كتابات

مبحث الخلاف والترجيح

مبحث الخلاف والترجيح

مقالات شرعية – محمود العشري

الاختلاف من طبيعة البشر التي فُطروا عليها، وهو متى كان مضبوطًا بالضوابط الشرعية؛ من الاجتهاد، وصِدق النيَّة، والتجرُّد، صار من التوسعة على الأمة.

وقد اختلف المسلمون – الصحابة فمَن بعدهم – اختلافاتٍ كثيرةً في مسائلَ كثيرة، فمن الخطأ تبرُّم بعض الدارسين من أي اختلاف وضيقُهم بذلك، وكأنهم يريدون الناس قوالب مَصبوبة لا يزيد بعضها على بعض، ولا يَنقص!.

ومن مسؤولية الباحث في الفقه: الاطِّلاع على الخلاف، وتقديره حق قدره؛ فإن مَن لم يعرف الخلاف، ليس في الحقيقة بعالم؛ ولهذا يقول قتادة – رحمه الله – فيما رواه ابن عبدالبر: “مَن لم يَعرف الاختلاف، لم يشَمَّ الفقه بأنفِه”، ويقول سعيد بن أبي عروبة – رحمه الله – فيما رواه ابن عبدالبر أيضًا: “مَن لم يسمع الاختلاف، فلا تَعدُّوه عالمًا”.

وذلك أن الجهل بالخِلاف قد يؤدِّي إلى ردِّ بعض الحق الذي لا يَعلمه؛ إذ الحق غير مُنحصِر في قول فرد مِن العلماء كائنًا من كان؛ ولذلك روى عثمان بن عطاء عن أبيه قوله: “لا يَنبغي لأحد أن يُفتي الناس، حتى يكون عالِمًا باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك، ردَّ مِن العلم ما هو أوثق من الذي في يدَيه”؛ وهو في “جامع بيان العلم”.

وجهل المرء بالخلاف يُجَرِّئُه على ترجيح ما ليس براجِح، واستِسهال أمر الفُتيا والتحليل والتحريم بمجرَّد أن يطَّلع على نصٍّ في الموضوع، دون أن يبحث هل ثمَّة نصوص أخرى تُخصِّصه أو تنسخه أو تُقيِّده؟ وهذا مَدعاة إلى الفوضى التي لا نهاية لها، وإلى إثارة الفِتنة في صفوف الناس الذين لا يُطيقون كثرة التنقُّل مِن قول إلى قول، ومِن رأي إلى رأي، خاصَّة إذا كان مع كل قول دليل، وهذا أمر مُشاهَد مَلموس يَنبغي التنبُّه إليه؛ ولذلك كان التابعي الجليل أيوب السختياني – رحمه الله – يقول: “أجسَرُ الناس على الفُتيا أقلُّهم عِلمًا باختلاف العلماء، وأمسَكُ الناسِ عن الفُتيا أعلمهم باختلاف العلماء”، وقد ورَد هذا القول أيضًا – أو نحوه – عن سُفيان بن عيينة كما في “جامع بيان العلم”.

وحول طريقة تَناول الخلاف ودراسته ينبغي أن يُراعى ما يلي:

1- عدم الشِّدَّة على المخالفين:

فإن المرء كلما ازداد فقهُه في دين الله – سبحانه وتعالى – زاد رِفقُه على المُخالِفين الذين لم يكونوا يريدون غير الحق، والتشنيع على المخالفين وتَكفيرُهم من سمتِ أهل الأهواء؛ ذكَر ذلك شيخ الإسلام في العديد من كتبه، وعلى رأسها الفَتاوى.

والخِلاف المَقبول – وهو ما لم يكن بدافع العصبيَّة والهوى؛ بل طلبًا للحق، واجتهادًا في تحصيله بوسيلته – لا يَنبغي أن يُعنَّف صاحبه أو يؤاخَذ.

وللخلاف أسبابه المَعروفة المُحدَّدة في كتب أصول الفقه – وأُلِّفت فيه كتب مستقلَّة، منها: “أسباب اختلاف الفقهاء”؛ للدكتور التركي – والتي بعضها لا مفرَّ منه؛ لأنه جبلَّة لازمة للناس، وذلك كاختلاف المدارك والأفهام والعقول؛ ولهذا اختلف الصحابة – رضي الله عنهم – فاختلاف مَن بعدهم أولى وأوسع.

لهذا وغيره؛ يجب على الباحث ألا يكون سريعًا إلى الطعن في المُخالفين، أو تسفيه أحلامهم؛ بل يجعل نقاشَه مُنصبًّا على الرأي، أو المسألة المَطروحة مجرَّدةً عن قائلها ما أمكن.

أما حين يكون سبب الخلاف هو العصبيَّة المَذهبيَّة المَفضوحة، أو التشبُّع ببدعة أو هوًى، فلا بأس أن يُبيِّن الباحث ذلك بيانًا مُقنِعًا، ومِن قبل قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فيمَن رام نقضَ الحق بزُخرف الباطل: ((إنما هذا مِن إخوان الكُهان))؛ والحديث في الصحيحين.

ومما يُميِّز الباحثَ الجادَّ الذي يَهدف إلى الوصول إلى الحق، وإيصاله إلى الآخرين: الحلمُ، وسَعة الصدر على المخالف، والهدوء في المناقَشة، وفي ذلك يقول عطاء – رحمه الله – فيما رواه الدارمي: “ما أوى شيء إلى شيء أزين مِن حِلمٍ إلى علم”.

ويقول عامر الشعبي: “زَينُ العلمِ حلمُ أهلِه”، ويقول طاوس: “ما حُمل العِلم في مثل جراب حلم”؛ وقد رواهما الدارمي.

2- عدم عَرض جميع الأقوال في جميع المسائل؛ ففي الأقوال الصحيحُ الذي يَنبغي ذكره ونَصره، وفيها المرجوح أو الضعيف الذي يُذكَر مِن باب الإنصاف – ولو كان على خلاف رأي الباحث – وفيها الساقط المُتهالِك الذي لا يَنبغي الاشتغال بنقله، وحكايته وردِّه؛ إلا لسبب إضافي يلمَحه الباحث.

وقد خلَّفت العصبية في بعض كتب المَذاهِب المتأخِّرة أقوالاً ليس عليها أَثارة من علم، والاشتغال بها وبردِّها مضيَعة للوقت والجهد، وهو مِن التكلُّف والخوض فيما لا طائل تحته، ولا نجد داعيًا لذِكر الأمثلة؛ امتثالاً لما اقترحته مِن عدم الاشتغال بحكايتها!.

3- مُناقَشة الآراء القوية – بعد عرضها عرضًا سليمًا مُنصفًا – مناقشة عِلميَّة هادئة بعيدة عن الجَنَف – الميل والجور – الذي يحمل بعض الباحثين على الظهور بمظهَر المُستميت في ترجيح قول، أو تضعيف آخَر.

وتتمُّ المُناقَشة بتصوير المسألة تصويرًا سليمًا بأوضح عبارة، ثم حكاية أدلة كلِّ فريق، وبيان وجه الدلالة فيها للمُستدلِّ بها، وما اعترض عليه من ذلك، وما يتعلق بالتصحيح والتضعيف للأسانيد، ثم أجوبة المُستدلِّ على الاعتِراضات.

4- ومما يَحسُن التنبُّه إليه أنه ما مِن عالم إلا وله زلة، أبى الله – سبحانه وتعالى – أن تكون العِصمة لغير نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – ومِن الخطير الولَعُ بالغرائب، والزلات، والتعلُّق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممَّن يُشار إليهم بالبَنان.

وما فتئ العارِفون يُحذِّرون من سقطة يُجريها الشيطان على لسان فاضل عليم، فقد رَوى الدارمي عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: “هل تَعرف ما يَهدم الإسلام؟” قال: قلتُ: لا، قال: “يَهدِمه زلة العالم، وجدال المُنافِق بالكتاب، وحكم الأئمَّة المُضلِّين”.

ولو أن إنسانًا أخذ بكلِّ شواذِّ الأقوال وغرائبها، لربما خرَج مِن الدِّين، وهو لم يَخرُج بعد من أقوال العلماء! ولذلك قيل:

وليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتبَرًا

                                 إلا خلافٌ له حظٌّ مِن النَّظَرِ

ويقول الإمام الجليل عبدالرحمن بن مهدي – فيما رواه ابن عبدالبر -: “لا يكون إمامًا في العلم مَن أخَذ بالشاذِّ من العلم”.

ومِن الأمانة والإنصاف في نقل الخلاف:

الاعتماد في نقل آراء الشيخ على كتبه نفسه – ما أمكن – والاعتماد في نقل آراء المذهَب على كتب المذهب المُعتمَدة لدى علمائه، وليس من المَقبول نقل آراء مذهب عن كتب مذهَب آخر، خاصة إذا كانت كتُب المَذهَب نفسِه متوفِّرة، أو كانت الكتب التي ينقل عنها من الكتب التي عُرِف أصحابها بعدم الدقَّة في نقل آراء المخالفين، اللهم إلا أن يكون هناك نصٌّ عن إمام في مسألة، لم يقف عليه الباحث في مظانِّه الأصلية، فنقله عن كتب مما ذكرت، فهذا سائغ، كما أن مِن الأمانة والإنصاف استكمال عرض رأي المخالف، واستيعاب أدلته، وذكر ما عسى أن يكون قد وضعه من شروط، أو ضوابط، أو تفصيلات، أو نحو ذلك، وكان بعض الأئمة حين يَعرض آراء المخالفين يستدلُّ لهم بأدلة ربما لم ترد في كتبهم.

أما فيما يتعلق بالترجيح، فإن أمرَه خطير:

أ- فهو خَطير؛ لأنه لا بدَّ منه؛ لأن مجرد عرض الآراء دون ترجيح يوقع القارئ في الحيرة والاضطِراب، وإذا كان الباحث الذي جمع هذه الأقوال ونقَّب عنها لم يُرجِّح، فالغالب أن غيره لا يَملك ذلك مِن باب الأولى.

ب- وهو خطير؛ لأنه يحتاج إلى سعة علم واطِّلاع، وقدرة على تمحيص الأدلة، ومعرفة قوية بوجوه الترجيح.

ويتصوَّر الإنسان أنه حين يُرجِّح بين آراء جهابذة الأئمة، وعلماء الأمة، كأنه حكم في قاعة يَختصِم فيها هؤلاء، فيَستصغِر نفسه حينئذٍ ويتضاءل.

وليس مجرد نقل قول أو سرد أدلته، أو الرد عليها، أو دفع الاعتراضات عنها، بمُعتبَر شيئًا بالقياس إلى الترجيح، بل إن الترجيح فوق ذلك كله، وهو يَفتقِر إلى المراس والتمرين، والتوفيق الإلهي المترتِّب على إخلاص النية لله – سبحانه وتعالى – ومما يُعين على ذلك:

– ألا يُضمِر في نفسه ترجيح قول على آخَر؛ لسبب خارج عن طبيعة البحث، كأن يكون محتاجًا إليه في حياته العمَليَّة، أو مائلاً إليه لما يَحسب فيه من التوسعة والتيسير على الناس، أو لما يحسب في ضدِّه مِن الحرَج والتضييق، أو لما يتوقَّعُه مِن عدم تقبُّل الناس له، أو لغرض دُنيوي، أو لأنه هو أول ما عرف في المسألة، فصار كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرِفَ الهَوَى

                                      فصادَفَ قلبًا خاليًا فتمكَّنَا!

بل يجعل في نفسه: أنه لا فرق بين الأقوال ألبتَّةَ إلا بالدليل، ومتى بان له رُجحان أحدها على غيره أخَذ به، ورجَّحه مهما كلَّف الأمر.

– أن يَحرص على تفهُّم الأقوال، والغَوص على مقاصدها ومراميها، ويجتهد في ذلك ما استطاع؛ فإن مِن المُشاهَد أن كثيرًا من الناس يردُّون الحق لجَهلهم به، وعدم تفهُّمهم له، وعدم نظرهم في أدلته، وقديمًا قيل:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحًا

                               وآفتُه من الفَهمِ السقيمِ

ويجب أن يُحسن التفهُّم والاستماع؛ فمَن لم يُحسن الاستماع، لم يُحسِن الكلام.

– ثم يَستعرِض مِن أدلة كل فريق، فيُمحِّصها ويَعركها سندًا ومتنًا ودلالة، ويُقارِن بعضها ببعض؛ بهدف الوصول إلى أقوى الأدلة وأبقاها، وهذه مرحلة خطيرة في الترجيح؛ لأن تغليب قولٍ على آخَر يترتَّب عليها.

– ويَنبغي الحذر مِن المُرجِّحات العامَّة التي لا اعتبار لها، مثل: ترجيح رأي إمام لأنه أقدَم، والفضل للسابق، أو لأنه متأخِّر تَسنَّى له الاطِّلاع على علم مَن سبَقوه واختيار الصحيح!.

– كما يَنبغي الحذر مِن ترجيح ما تَألَفُه النفوس، وتطمئنُّ إليه طمأنينة عادية مُنبعِثة مِن إلفه، ومَعرفته ومُوافقتِه للمَعهود، أو ملاءمته للواقِع.

– وليس لإنسان أن يَبتكِر قولاً بدعًا لم يُسبق إليه من قبل في حكم شرعي؛ بل لا يَخرج عن مجموع أقوال السلف؛ إذ إن اقتصارهم على هذه الأقوال يُعتبَر إجماعًا منهم على أن الحق محصور فيها، لا يَخرج عن جملتها، وإن اختلفوا بعد ذلك أيها وافَق الحق، ولا يظن أن يَخفى الحق على جميع الأمة في عصرٍ من العُصور.

أما تأليف قول مِن قَولين لأئمَّة سابِقين؛ فيُرجِّح جزءًا من قول هذا، وجزءًا من قول ذاك؛ فليس من هذا القبيل؛ إذ إنه لا يعدُّ خروجًا عن أقوال الأئمة، إلا أن يكون القول الجديد المؤلَّف من القولين مغايرًا لهما في حقيقته وفَحواه، وإن وافَق كلاًّ منهما في جزء منه؛ من حيث الصورة فحسب.

– وإذا لم يتمكَّن الإنسان مِن الترجيح بكافة الوسائل، فليُحاول الترجيح الجزئي، كأن يَختار قولَين قويين مِن بين مجموع الأقوال، أو يُضعِّف ما ظهر له تضعيفه من الأقوال؛ لأن هذا يسهل مهمَّة غيره.

– فإذا لم يتبيَّن له وجه الصواب – كليًّا أو جزئيًّا – فليتوقَّف، ولا يتجشَّم الصعب الكؤود؛ فالمسألة مسألة دِين وعبادة، وكان بعض السلف يقول: “إنني أستحي من الله أن يُدان في الأرض برأيي”، وقد أخرج ذلك الدارمي من قول عطاء بن رباح.

ولربما يَكشِف الله – سبحانه وتعالى – للباحث المُخلِص الحَريصِ النِّقابَ عن وجه الحق فيُسفِر، ولو بعد حين، أو يَكشفه لغيره ممَّن هو أعلم منه، أو أفقَه، أو أكثر تجرُّدًا وإخلاصًا، والفضل بيد الله يؤتيه مَن يشاء.

المصدر: موقع شبكة “الألوكة نت”.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى