديد من الثقافات سيكون مرحب به، وأخيرًا لأن الكتاب يتحدث عن النماذج العلمية وحدود وأساليب العلم فمن المفيد إدراج أفكار الخبراء في فلسفة العلم.

نقاط الضعف هذه لا تقلل من قيمة الكتاب، كيلي وزملاؤه يستحقون الثناء على شجاعتهم الأكاديمية في التعامل مع هذه المواضيع المثيرة للجدل، سواء اتفقت مع استنتاجاتهم أم لا، فإن مراجعتهم الشاملة مفيدة في تقديم الأدلة والأفكار التي تتحدى النظريات السائدة بخصوص ظواهر العقل والجسد.

وكما ذكر بالأعلى ليس هذا هو الكتاب الوحيد الذي يجادل ضد الفلسفة المادية؛ هناك عدد متزايد من العلماء والفلاسفة في العالم الأكاديمي الغربي الذين نشروا العديد من الكتب الأكاديمية التي تجادل ضد الفلسفة المادية، على سبيل المثال؛ كتاب “انهيار المادية” نشر مطبعة دار نشر جامعة أكسفورد، كتاب “الذات اللامادية: دفاع عن الثنائية” دار نشر روتليدج، كتاب “دليل جامعة أكسفورد لعلم النفس والروحانية” نشر مطبعة دار نشر جامعة أكسفورد، كتاب “من حجة المعرفة إلى الجوهر العقلي” نشر مطبعة دار نشر جامعة كامبريدج، كتاب “العقل والدماغ والإرادة الحرة” نشر مطبعة دار نشر جامعة أكسفورد، والكثير غيرهم.

_________________________________________________________________

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى