تقارير وإضاءات

ظاهرة “مفتي السلطان” وعلاقتها بالسلطة

ظاهرة “مفتي السلطان” وعلاقتها بالسلطة

إعداد عبدالله مفتاح

“تخيّل لو كان للحاكم، أكان ملكاً أو رئيساً لدولة، نصف ساعة يومياً يخرج خلالها على شاشة التلفاز ليزني ويشرب الخمر على الهواء مباشرة. ما الموقف الشرعي؟ إذا كنتَ أمامه أنكِر عليه ولو أمام الناس… لكن عليك أن تراعي المصلحة والمفسدة. أما إذا كنتَ وراءه فلا تذكر اسمه (لا تصريحاً ولا تعريضاً) ولا تنكر عليه بطريقة تحرّض الناس عليه… المطلوب منك شرعاً أن تؤلّف الناس على ولي الأمر ولا تهيّجهم عليه…”.

هذه فتوى للداعية السلفي البارز عبد العزيز الريس، أحد مشايخ ما يُعرف بالتيار “الجامي” أو “المدخلي” في السعودية، خلال درس ألقاه في أحد مساجد المدينة المنورة.

https://youtu.be/leVDUDOZPCs

 

التيار المذكور هو تيار ديني يدعم الحكام بل يُفرط في ذلك إلى درجة تحريم إبداء النصيحة لهم في العلن، حسبما يشرح المفكر والباحث في شؤون الجماعات الإسلامية الدكتور كمال حبيب لرصيف22.

ما قاله الريس يندرج ضمن إطار ظاهرة “مفتي السلطان”، و”مفتي السلطان” هو ذلك الشخص الذي يُشَرعِن الباطل من أجل الحاكم ويصوّر الأخير على أنه لا يخطئ، أو على الأقل لا تصحّ محاسبته على أخطائه، وهو أيضاً ذلك العالم الديني الذي يمكن أن يتصل به الرئيس أو الملك ويطلب منه إلغاء حكم شرعي معيّن أو تحليل الحرام أو تحريم الحرام، فيوافق على طلبه، كما قال مفتي مصر السابق علي جمعة.

 

“مفتي السلطان”… ظاهرة قديمة أم حديثة؟

يختلف الباحثون حول نشأة ظاهرة “مفتي السلاطين”. ويرى البعض أنها قديمة ووُجدت منذ بدايات التاريخ الإسلامي، عندما ظهرت الحكومات المستبدة التي احتكرت الدين، فبرزت مجموعة مشايخ أرادت تطويع الدين لخدمة الحكام وبحثت في الكتب عن آيات وأحاديث ونزعتها من سياقها لتكون دعامة لتأييد الحكام مهما فعلوا.

ويشير مستشار وزير الأوقاف المصري ووكيل اللجنة الدينية في مجلس الشعب المصري السابق، الدكتور محمد الصغير، إلى أن هذه الظاهرة نشأت مع بداية ظهور الحاكم المستبد، وإهمال فريضة الشورى.

وأبرز نماذجها، كما ذكر لرصيف22 أولئك الذين دخلوا على هشام بن عبد الملك، عاشر خلفاء الدولة الأموية، وكان قد عزم على السير على منهج ابن عمه عمر بن عبد العزيز، وقالوا له إن الخلفاء ليس عليهم حساب، طمعاً في دراهمه والتقرّب منه.

ومن نماذجها، بحسب الصغير، أحمد بن أبي دؤاد، قاضي قضاة العباسيين، الذي قال للخليفة العباسي “اقطع عنق الإمام أحمد بن حنبل ودمه في رقبتي”، وهي رواية واردة في بعض الكتب وقد تكون موضوعة للتشهير به.

في المقابل، يعتبر أستاذ الفقه وأصوله والسياسة الشرعية في جامعة المدينة سابقاً، الأكاديمي المصري عطية عدلان أن ظاهرة مفتي السلاطين لم تكن موجودة في صدر الإسلام، وأنه “عندما وُجد بعد ذلك مَن يتملق للحكام من العلماء لم يصل أمرهم ولا عددهم إلى الحد الذي يمثل ظاهرة”.

ويقول لرصيف22 إن هذا السلوك صار ظاهرة في العصور المتأخرة، بعدما انفصل السلطان عن القرآن، “فلما تعرى السلطان عن الشرعية بسبب هذا الفصام اضطرت الأنظمة إلى أن تصنع لنفسها علماء ثم مؤسسات علمانية تمثلها وتتصدى للفتوى ولإدارة الشؤون الدينية”.

وأوضح أن “لكل نظام ما يناسبه من هؤلاء المفتين المطبّلين”، ففي الأنظمة الخليجية، ولا سيما النظام السعودي، وُجد الجامية والمداخلة، واعتمد عليهم النظام في تضليل الرأي العام.

في العصر الحديث، تبلورت الظاهرة في السعودية، في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً إبان حرب الخليج الثانية عام 1991 وتأسست تحت أعين الدولة لدعمها ضد تيار الصحوة الذي كان يرفض دخول الأمريكيين إلى المملكة لحماية السعوديين وكان من أبرز وجوهه سليمان العودة وعائض القرني وسفر الحوالي.

في تلك المرحلة، أفتى أنصار المداخلة بجواز دخول القوات الأجنبية على أساس أن فيها مصلحة للعامة، وهو ما وافق هوى الحكام.

ويوضح حبيب أن هؤلاء يَعتبرون تأييد الحاكم أصلاً من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن مخالفة هذا الأصل تُعَدّ خروجاً على الحاكم المسلم، كما فعل الخوارج، وبالتالي يجوز قتل الخارجين.

“الطغاة يصنعونهم”

يتهم ‏عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية عبد الحميد ضحا الدعاة دائمي الإطراء على الحكام والثناء عليهم بأنهم “لا علاقة لهم بالإسلام”، ويضيف لرصيف22 أن “دعوة الإسلام قائمة على إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

يعتبر ضحا أن الطغاة هم مَن يصنعون هؤلاء ليساعدوهم في جعل الشعوب ترضى بالظلم والطغيان ولا تسعى إلى تغيير أوضاعها، ويشير إلى أن “حديث دعاة عبادة الطغاة تدور دائماً حول أن لولي الأمر حقوق الإله، فإنه لا يُسأل عما يفعل، وليس عليه أية واجبات، فكل أفعاله منن على الشعب، والمحكوم ليس له أية حقوق، وعلى الشعب الرضا لا الصبر فقط”.

وكان الشيخ سعود ذعار المطيري قد ردّ على ما قاله الريس، بقوله: “هذا الكلام مخالف لكتاب الله وسنة رسوله ولو أن الحاكم فعل ذلك يجب إقامة الحد الشرعي عليه فإنْ كان محصناً أي متزوجاً فإنه يُرجم حتى الموت، وإنْ كان غير محصن فإنه يُجلد ويُعزل عن الولاية”.

نماذج كثيرة

فتوى الريس ليست حالة فريدة. عشرات الفتاوى التي تشبهها تخرج عن ألسنة دعاة.

يسرق ويأكل الربا

مستشهداً بحديث منسوب للرسول يقول “ألا مَن ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة”، قال الداعية السلفي الإماراتي محمد بن غيث: “كلمة شيئاً جاءت نكرة لتعني أن الحاكم يحق له أن يزني ويشرب الخمر، ويسرق، ويأكل الربا، بمعنى قُل ما شئت من الموبقات ما عدا الكفر، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة”.

 

https://youtu.be/ZPz30Qk5D4M

يضرب ظهرك ويأخذ مالك

حينما سُئل هل الخروج على الحاكم الظالم حرام؟، قال الداعية الإماراتي وسيم يوسف إن مذهب أهل السنة هو البيعة لولي الأمر أكان ظالماً أو عادلاً، وعدم الخروج أبداً عليه، إلا إذا مارس كفراً بواحاً يمكن إثباته.

وبرّر فكرة عدم جواز الخروج على حاكم ظالم بأن ذلك يؤدي إلى مظلمة أعظم وإلى ذهاب الأمن واستباحة الدماء وضياع هيبة المسلمين.

واستشهد بعدة أحاديث منسوبة للنبي منها “تسمع وتطيع للأمير وإنْ ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”، ومنها “مَن كره من أميره شيئاً فليصبر” و”السلطان ظل الله في الأرض مَن أكرمه أكرمه الله ومَن أهانه أهانه الله”.

وبرأيه، هيبة الحاكم من هيبة الله، والأحاديث التي تحض على طاعته كثيرة ولكن “دعاة الضلالة يخفونها ولا يظهرونها للعامة”.

 

 

وفي فتوى أخرى، قال يوسف إنه لا يجوز الخروج عن الحاكم حتى وإن أباح شرب الخمور والبغاء وعلى المواطن السمع والطاعة في ما يحب وفي ما يكره وأن يكون تحت عصا الحاكم وتحت رايته.

 

https://youtu.be/HELnn5Vzq4Q

 

ويعلّق ضحا على فتاوي بن غيث ويوسف بقوله: “لن تجد السلف من الصحابة ومَن بعدهم يعظِّمون أحداً من البشر إلا النبي صلى الله عليه وسلم، فالحاكم مجرد خادم للأمة إن أصاب أعانوه وإن أخطأ قوَّموه، وهذا عين ما طالب به أبو بكر رضي الله عنه الأمة حتى يعينوه، وهذا ما طبّقه السلف، حتى أن عُمراً عندما شك أحد الصحابة في أنه أخذ ثوبين فيما وزّع على الآخرين ثوباً ثوباً، نهره أمام الملأ وقال له: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة، فلم يغضب عمر رضي الله عنه”.

 

الانتخابات حرام

وصف الداعية السلفي المصري محمد سعيد رسلان مَن يتظاهرون ضد الحاكم ويثورون عليه بأنهم “خوارج العصر”، إذ، برأيه، لا يجوز انتقاد سياسة الحاكم والتشهير بإدارته، ولا يجوز حتى تناوله بما لا يليق في الندوات والمحافل.

 

 

كما يحرّم رسلان الانتخابات ويراها بدعة، فولي الأمر المسلم من وجهة نظره لا يُنازع في مقامه ولا في منصبه ولا يُنافَس عليه بل هو باق فيه، لأن الله بوأه إياه، ولا يجوز الخروج عليه ولا منازعته في الأمر.

 

 

ويعلّق ضحا على حديث رسلان بقوله “إن هؤلاء الدعاة يعتبرون أن مَن أنكر على الحاكم منكراً فهو من الخوارج، ولا يذكرون، جهلاً أو تضليلاً، أن مَن قُتل دون ماله أو عرضه أو نفسه فهو شهيد، وأن سيد الشهداء رجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله، وأن المُنكر، أفعله حاكم أو محكوم، يجب تغييره باليد أو اللسان أو القلب”.

أعمل بدون راتب

ومن الفتاوي المشابهة ما قاله الداعية الكويتي سالم بن سعد الطويل: “إنْ أمر ولي الأمر الموظفين بالعمل بدون رواتب لوجب عليهم أن يلتزموا”.

 

 

لا حرج عليه ولو قتل ثلث الشعب

أما الشيخ السعودي علي المالكي فيقول “إن ما يراه الملك هو الصواب حتى وإنْ رأى أن يقتل ثلث الشعب من أجل أن يسلم الثلث الآخر”.

 

 

تزوير الانتخابات واجب

وذهب الشيخ السلفي المصري طلعت زهران إلى أن تزوير الانتخابات واجب شرعي، وأن الله أثاب الرئيس السابق حسني مبارك ثواباً عظيماً على تزوير الانتخابات، كما أثاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على ذبح القيادي الإخواني سيد قطب في الستينيات.

 

 

لماذا يهللون للحاكم؟

يرى الباحث في شؤون الإسلام السياسي خالد الأصور أن “من ابتلاءات الأمة ظاهرة علماء السلطان الذين يلوون أعناق النصوص لتبرير الخضوع للحاكم”.

في تحليله لظاهرة هؤلاء، يقول لرصيف22 إن دافعهم قديم قدم البشرية و”هم والحكام يتبعون نظرية العصا والجزرة أي الترغيب والترهيب، وبعضهم يقدّم نفسه دون دعوة أو إغراء للحصول على الجزرة في صورة منصب أو امتيازات أو حظوة”.

 

 

(المصدر: رصيف22)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى