كتابات مختارة

كن واديا

د. جمال عبدالستار

ضرب الله للحق والباطل مثلين في القران ، أحدهما: كماء نزل من السماء فتجمع في أودية عدة، وصنع كل واد لنفسه مساراً على قدر تدفقه وقوته، وكلما نحت لنفسه طريقاً جديداً، وحقق نجاحاً في مسيرته كلما حمل فوقه من الركام والأتربة الشيء الكثير، حتى يظن المتابع للوادي أن الماء اختفى، وكأنه لم يعد هناك إلا هذا الركام.

بل ربما يظن الزبد من كثرته وانتفاخه أنه الأصل، ولا وجود لغيره، ولا بقاء لسواه وأن وجوده حتمي للكون!!!

وسرعان مايفتح الوادي لنفسه مسارات متنوعة، حتى يصل يوماً ما إلى مجرى السيل الكبير، فيتدفق فيه، ويلتحم  مع إخوانه من الأودية الأخرى التي خطت لها مسارات مختلفة حتى قدر الله لهم الالتقاء في سيل الأمة الجارف، ونهرها المتدفق، ومحيطها الواسع، وأمواجها المتتابعة المتلاطمة، التي قذفت ماعلق به من شوائب على الشواطيء، وتخلصت من الزبد الذي لا خير فيه، حتى صار نهرها نقياً، فأجرى الله به الخير في كل مكان، وساقه لنفع البشرية، وكتب الله له الانتشار والبقاء والتدفق، حتى صار مَعلَماً كبيراً من معالم الأرض لاحياة لها بدونه، ونسى الناس أن هناك ركاماً كان يعلو يوماً ما فوق الأودية، بل كان ربما يحجب رؤيتها ويعرقل مسيرتها.

قال تعالى: “أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ”.

لذا فواجبك أن تكون وادياً متدفقاً، تحمل الخير للناس في المجال الذي تتقنه، وبالطريق الذي تحسنه .
ـ واجبك أن تكون وادياً تشق طريقك، وتجتاز مايلاقيك من ركام وعقبات، ولا تنتظر أن يشق أحد لك الطريق، ولا تستوحش البداية، فسيتقاطر السالكون عليك في النهاية.

ـ كن وادياً ولا تنشغل كثيراً ببقية الماء الذي كان معك في السحاب، فكل ميسر لما خُلق له ، وقد سخرهم الله تعالى في أودية أخرى، “فسالت أودية بقدرها”، فإن صدقت في انطلاقتك فسيل الخير ونهر الأمة سيجمعكم ، من لاصدق فيه  لا وصول له، ولا استمرار له، وسيتناثر هنا وهناك، وسيضيع في الشقوق المتفرعة، والمتاهات المتشعبة، حتى يجف وارده، ويضمحل مدده، وينقطع أثره، ويذهب خيره، ويُصبح زبداً مع الزبد، وركاماً مع الركام، حتى يصير جفاء.

ـ كن وادياً متدفقا غير منشغل بذكر مساوىء الركام، وحقارة الزبد، وخطورة الحشرات والجراثيم التي تملؤه، أو الرائحة العفنة التي تفوح منه، وإنما واجبك أن تنطلق مجدداً، وأن تصنع لنفسك مساراً محدداً، وأن تتيقن أنه كلما اُغلق أمامك باب، فتح الله لك بصدقك عشرات الأبواب.

ـ كن وادياً لايشغله أن يظهر، ولكن يشغله أن يستمر وينفع، غير عابىء بحجب الشمس عنه أياماً بسبب الركام والزبد، فهو موقن أن الخلود مصيره، والمكث في الأرض قدره، والشمس من سعته لن تستطيع أن تغرب عنه.

ـ كن وادياً معتزاً بما يحمله من خير، متمسكاً بما لديه من قيم، غير محتقر لنفسه أو متشكك في نفعه، وليس مزدرياً لحجمه، بل واثقاً من طريقه، مدركاً أن نهر الخير ينتظره.

ـ لا تقنع نفسك مهما طال أمدك أنك البحر وحدك، أو تنتفخ فتظن نفسك السيل ولاحاجة لك بالأودية، بل عليك أن توثق الصلة بكل واد، فلا تدري الخير في أيها،  والمدد من أيها، فأنت بها ، والسيل لن يكون إلا بكم.

اخيراً: تأكد أنك إن لم تكن وادياً متدفقاً منطلقاً فيقيناً ستكون زبداً رابياً، سرعان ما يلقي بك السيل فتصير جفاء لاقيمة لك ولا أثر، لابقاء لك ولا نفع، فسنة الله جارية لاتبديل لها ولا تحويل “كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ”، فأختر لنفسك طريقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى