تقارير وإضاءات

رؤيةٌ شرعيةٌ لاستخدامِ لقاحاتِ “كورونا”

رؤيةٌ شرعيةٌ لاستخدامِ لقاحاتِ “كورونا”

أ. د. الشيخ حسام الدين عفاتة

يقول السائل:ما قولكم فيمَنْ يُشككُ في استخدامِ لقاح “كورونا” بزعم اشتماله على مادةٍ مأخوذةٍ من الخنزير أو لعدم فائدته أو لوجود مؤامرةٍ في استعماله وغير ذلك، أفيدونا؟

الجواب:

أولاً: إن حفظ النفس من مقاصد الشريعة، وهو من الضروريات الخمس التي دلَّت على وجوب المحافظة عليها نصوصُ الكتاب والسنة دلالةً قاطعةً، وأجمعت الأمةُ على لزوم مراعاتها، فحفظُ نفسِ الإنسان يأتي في المرتبة الثانية بعد حفظ الدِّين، فلا يجوز تعريضُ النفس للهلاك، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء الآية 29.وقد أمر الإسلام بالتداوي، فإذا مرض الإنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، ولا ينافي التوكل على الله، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ) رواه أبو داود، وصححه العلامة الألباني في “صحيح الجامع”.وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قالَتِ الأعرابُ: يا رسولَ الله، ألَا نتداوَى؟ قال: نَعمْ، يا عبادَ اللهِ تداوَوْا؛ فإنَّ اللهَ لم يَضَعْ داءً إلَّا وضَعَ له شفاءً، أو قال: دواءً إلَّا داءً واحدًا، قالوا: يا رسول اللهِ، وما هو؟ قال: الهَرَمُ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصححه العلامة الألباني.وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(ما أنزل الله من داءٍ، إلا أنزل له شفاءً) رواه البخاري ومسلم.وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( لكُلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أصيبَ دواءُ الدَّاءِ، بَرِئَ بإذن ِاللهِ عزَّ وجلَّ) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص.قال العلامة ابن القيم: [وفي الأحاديث الصحيحة الأمرُ بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفعُ داء الجوع والعطش، والحرِّ، والبرد بأضدادها، بل لا تتمُّ حقيقةُ التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدحُ في نفس التوكل، كما يقدحُ في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعلُ العبدُ عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً ]زاد المعاد 4/14. وحكمُ التداوي عند الفقهاء يختلفُ باختلاف الأحوال والأشخاص، فيدور بين الإباحة والندب والوجوب والكراهة والتحريم، وفي ظرف جائحة “كورونا” وغيرها من الأمراض المعدية والأوبئة، فإني أرى أن التداوي بأخذ اللقاح يكون واجباً، نظراً لخطورة المرض وسرعة انتشاره وكونه معدياً للآخرين، ولآثاره الصعبة على الفرد والمجتمع من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها، وقد قارب إجمالي عدد الإصابات بفيروس “كورونا” في أنحاء العالم 104 مليوناً، وإجمالي الوفيات حوالي مليونين ونصف المليون حالة حتى هذا اليوم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:[ إِنَّ النَّاسَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي التَّدَاوِي، هَلْ هُوَ مُبَاحٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ وَاجِبٌ؟ وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وهو: ما يُعلم أنه يحصلُ به بقاءُ النفس لا بغيره، كما يجب أكل الميتة عند الضرورة، فإنه واجبٌ عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وقد قال مسروق: من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكلْ حتى مات دخل النار، فقد يحصل أحياناً للإنسان إذا استحرَّ المرضُ ما إن لم يتعالج معه مات، والعلاج المعتاد تحصل معه الحياة كالتغذية للضعيف وكاستخراج الدم أحياناً] مجموع الفتاوى 18/21.والقول بوجوب التداوي قال به بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة.ورد في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي: [ الأصلُ في حكم التداوي أنه مشروعٌ، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، ولما فيه من “حفظ النفس” الذي هو أحدُ المقاصد الكلية من التشريع. وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص:

(أ)فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.

(ب)ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.

(ت)ويكون مباحاً إذا لم يندرج في الحالتين السابقتين.

(ث)ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها…وأن مما تقتضيه عقيدةُ المسلم أن المرض والشفاء بيد الله عزَّ وجل، وأن التداوي والعلاج أخذٌ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون، وأنه لا يجوز اليأس من روح الله أو القنوط من رحمته، بل ينبغي بقاءُ الأمل في الشفاء بإذن الله تعالى.]

ثانياً: إن الواجب الشرعي يقتضي أن نسأل أهلَ الاختصاص -وهم الأطباء-في هذه النازلة المستجدة “فيروس كورونا” وكل ما يتعلق بها كأخذِ اللقاح، ومبدأُ الاستشارة ومشاورة أهل الاختصاص مبدأٌ أصيلٌ في ديننا الإسلامي، فالرجوع إلى أهل العلم في هذه التخصصات مطلوبٌ شرعاً امتثالاً لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} سورة النحل الآية 43. وقال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} سورة النساء الآية 83، ففي هذه الآية أمرٌ من الله تعالى للمؤمنين بالرجوع فيما يُشكل عليهم ويغمض عليهم علمُهُ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى البصراء بالأمور من أهل المعرفة والفطنة والتجربة. وأهل الاختصاص من الأطباء ينبغي الردُّ إليهم، والأخذُ بقولهم في المسائل التي تدخل في نطاق اختصاصهم. يقول الخطيب البغدادي: [ثم يذكر – أي المفتي- المسألةَ لمن بحضرته ممن يصلح لذلك من أهل العلم ويشاورهم في الجواب، ويسأل كل واحدٍ منهم عما عنده، فإن في ذلك بركة واقتداء بالسلف الصالح، وقد قال الله تبارك وتعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} وشاور النبـي صلى الله عليه وسلم في مواضع وأشياء وأمر بالمشاورة، وكانت الصحابة تشاور في الفتاوى والأحكام] الفقيه والمتفقه 2/71.وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ إذا اختلف في الشَجَّة -جُرْحٌ بليغٌ في الوجه أو الرَّأس- هل هي موضحة أو لا ؟…وغيرها من الجراح التي لا يعرفها إلا الأطباء، أو اختلفا في داء يختص بمعرفته الأطباء أو في داء الدابة، يؤخذ بقول طبيبين أو بيطارين إذا وجدا، فإن لم يقدر على اثنين أجزأ واحدٌ؛ لأنه مما يختص به أهلُ الخبرة من أهل الصنعة ] الموسوعة الفقهية الكويتية 19/17-24 بتصرف. وأهل الاختصاص من الأطباء يقولون بـأخذ لقاح “كورونا”، وأنه علاجٌ وقائي قد ثبت نفعُهُ وأُمِنَ ضررهُ، وبناءً على كلام أهل الاختصاص من الأطباء شرعت كثيٌر من الدول في العالم بتطعيم الملايين من شعوبها، وما زالت حملاتُ التطعيم مستمرة في أنحاء العالم.

ثالثاً: لم يثبت عند أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم وجودُ مشتقاتٍ من الخنزير أو أي منتجاتٍ حيوانيةٍ في لقاحات “فيروس كورونا” التي تنتجها شركات Pfizer أو AstraZeneca أو Moderna وهي لقاح Pfizer-BioNTech ولقاح Oxford-AstraZeneca ولقاح Moderna . fullfact.org/health/there-isnt-pork-in-covid-19وقد تمَّ اعتمادُ طرح اللقاح في بريطانيا من قِبل الجمعية الطبية الإسلامية البريطانية كما في بيانها على موقعها: mcb.org.uk/resources/coronavirus/#vaccineوقد نقل د. علي القرداغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عن خبيرٍ عراقي من أبرز الخبراء في الولايات المتحدة، تأكيده على عدم احتواء لقاح “كورونا” على أي مادةٍ من مشتقات الخنزير، موضحاً أنه “حتى لو دخلت مشتقاتُ الخنزير في صناعة اللقاح، فإنها تخضع لتغييرات في تركيبتها وتتحول لمواد أخرى، وإن بقيت على حالها فلا حرج من استخدامه، لأن حياة الإنسان ذات قيمة كبيرة عند الله تعالى، وهي في الإسلام أجلّ وأغلى من موضوع الخنزير وما إلى ذلك، والدليل هو أن الله تعالى عندما يأتي على ذكر حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير، يقول:”فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ”. ويرى بعض العلماء أن هذا ليس مجرد إجازة بل واجبٌ لكي يحافظ الإنسان على حياته.] www.rudaw.net/arabic/kurdistan/240120219وقد سألتُ الدكتور ربيع عدوان إخصائي الأمراض السارية والمعدية في مستشفى المقاصد في القدس والمستشفى الاستشاري في رام الله عن وجود مشتقاتٍ من الخنزير في لقاحات “فيروس كورونا” فأجاب: لا. وتمَّ نشرُ ذلك في ورقةٍ علميةٍ بأن اللقاح لا يحتوي على منتجات الخنزير]وأضاف بأن [اللقاحات هي أفضلُ اختراعٍ تمَّ اكتشافه في تاريخ الطب. وحيث إنها كانت مخرجاً ووسيلةً تخلص من الكثير من الأوبئة، نذكر منها شلل الاطفال والقزاز والتهاب السحايا والحصبة وغيرها كثير. وفيما يتعلق بلقاح فيروس “كورونا” ومع توقف عجلة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية لا مخرجَ من هذا الوباء الا برحمة الله تعالى وثم أخذ اللقاح. وكل ما نسمعه ونراه من إشاعات حول اللقاح، هي نفسها أُطلقت طور إصدار أي لقاحاتٍ سابقة. لأنه عالمياً هناك مجموعة من الناس تسمَّى حركة ضد التطعيمات.]وقد سألتُ أيضاً الدكتور أديب ناصر الدين اخصائي أمراض المناعة السريرية والحساسية للكبار والصغار في مستشفى هداسا عين كارم نفسَ السؤال السابق فأجاب: [لقاح كوفيد 19 يحتوي على الحامض الريبوزي المرسال الخاص بشيفرة البروتين الرئيسي للفيروس، وبعض الشحميات مثل الكوليسترول ومادة بولي ايثيلين جليكول والسكروز الذي يمنع التصاق الشحميات وبعض الأملاح.واللقاح لا يحتوي على مواد حافظة، ولا يحتوي على أي جيلاتين من مصدرٍ حيواني أو من الخنزير.]ويقول د. أديب ناصر الدين اخصائي أمراض المناعة السريرية والحساسية أيضاً:[ الإشاعاتُ كثيرةٌ وما بين نظريات المؤامرة وتغيير جينات البشرية والتحكم بالبشر عن بعد وشبكة ال 5G وأفلام الفضاء والزومبي والتحليلات غير المسؤولة واللامنطقية من أشخاصٍ لا علاقة لهم بهذا المجال أبداً، هنا يجدر التنويه أن كل هذا ليس له أي أساسٍ من الصحة أو المنطق، والتطعيم أثبت فعاليته، وأنه آمنٌ عن طريق الأبحاث والدراسات التي تمَّ نشرُها في المجلات العلمية، وسرعة حصول التطعيم على الموافقة العالمية هي من أجل الحدِّ من انتشار مرض “كورونا” وآثاره السلبية في مختلف النواحي.]كما أن أهل الاختصاص يقولون بأن لقاحات “فيروس كورونا” لا تعملُ تعديلاً في المادة الوراثية لمن أخذ المطعوم. www.youtube.com/watch?v=NzaPCqREw8k&ab_channelوينبغي أن أشير إلى ما ذكره الدكتور ربيع عدوان إخصائي الأمراض السارية والمعدية عن حركة ضد التطعيمات، فقد وجد أناسٌ وحركاتٌ مضادةٌ للتطعيم منذ ما يقارب من 80 عاماً، ومستمرة حتى يومنا هذا، وهؤلاء يشككون في فعالية وسلامة وضرورة اللقاحات، كما يجادلون بأن اللقاحات الإلزامية تنتهك حقوق الأفراد في القرارات الطبية والمبادئ الدينية. ويقولون بنظرية المؤامرة في اللقاحات، وأنها وسيلة لجني المال والسيطرة.وقد اعتبرت منظمة الصحة العالمية الحركةَ المناهضة للتلقيحات، كواحدةٍ من أكبر عشرة تهديدات صحية عالمية في عام 2019. وأعلنت منظمة الصحة العالمية أيضاً أن التردد في تلقي اللقاحات من بين أكثر عشرة أخطار تواجه الصحة العالمية. وقد صف علماءُ الصحة والطب التطعيم بأنه واحدٌ من أرقى الإنجازات العشرة للصحة العامة في القرن العشرين. https://www.historyofvaccines.org/arabic/node/654

رابعاً: لو ثبت جدلاً وجود مشتقات من الخنزير في لقاحات “فيروس كورونا”، فإن الجواب الشرعي عن جواز استعمالها بأن نقول: الأصل المقرر شرعاً في التداوي بالمحرمات والنجاسات الحرمة، لعموم الأدلة في ذلك، كقول النبي صلى الله عليه وسلم السابق :(إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ) ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع.ولكن عند الضرورة يجوز التداوي بها، والدليل على ذلك: الأدلة العامة على إباحة المحرم للمضطر، كقول الله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} سورة الأنعام الآية 119،وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة البقرة الآية 173 .وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة المائدة الآية 3 .وقوله تعالى: { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سورة الأنعام الآية 145 . فهذه الآيات الكريمات بينت أن حالات الضرورة مستثناةٌ من التحريم، وبناءً على ذلك قال الفقهاء:[الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالةٌ من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضررٍ أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها، ويتعين أو يُباح عندئذ ارتكابُ الحرام أو تركُ الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.

وقد ذكر الفقهاء قديماً وحديثاً قواعد وضوابط للضرورة منها: أن يحصل فعلاً خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن، أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال ومنها ألا يتمكن الشخص من دفع الضرورة بوسيلة أخرى من المباحات. وكل ذلك حاصلٌ في جائحة “كورونا”.ويضاف إلى ما سبق أن المواد المحرّمة تبقى محرمةً ما دامت على حالها لم تتغير صفاتُها وطبائعُها، ولكن إن تغيرت تلك الأوصاف والطبائع، فيتغير الحكم. وهذا ما يُعرف عند الـفـقـهـاء بـالاسـتـحـالة، وهـي تـغـيـر الـشـيء عن صفته وطبعه، أو هي تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها وانقلاب عينها إلى مادةٍ مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات. ويعبرُ عنها في المصطلح العلمي الشائع بأنها كل تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركبٍ آخر، كتحول الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون، وتحلل المادة إلى مكوناتها المختلفة كتفكك الزيوت والدهون إلى حموض دسمة وغليسرين، وكما يحصل التفاعل الكيميائي بالقصد إليه بالوسائل العلمية الفنية يحصل أيضاً – بصورة غير منظورة – في الصورة التي أوردها الفقهاء على سبيل المثال: كالتخلل والدباغة والإحراق، وبناءً على ذلك تعتبر المركبات الإضافية ذات المنشأ الحيواني المحرَّم أو النجس التي تتحقق فيها الاستحالة تعتبر طاهرةً حلال التناول في الغذاء والدواء ] الموسوعة الفقهية 10/278 وانظر توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة / مجلة المجمع الفقهي عدد10 ج 2/ 461-463.وورد في توصيات الندوة الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: [الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تحول المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحةٍ شرعاً وبناءً على ذلك:الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتار: طاهرٌ وأكله حلال.] الفقه الإسلامي وأدلته 9/662-664 . وقد أخذ أكثر الحنفية والمالكية والظاهرية ورواية في مذهب الحنابلة اختارها ابن تيمية، أن الاستحالة تغيرُ النجسَ إلى طاهرٍ والمحرمَ إلى مباحٍ، سواء ما كان نجساً لعينه أو ما كان نجساً لمعنًى ووصفٍ فيه. وهذا أرجح قولي الفقهاء في المسألة.

خامساً: إذا تقرر كلُّ ما سبق، فإن الأدلةَ كثيرةٌ على أن التداوي بأخذ لقاحات “كورونا” واجبٌ شرعاً أذكر منها:

(1) إن في أخذ لقاحات “كورونا” إعمالاً لمقاصد الشريعة في حفظ النفس، فهو من مقاصد الشرع ومن الضروريات الخمس التي دلّت على وجوب المحافظة عليها نصوصُ الكتاب والسنة دلالةً قاطعةً، وأجمعت الأمةُ على لزوم مراعاتها كما سبق.

(2) إن أخذ لقاحات “كورونا” يعتبر من باب إزالة الضرر، ولا شك أن إزالة الضرر من مقاصد الشارع الحكيم. وقرر الفقهاءُ مشروعية إزالة الضرر كما في القاعدة الفقهية: “الضرر يُزال”.

(3) إن أخذ لقاحات “كورونا” يعتبر إعمالاً للقاعدة الشرعية التي تقول: “الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامةً كانت أو خاصةً” نظراً لخطورة فيروس “كورونا” وسرعة انتشاره والحاجة الماسة للعلاج.(4) إن أخذ لقاحات “كورونا” يعتبر إعمالاً للقاعدة الشرعية:”إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفهما” ومثلها القواعد التالية: “الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشد من الآخر، فيحمل بأيتهما شاء” ،”إذا اجتمع الضرران أسقط الأكبرُ الأصغر”، “الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف”، “يختار أخفَّ الضررين”، “يختار أهونَ الشرين”

(5) إن أخذ لقاحات “كورونا” لو ثبت أن فيها مادة من مشتقات الخنزير، يعتبر من باب الضرورات العامة، ومعلومٌ أن الشريعة الإسلامية قد جاءت باليسر والسماحة ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس عند الاضطرار كما سبق.

(6) إن أخذ لقاحات “كورونا” طريقةٌ لتحقيق المناعة أمرٌ يستقيم شرعاً وعقلاً. ومشروعية التداوي دفعاً للمرض أو توقياً منه موضع إجماع أهل العلم، فسواء أكان المرض واقعاً أو متوقعاً فلا نزاع في مشروعية التداوي منه، وإنما وقع النزاع في وجوبه أو عدمه، وقد فصلت المجامعُ الفقهية القولَ في مواضع الوجوب، ومنها ما إذا كان المرض يؤدي إلى الإضرار بالغير، وهو ما ينطبق على وباء “كورونا” حيث يكون احتمال العدوى شديداً. انظر فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا https://www.amjaonline.org/fatwa

(7) إن المزاعم بأن لقاحات “كورونا” ضارةٌ أو غير مفيدةٍ كلامٌ مردودٌ علمياً، لأن [عملية الموافقة والإقرار على التطعيمات ليست قراراً متروكاً لفرد أو شركة، إنما يكون من قبل هيئة الغذاء والدواء FDA (وغيرها من الهيئات العلمية في مختلف البلدان) وهي تتبع معايير دقيقة وصارمة وفق قاعدة تغليب المصالح والمنافع على الأخطار والمفاسد، مما ينسجم مع القواعد الشرعية. وقد أفادنا بعض الأطباء المسلمين الموثوقين بأن لقاح “فايزر” الذي تمَّت الموافقة عليه من قبل هيئة الغذاء والدواء، قد درس فيما يزيد على أربعين ألفاً (تلقى ما يزيد على عشرين ألفا منهم اللقاح الفعلي)، ولم يصب أي منهم في مدةٍ تربو على الشهرين بأعراضٍ خطيرةٍ، وهو ما يفوق الأعداد المعتمدة علمياً للتجارب في الدراسات السابقة، والزمن العلمي المقرر لها، والذي تحصل فيه أكثر المضاعفات، وإن كان هذا العدد أو الزمن لا يكفيان للتيقن من عدم حصول مضاعفات نادرة، ولكن هذا يمكن توقعه مع أي تطعيم أو دواء آخر، فنبقى على ترقبٍ ومتابعةٍ للمستجدات، ولكن هذا لا يمنع الانتفاع بها في الوقت الراهن بعد أن تمَّت الموافقة عليها بأغلبية ساحقة لرجحان المصلحة المترتبة عليها على المفسدة. ويبدو أن الأمر يسير بنفس الاتجاه بالنسبة للقاح “مودرنا” الذي اشتملت دراسته ما يزيد على ثلاثين ألفاً تلقى أكثر من نصفهم اللقاح الفعلي. ومع ما تقدم، ولطبيعة الخطر الذي يواجهه العالم، فإن ما يذكر من مخاطر محتملة لا ينهضُ دليلاً على حجب المشروعية عن هذا الدواء لغلبة منافعه، التي أثبتتها الدراسات العلمية] المصدر السابق.

(8)إن الفتوى بوجوب تلقي لقاح “كورونا” تنطبق على كل شخصٍ بمقدوره الحصول على اللقاح من أجل حماية نفسه وحماية الآخرين من المرض. https://www.rudaw.net/arabic/kurdistan/240120219

وخلاصة الأمر: أن حفظ النفس من مقاصد الشريعة، وهو من الضروريات الخمس التي دلَّت على وجوب المحافظة عليها نصوصُ الكتاب والسنة دلالةً قاطعةً، وأجمعت الأمةُ على لزوم مراعاتها.وأن أمر الإسلام بالتداوي، فإذا مرض الإنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، ولا ينافي التوكل على الله.وأن حكمَ التداوي عند الفقهاء يختلفُ باختلاف الأحوال والأشخاص، فيدور بين الإباحة والندب والوجوب والكراهة والتحريم، وفي ظرف جائحة “كورونا” وغيرها من الأمراض المعدية والأوبئة، فإني أرى أن التداوي بأخذ اللقاح يكون واجباً، نظراً لخطورة المرض وسرعة انتشاره وكونه معدياً للآخرين، ولآثاره الصعبة على الفرد والمجتمع من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وغيرها.وأن الواجب الشرعي يقتضي أن نسأل أهلَ الاختصاص -وهم الأطباء-في هذه النازلة المستجدة “فيروس كورونا” وكل ما يتعلق بها كأخذِ اللقاح، ومبدأُ الاستشارة ومشاورة أهل الاختصاص مبدأٌ أصيلٌ في ديننا الإسلامي.وأن أهل الاختصاص من الأطباء يقولون بـأخذ لقاح “كورونا” وأنه علاجٌ وقائي قد ثبت نفعُهُ وأُمِنَ ضررهُ، وبناءً على كلام أهل الاختصاص من الأطباء شرعت كثيٌر من الدول في العالم بتطعيم الملايين من شعوبها، وما زالت حملاتُ التطعيم مستمرة في أنحاء العالم.وأنه لم يثبت عند أهل الاختصاص من الأطباء وغيرهم وجودُ مشتقاتٍ من الخنزير أو أي منتجاتٍ حيوانيةٍ في لقاحات “فيروس كورونا”.وأنه لو ثبت جدلاً وجود مشتقات من الخنزير في لقاحات “فيروس كورونا” فإن الضرورة تجيز التداوي بها، والأدلة العامة تدل على إباحة المحرم للمضطر.وأن المواد المحرّمة تبقى محرمةً ما دامت على حالها لم تتغير صفاتُها وطبائعُها، ولكن إن تغيرت تلك الأوصاف والطبائع، فيتغير الحكم. وهذا ما يُعرف عند الـفـقـهـاء بـالاسـتـحـالة، وهـي تـغـيـر الـشـيء عن صفته وطبعه.وأن الأدلةَ كثيرةٌ على أن التداوي بأخذ لقاحات “كورونا” واجبٌ شرعاً حيث إن في أخذ لقاحات “كورونا” إعمالاً لمقاصد الشريعة في حفظ النفس.وأن أخذ لقاحات “كورونا” يعتبر من باب إزالة الضرر، ولا شك أن إزالة الضرر من مقاصد الشارع الحكيم.وأن أخذ لقاحات “كورونا” يعتبر إعمالاً للقواعد الشرعية:”الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامةً كانت أو خاصةً” “إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمُهما ضررًا بارتكاب أخفهما” “الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشد من الآخر، فيحمل بأيتهما شاء” ،”إذا اجتمع الضرران أسقط الأكبرُ الأصغر”، “الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف”، “يختار أخفَّ الضررين”، “يختار أهونَ الشرين”.وأن المزاعم بأن لقاحات “كورونا” ضارةٌ أو غير مفيدةٍ كلامٌ مردودٌ علمياً، لأن عملية الموافقة والإقرار على التطعيمات ليست قراراً متروكاً لفرد أو شركة، إنما يكون من قبل هيئات علمية متخصصة وفق معايير دقيقة وصارمة.وأن الفتوى بوجوب تلقي لقاح “كورونا” تنطبق على كل شخصٍ بمقدوره الحصول على اللقاح من أجل حماية نفسه وحماية الآخرين من المرض.

والله الهادي إلى سواء السبيل

(المصدر: شبكة يسألونك الإسلامية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى