شيخنا العلامة البهي الخولي – بقلم د. يوسف القرضاوي

شيخنا العلامة البهي الخولي – بقلم د. يوسف القرضاوي

شيخنا العلامة البهي الخولي “رجل العلم والدعوة والتربية” (1317 – 1398هـ = 1901-1977م)
في يوم 27/ 12/ 1977م ودعت مصر في هدوء: الداعية الإسلامي الكبير أستاذنا البهي الخولي رحمه الله وغفر له.
كان الأستاذ البهي الخولي زميلا للإمام حسن البنا في دار العلوم، وكان معجبا به كل الإعجاب، فلما قام البنا بدعوته كان البهي من المسارعين للإجابة.
وقد تعرفت إلى الأستاذ البهي في المعهد الديني الابتدائي بطنطا، حيث كان مدرسًا للمحفوظات، التي كان المدرسون يحولونها إلى حصة للراحة والقراءة الحرة، ولكن الشيخ حوّل حصتها إلى ثقافة ودعوة، وكان- أيضًا- مدرسًا لمادة الجغرافيا التي كان يتقن رسم خرائطها، وأنا لا أتقنه. وتوثقت صلتي به وأنا في المرحلة الثانوية، فاتصلت به عن قرب، واستفدت من حلقاته ومجالسه، والتقطت من لآلئه وجواهره.
ولقد فكر الأستاذ البهي أن يصطفي نخبة من خيرة شباب الإخوان، يدنيهم منه، ويربيهم في مدرسته، ويلقنهم فكره وذوقه، ويأخذهم بعزائم السلوك، فقد أكد رجال التربية الروحية حاجة المريد إلى شيخ يأخذ عنه، ويقتبس من نوره، وأن صحبة الشيخ لا يغني عنها قراءة الكتب، حتى قال بعضهم: من لا شيخ له، فشيخه الشيطان. وقد اختار الشيخ لهذه المجموعة اسم (كتيبة الذبيح).
ويراد بالذبيح: سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، والذي رفع قواعد البيت مع أبيه إبراهيم الخليل، وقد ذكر لنا القرآن الكريم في سورة الصافات قصته مع أبيه بعد أن بلغ معه السعي، وأضحى يَرْتجِي منه ما يُرتجَى من الشباب في معاونة أبيه. فجاء الامتحان الإلهي البليغ للأب، الذي بلغ به اليقين أن ضحَّى بولده، وفلذة كبده، امتثالًا لإشارة الوحي من ربه، وللابن الذي بلغ به اليقين أن قدَّم عنقه، طاعة لأمر ربه، ولم يتلكأ أو يتردد، بل كان كما قال القرآن: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
يقول الشيخ البهي، وهو يشرح لنا القصة في أول جلسة: انظر إلى الابن كيف قال لأبيه، وقد عرض عليه ذبحه: (يا أبت افعل ما تؤمر) ولم يقل: افعل (بي) ما تؤمر، فكأنما غاب عن نفسه، وفني عن ذاته، وقال لأبيه: نفذ ما عندك من أوامر الله، ولن تجد مني إلا الطاعة والصبر على أمر الله. ولم يفعل ذلك ادعاء للشجاعة والبطولة، بل وكَّل الأمر إلى الله يسدِّدُه ويشُدُّ أزره، حين قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين).
اختار الأستاذ البهي أكثر هذه النخبة من طلاب المعهد الديني، وأقلهم من طلاب المدرسة الثانوية، وأذكر من هذه النخبة: الإخوة: أحمد العسال، ومحمد الصفطاوي، ومحمد الدمرداش مراد، وعبد العظيم الديب، وعبد الوهاب البتانوني، ومحمد وعبد الفتاح الحشاش، من أبناء الأزهر، وعبد المنعم عثمان، وسعيد شنا، وكمال العريان من الثانوية، وآخرين لا أذكرهم الآن.
كان موعد اللقاء قبيل فجر الاثنين- على ما أذكر- من كل أسبوع، وفي بيت الأستاذ، نصلي معه الفجر، ثم نجلس في حلقتنا الروحية، التي يحلق بنا فيها إلى أجواء ربانية عالية، فنحس بأننا نشف ونصفو حتى نكاد نطير بلا أجنحة.
وظل تتلمذي على الأستاذ البهي ممتدًا إلى فترة الجامعة وما بعد الجامعة، فكثيرا ما كن أزوره في بيته بالمطرية، قبل أن ينتقل إلى شارع القصر العيني.
وكان الأستاذ البهي ممن تنبهوا مبكرًا للكتابة في مفهوم الدعوة وغاياتها وأساليبها، وما يجب أن يكون عليه الداعية، فكتب كتابه الأول الذي لم يسبق أحد إلى مثله في التأصيل والتفصيل والتدليل. مع عمق الفكرة ووضوحها. كتبه بأسلوب أدبي رائع. ذلكم هو كتابه الشهير (تذكرة الدعاة). الذي كتب له الإمام الشهيد مقدمة موجزة مركزة، قال فيها: (الله أكبر والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، أفضل الداعين إليه على بصيرة، والمجاهدين فيه بإحسان، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
وبعد: فقد طالعت هذه التوجيهات، بل المحاضرات في أساليب الدعوة وتكوين الدعاة، فأعجبت بها وهششت لها، وشممت فيها بوارق الإخلاص والتوفيق، إن شاء الله، ودعوت الله تبارك وتعالى أن يجعلها نافعة لعباده، موجهة لقلوب الناطقين بكلمته والهاتفين بدعوته. وليس ذلك غريبا على كاتبها وملقيها الأخ الداعية المجاهد الأستاذ البهي الخولي، فهو بحمد الله صافي الذهن، دقيق الفهم، مشرق النفس، قوي الإيمان، عميق اليقين، أحسن الله مثوبته، وأجزل مكافأته، وبوأنا وإياه منازل مَن أحب من عباده، فرضي عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم
المفلحون. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا).
وهو الكتاب الوحيد– بعد رسائل الإمام الشهيد– الذي تفرد في تلك الفترة بأن يكتب عليه: من رسائل الإخوان المسلمين. أي إن قيادة الحركة تبنته ضمن مناهجها المعتمدة.
وكان الأستاذ البهي وثيق الصلة بالقرآن الكريم، له فيه تأملاته وتأويلاته الخاصة، وتفسيراته العميقة، بعضها ضمنه بعض كتبه المنشورة، وبعضها لعله لا يزال في أوراق منثورة في أضابيره، وكان مما أصدره من ذلك: كتابه (آدم عليه السلام).
وكان له اهتمام قديم بالجانب الاقتصادي في الإسلام، ونظرة الإسلام المتوازنة إليه، وقد تمثل ذلك في عدة كتب: (الثروة في ظل الإسلام)، و(الإسلام لا شيوعية ولا رأسمالية: العمل والعمال). و(الاشتراكية بين النظرية والتطبيق).
وكان له نظرات في الفقه وفي الاقتصاد، تنبئ عن فهم متميز، وأصالة في النظر، وعن شخصية مستقلة لها رؤيتها واجتهادها.
وكان له اهتمام بالجانب الرباني أو الجانب الروحي– أو ما سماه في تذكرة الدعاة (الروحانية الاجتماعية)– وله في هذا باع أي باع.
وأذكر أنني كنت في الجلسة التي نجلسها معه كنت- على فطرتي وطريقتي- أناقش وأسأل في كل ما لا يقتنع به عقلي، أو يطمئن إليه قلبي، فطرة فطرني الله عليها، وأعتقد أنها نعمة من الله عليّ، بجوار نعمه التي لا تعد ولا تحصى. وقد ظن الشيخ البهي رحمه الله أن لي موقفا مضادا من التصوف وأهله، ثم فوجئ بكتابيّ: (العبادة في الإسلام) و(الإيمان والحياة)، فوجد فيهما نزعة ربانية أصيلة، وقال لي بعد أن أهديتهما له: كيف خبَّأت عنا هذه الروحانية العميقة بمناقشاتك القديمة، التي جعلتنا نفهمك على غير حقيقتك؟ قلت له: يا فضيلة الأستاذ، المناقشة جزء من كياني، وربما يضيق بها الصوفية الذين يقولون: من قال لشيخه: لِم؟ لم يفلح. ويقولون: المريد بين يد الشيخ كالميت بين يد الغاسل. ولكني تلميذك الأمين فيما قررته في كتابك الفريد (تذكرة الدعاة) عن (الروحانية الاجتماعية)، فأنا مع (الربانية) ولست مع (الرهبانية) كما قال الشيخ أبو الحسن الندوي.
ومن أجل اهتمامه بهذا الجانب اهتم بسير الصالحين، وكان يحرر في مجلة (المسلمون)- التي أصدرها تلميذه د. سعيد رمضان- باب (مع العارفين). كتب فيه عن (الإمام الممتحن أحمد بن حنبل). كتابة متميزة، وكتب عن (عتبة الغلام)، وعن بعض الشخصيات الأخرى من السلف، ثم توقف واستمر الباب. ولم يكتب اسمه تحت هذا الباب، وقد نُشِر بعض ما كتبه ولم يُنْسَب إليه.
أكسب هذا الجانب الشيخ البهي حدسا صادقًا وفراسة قوية، فكان يقول عن أخينا عبد الوهاب البتانوني: كلما رأيت عبد الوهاب لحظت دم الشهادة يترقرق في وجهه. وكان يقول عنه: سيدي عبد الوهاب البتانوني. وقدر الله لعبد الوهاب أن يُرْزَق الشهادة على أرض فلسطين مع اثنين من إخوانه، طاردهم اليهود حتى لجؤوا إلى مصنع للسلاح، للاختباء فيه، ويظهر أنهم رأوا أنهم مقتولون لا محالة، وأن أفضل طريقة: أن يفجروا المصنع على من فيه وما فيه، وإن ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ كامل الشريف في كتابه (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين)، وقد كان أحد القادة في هذه الحرب. كما فصل ذلك الأخ يحيى عبد الحليم فيما كتبه عن (معركة عصلوج).
وتحقق ما قاله الشيخ البهي: كلما رأيت عبد الوهاب، رأيت دم الشهادة يترقرق في وجهه. رحمه الله ورضي عنه، وجعله شفيعا لأهله ولنا معهم.
وهكذا كان منهج شيخنا البهي في الدعوة: منهجا متوازنًا، يقوم على القرآن، ولكنه لا يغفل السنة، ويعنى بالجانب الروحي أو الإيماني، ولكنه لا يسرف فيه حتى يصير رهبانية، بل يريدها كما قال الشيخ الندوي: ربانية لا رهبانية. ولا غرو أن انعقدت بينه وبين أبي الحسن الندوي مودة عميقة.
ولم يكتف بالعمل العام في الدعوة، حتى كان رئيسًا للمكتب الإداري للإخوان في مديرية (محافظة) الغربية، قبل أن ينقل إلى القاهرة، بل ضمَّ إلى ذلك العمل في (النظام الخاص)- أو ما سموه بعد ذلك (الجهاز السري)- للإخوان، فكان هو المسؤول عن هذا النظام في الغربية: يبايعه من يبايع من أفراد الجماعة– الذين يقبلون الانضمام إلى هذا النظام– على المصحف والمسدس، كما ذكر في التحقيقات بعد ذلك. وإن كانت المحكمة قد حكمت له بالبراءة.
ولقد كنا تلاميذه المقربين في طنطا: أنا والعسال والدمرداش والصفطاوي والديب والحشاش وعبد المنعم البدراوي، وغيرهم، ولكنه لم يعرض علينا يومًا الالتحاق بهذا النظام، وكأنه اكتفى بـ(كتيبة الذبيح)، التي نتربى فيها على البذل والتضحية في سبيل الله، ولو قدم المؤمن رقبته طاعة لله، كما فعل الذبيح إسماعيل عليه السلام، حين قال له أبوه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وحين حلت حكومة النقراشي: جماعة الإخوان، بدعاوى لا تبلغ أن تكون سببًا لضرب هذه الجماعة وتمزيقها، والحكم عليها بالإعدام. وقد رد الأستاذ البنا بنفسه على دعاوى الحكومة، كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول من مذكراتنا (ابن القرية والكتاب). وقد تبين أن هذا كان استجابة لطلبات سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا، الذين اجتمعوا في (فايد) بمنطقة القناة، وقد تسبب هذا في اعتقال أعداد كبيرة من الإخوان تجمعوا في النهاية في معتقل الطور.
وامتثالًا للأمر النبوي: “إن كنتم ثلاثة في سفر فأمِّروا أحدكم”، واتباعا لمنهج السلف الذين كانوا في أسفارهم يختارون واحدًا منهم أميرا لهم، ويقولون: “هو أميرنا، أمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم”. اختار الإخوان أميرًا لهم في المعتقل، هو أستاذنا (البهي الخولي) أكبر الدعاة الموجودين في المعتقل، ورفيق الأستاذ البنا، وصاحب (تذكرة الدعاة)، ولكن لم يطُل المقام بالأستاذ البهي، فاستُدعي إلى القاهرة للتحقيق معه في قضية تتعلق بالنظام الخاص، كما استُدعي الأستاذ عمر التلمساني المحامي الشهير إلى القاهرة أيضا، فاختار الإخوان أميرا آخر اجتمعت كلمتهم عليه هو الشيخ محمد الغزالي، الذي كان في بداية السنة الثانية والثلاثين من عمره، وكان يتوقد ذكاء وفتوة وغيرة وعزيمة.
وفي عهد المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي، كان موضع ثقته من الناحية العلمية، وكلفه كتابة كتاب عن (المرأة). يبين فيه حقوقها وواجباتها، في ضوء الشريعة الإسلامية، ونهض بذلك، وكتب كتابه الموفق (المرأة بين البيت والمجتمع). الذي عكس نظرة وسطية بين الغلاة والمفرطين في قضية المرأة، ثم طوَّره بعد ذلك إلى كتاب (الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة).
وظلت العلاقات بينه وبين الأستاذ الهضيبي طيبة، حتى قامت ثورة يوليو، وكان التعاون بينها وبين الإخوان ملحوظًا، ثم حدث الخلاف، ودخل الباقوري الوزارة مع الثورة، على خلاف رأي الإخوان، فطلبوا إليه أن يستقيل من الجماعة، فاستقال، ليتحمل هو مسؤولية اختياره، واختار فريقًا من الإخوان للعمل معه، كان منهم الأستاذ البهي الخولي، والشيخ الغزالي، والشيخ سيد سابق. رحمهم الله جميعًا.
وحين اشتد الخلاف، واحتدم النزاع: اختلف أعضاء الهيئة التأسيسية فيما بينهم، فكان منهم فريق على رأسهم الأستاذ البهي، يرون ضرورة الصلح مع عبد الناصر، وتفادي جر الجماعة إلى معركة غير متكافئة مع الثورة، تُجَرُّ فيها للمهلكة بغير مبرر، وهؤلاء يحسنون الظن بعبد الناصر، ويرون أنهم إذا عقدوا عهدًا معه نفذه. وفريق آخر يمثل قيادة الإخوان، ويمثل الأكثرية منهم- أيضًا- لا يثقون بعبد الناصر، ولا بتعهداته، وأنه لا يضمر خيرًا للجماعة، بل يتربص بها، ويريد أن يتخلص منها؛ ولهذا يريد ضرب بعضها ببعض، فيكون بأسهم بينهم.
ومن هنا يجب الوقوف ضد هذه الفتنة، ومساندة القيادة الشرعية فيما تؤمن به، وتحرص عليه.
ويبدو أن الأحداث بعد ذلك صدَّقت ما قاله هؤلاء، وأن رؤية الأستاذ الهضيبي كانت أصدق، ولقد وقف الرجل– برغم كبر سنه– راسخ القدم، رافع الرأس، كأنه الطود الأشم.
هذا الموقف من الأستاذ البهي الخولي، جعل الكثيرين من الإخوان، يتخذون منه موقفا، وبخاصة الذين دخلوا السجن الحربي، ممن حوكموا، ومن لم يحاكموا، وهو موقف طبيعي بالنسبة للبشر، الذين لا يحبون من آذاهم، ولا من وقف مع من آذاهم.
ولقد حوكم الأستاذ البهي وإخوانه من أعضاء مكتب الإرشاد، مثل الشيخ عبد المعز عبد الستار، وأرادوا بهذه المحاكمة أن تكون شهادة ضد المرشد وإخوانه. ولقد كتب مؤرخ الإخوان الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه: (الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ). عن هذه الخلافات والصراعات داخل الجماعة، وهو شاهد عيان، ومرضيٌّ عند الطرفين فليراجع، وقد نقلنا بعض كلامه في الجزء الثاني من مذكراتنا. ولكن من المفترض أن تهدأ النفوس بعد مدة من الزمن، ويعود الناس إلى جو التسامح وخلق العفو والصفح، كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
وقد قال الله تعالى في شأن من شاركوا في حديث الإفك، وقد حلف أبو بكر أن يحرم أحدهم مما كان يصله به من قبل: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22].
وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:13].
فأولى أن يكون الصفح والعفو بين المؤمنين بعضهم وبعض.
لقد ساءني أن مجلة (الدعوة)، لسان حال الإخوان في مصر، حين انتقل الأستاذ البهي الخولي إلى رحمة الله، لم تعره أي التفات، ولم تتحدث عنه بوصفه أحد رجال الدعوة الذين عاشوا عمرهم لها، وتركوا آثارًا فيها.
وكان يمكن أن تشير إلى الخلاف الذي وقع، وتقول رأيها في تخطئة الأستاذ البهي ومجموعته، ثم تقول: ولكنه الآن أفضى إلى ما قدَّم، وهو موكول إلى نيته، وإنما لكل امرئ ما نوى.
وهنا لا بد لي من كلمة منصفة عن الخلاف داخل الإخوان، وأعتقد أنه ينطبق على كل الجماعات. والإخوان شأنهم شأن الجماهير دائما، تسرف في الحب، وتسرف في البغض، من أحبته ارتفعت به إلى أعلى عليين، ومن أبغضته نزلت به إلى أسفل سافلين، وفي هذا الحالة تنسى سوابقه، وتلغي مآثره، ولا يذكر عنه إلا الجانب المظلم.
هذا مع أن القرآن يعلمنا أن نعدل مع من نكره، كما نعدل مع من نحب، لا يمنعنا شنآن قوم (شدة بغضهم لنا أو بغضنا لهم) أن نعطيهم حقهم، كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ومن العدل أن تذكر للخصم حسناته، كما تذكر سيئاته، كما يعلمنا الإسلام: أن نتعامل مع أهل الإيمان بحسن الظن، وأن يحمل حال المسلم على أحسن حال، ونلتمس له العذر ما استطعنا، فالمؤمن أبدًا يلتمس المعاذير، والمنافق يتطلب العيوب والعثرات. وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]. وقال عليه الصلاة والسلام: “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث”.
أضف إلى ذلك: أن من آداب الإسلام: ألَّا ينسى المسلمون لمن أخطأ في حقهم: سوابقه الخيرة، ومواقفه الطيبة، التي حفل بها سجله، فربما كانت السوابق شافعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، وقد قال عن حاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله، أضرب عنق هذا المنافق! وقد حاول أن يفشي سر رسول الله إلى أهل مكة، ويخبرهم بقدوم جيشه عليهم، والرسول حريص على أن يفاجئهم، فيجبرهم على التسليم بلا قتال أو بأقل الخسائر الممكنة، فعمله مما يمكن أن يعد اليوم في أعمال الخيانة العظمى، ومع هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر: “ما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم”!.
كما أن من روائع هذا الدين: أنه يُقَدِّر ضعف الإنسان، وأن كل بني آدم خطاء، وأن من أخطاء الإنسان ما لا يعاقب عليه، بل يؤجر أجرًا واحدًا، إذا صدر عن اجتهاد وتحرٍّ للحق، فإن أصاب الحق فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. هذه مبادئ مهمة في التربية الأخلاقية الإسلامية، ولكن الإخوة كثيرًا ما يغفلونها، نتيجة لغلبة الغضب عليهم، أو إساءة الظن بمن يخاصمونه واتهامه في سريرته ونيته، ونحن لم نؤمر أن نشق عن قلوب الناس، بل لنا الظاهر، والله يتولى السرائر. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
هذه رسالة كتبها لي العلامة المربي الداعية الكبير الأستاذ البهي الخولي

نص الرسالة:
(بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي الأخ الكريم الأستاذ: يوسف القرَضاوي،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
تلقيت تهنئتكم بالعيد، فكان لها أكثر من معنى..
الروض الجاف الذي صوَّحت خمائلُه، وسكنت بلابله، وتفرَّقت عنه زهراته الحبيبة، حمل إليه العيد عبيرًا من ألمانيا من عبد المنعم (عثمان). الحبيب، وعبيرًا من قطر من يوسف (القرضاوي). الحبيب. . وجاء مع العبير الذكرى، وامتلأ الرأس بالصور والأطياف، وامتلأ الصدر بالمشاعر، وتندَّى ما بين الجَفْنَين بأثر الحنين والحنان..
ويقف القلم ولا يجد جدوى من الإفاضة إلا الدعاء، فأسال الله لك أن يجيبك في إيمانك، وأن يقيمك في حق مبادئك، وألا يجعل علمك الغزير لك فتنة.
تحياتي لأخيك أحمد (العسال)، وتحياتي للأستاذ عبد البديع (صقر)، وسائر إخوانك.
أرسل إليك نسختين؛ إحداهما لك، والأخرى لأخيك وأخي أحمد (العسال).
رسالة وضعتها وأنا أشعر بحب عاصف عميق لمولاي وسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت بهذا الحب أسمو حتى أكاد أسمع حفيفَ الملائكة، وكنت قبلها أعيش في صفاء وتأمُّل مع روح أمين أهل الأرض والسماء عبد الرحمن بن عوف، وروح الزاهد الصادق العملاق الذي لم تُقلّ الأرض، ولم تظلّ السماء أصدقَ لهجة منه، وحقَّق في الأرض زهد عيسى بن مريم مع ما ذكر الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام.
ولقد كنت في انفعالي العنيف بهما أتساءل: إذا كان هذان العظيمان من تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف كانت عظمته عليه الصلاة والسلام؟!! وأرجو أن تخرج ثمرة هذه الدراسة قريبًا.
وقد شاء لهما الله -وله الحمد والمنة- أن تكون مُحرَّرة من كل شائبة يتبرع بها الظانُّون بالناس ظنَّ السَّوء.
وسأوافيكم بها إن شاء الله عبر صدورها. وأعتقد أن أهم ما فيها هو صدق الحب لعبد الرحمن وأبي ذر.
فإلى اللقاء برسالة أخرى معها الصحابيان الجليلان.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى