كتاباتكتابات المنتدى

فقه التّعامل مع الكاميرات في تغطية الكوارث

فقه التّعامل مع الكاميرات في تغطية الكوارث

 

بقلم رانية نصر “باحثة دكتوراه في الإعلام السياسي – باحثة ماجستير في الفقه وأصوله – عضو هيئة علماء فلسطين – عضو ائتلاف العالمات والداعيات” (خاص بالمنتدى)

 

وضع الشارع الحكيم القوانين والآداب الإسلامية والإنسانية الناظمة والضابطة لتعامل البشر بعضهم مع بعض، فجعل لكل شيء أدب؛ فهناك آداب للحوار، وآداب للتعامل، وآداب للجوار وأداب للمجالس، والآداب كثيرة لا تنتهي، وقد تستجد آداب بتجدّد الأزمة والأمكنة والمخترعات والأساليب خاصة في عالم التكنولوجيا، منها آداب وأخلاقيّات الإعلام وأدواته في التعامل مع الخبر، فهي إما أن تكون مكتوبة كتابة أو معروفة عُرفاً بين أصحاب الصّنعة الواحدة.

ومن نافلة القول أن الأخلاق الإعلامية هي مبادئ عامة متعارف عليها عند أهل المهنة، وغير مرتبطة بدين معين أو ثقافة مجتمع بعينه أو أيدلوجيات محددة؛ وإن جاء الدين ليكرّس وليؤكد مفهوم هذه الأخلاقيات والآداب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم- قال: “إنما بُعثتُ لأُتمم مكارم الأخلاق” حديث صحيح، فمن تجاوز هذه المبادئ فقد تجاوز الآداب الإسلامية والأخلاق والأعراف المهنية الصحفية.

ومن تلك الآداب؛ آداب وأخلاقيات وفن التعامل مع الكاميرا في نقل أخبار الناس وأحوالهم؛ خاصة الذين يقبعون تحت ظروف قاهرة وحساسة، والذين هم في أمسّ الحاجة للمساعدات من طعام وشراب ودواء ودفء ومأوى، هؤلاء المستضعفون عاجزون حقيقة عن درء الأذى المادي والمعنوى عنهم، فلا يجتمع عليهم هدم الحجر ظلم البَشر!

كشفت لنا الأزمة الأخيرة؛ أزمة الزلازل التي ضربت جنوب تركيا وشمال غرب الأراضي السورية؛ عن أزمة أخرى أخلاقية تولّدت عنها ولازمتها لا تقل أهمية عنها؛ ألا وهي أزمة الأخلاق في التعامل مع المنكوبين، وما زالت ترصد لنا الكاميرا أخطاءنا وتجاوزاتنا غير المُبرّرة في فقه التعامل مع إخواننا المستضعفين!

وإذ تم الحديث سابقاً عن أخلاقيات تصوير الناس تحت الركام ووجوب الحفاظ على خصوصياتهم ومراعاة مشاعرهم من زاوية شرعية؛ أتحدث اليوم عن المقطع الذي انتشر مؤخراً لطفل وقد طُلب منه شكر من قدم لهم االمساعدات من أفراد ومؤسسات على الكاميرات، فبعد أن قال كلمته انصرف غضبان آسفاً، ناسياً اللاقط الصوتي مفتوحاً ومعلقاً في ثيابه فرصد هذا اللاقط كلماته العفوية والبريئة والمُعبّرة عن ضجره وتذمّره من هذا الطلب الجارح للمشاعر.

هذه الكاميرات التي أردنا من خلالها توثيق الصور والمشاهد؛ وإذ بها تحولت لأدوات تُديننا وتدلّل على إخفاقنا في اختبار الإنسانية، كاشفةً عوار هذا العالم الذي غرق في تقديس المادة والجري خلف أعلى نسبة مشاهدة وتحقيق السبق الصحفي أو الانصياع لأوامر السياسة التحريرية على حساب مشاعر الناس وقتلهم بهذا الأسلوب المهين لكرامتهم.

لحمل الكاميرا آدب ولنقل الخبر آدب لا يجوز تغافلها حتى لا نخرج من إطار إنسانيّتنا، فما قيمة التبرعات والصدقات التي تُقدم للمحتاجين مقابل إهانة كرامتهم وتمنينهم واستغلال حاجتهم وعوزهم، بطلب شكر هذا وذاك، هذا سلوك يخالف صراحة مبادئ الإسلام؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تُنفق يمينه” متفق عليه، فمن موجبات رحمة الله -عز وجل- ورضاه عن عباده؛ إخفاء الصدقة حتى لا تعلم شمال الإنسان ما تُخفي يمينه، فما بالنا ونحن نعرضها على الكاميرات، بل ونطالب مستحقيها بالظهور على الشاشات ليشكروا باذليها، مالكم كيف تحكمون؟!

وتتجلي في قصة سيدنا موسى -عليه الصلاة والسلام- عندما سقى للمرأتين ثم توارى إلى الظّل عبرة للمعتبرين، قال تعالى: “فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍۢ فَقِيرٌۭ” القصص: 24، توارى سيدنا موسى إلى الظل شاكراً ربه على نعمه عليه، ولم ينتظر أجراً أو حتى شكراً من المرأتين، بل أرجع الفضل والمنة لله -عز وجل-  ليقينه أن المُنعِم هو الله وحده وأن العباد أسباب فقط، فاستوجب الشعور بهذه النعم شكر المُنعم وإنكار الذات وإرجاء الفضل والقوة له -عز وجل-.

إذن؛ فالأخلاق الإسلامية والإنسانية والآداب الإعلامية والذوق العام يسترعي ألا ننتظر الأجر ممن جعلنا الله عز وجل سبباً في خدمتهم، فضلاً عن أن نطلب منهم الشكر وكلمات الثناء والمديح أجر مساعدتهم!

لقد وثقت الكاميرا جزءاً من وجه هذا العالم الذي جعل من معاناة المنكوبين مادة استهلاكية وظيفية وخدمية سواء على المستوى الشخصي أو المؤسساتي أو حتى الدولي، إن عمل الخير هدف نبيل وسامٍ ومطلوب لكن لا بد ألا يخلو عن الأساليب الذوقية والأخلاق الصحفية والآداب الإسلامية التي تحترم كرامة الإنسان وتُعلي من شأنه وقدره، قال تعالى: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًۭا” الإسراء: 70.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى