كتب وبحوث

حكم الأغلبية.. (الجزء الثاني): اعتراضات وردود

اسم الدراسة: حكم الأغلبية.. 

إعداد: د. أحمد الريسوني.

——————————-

المبحث الأول: مسألة الأغلبية في سياق الأدلة الشرعية

المبحث الثاني : اعتراضات و ردود

المبحث الثالث : الترجيح بالأغلبية عند العلماء

المبحث الرابع : العمل بالأغلبية : أهميته — مجالاته

عايشت عدد من العلماء والكتاب الإسلاميين المعاصرين وقفوا من مبدأ الأغلبية موقف الإنكار والرفض. وبما أنهم قد أجهدوا أنفسهم في جمع ما يرونه من أدلة تقضي ببطلان اتباع الأغلبية , مما يضفي على موقفهم — لو سلمت لهم تلك الأدلة — طابع الحكم الشرعي الصحيح الملزم, كان لا بد من وقفة مع ما استدل به المنكرون لمبدأ الأغلبية , لتمحيص تلك الاستدلالات وبيان مكامن الخلل فيها.

الأكثرية المذمومة في القرآن

قالوا: إن الكثرة والأكثرية لا تأتي في القرآن إلا في سياق الذم والقدح, والقرآن لا يصور “أكثر الناس” إلا جاهلين ضالين فاسقين… فكيف نثق بالأغلبية ونعتد برأيها ونلتزم به…؟؟

يقول الدكتور حسن هويدي: “فقد وردت الآيات الكريمة كنصوص عامة من كتاب الله تذم الأكثرية وتمدح الأقلية. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أكثر مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ} [الأنعام: 116]، {وَمَا أكثر النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كثيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، {وَلَكِنَّ أكثركُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]، {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] وهكذا نجد أن الخيرة هم القلة, حين مقارنة المؤمنين بالكافرين, وحين مقارنة المؤمنين بعضهم ببعض, فأين أمست الكثرة بعددها أمام القلة بفضلها…“[1].

وهذا هو المنحى الذي سبق أن ذهب إليه الأستاذ أبو الأعلى المودودي في بعض كتاباته المتقدمة، ولو أنه حتى في هذه الكتابات لم يهدر الأغلبية بالمرة, فهو رحمه الله يقول متحدثًا عن مجلس الشورى: “والأمور تقضى في هذا المجلس بكثرة آراء أعضائه في عامة الأحوال. إلا أن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانًا للحق والباطل: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]. فإنه من الممكن في نظر الإسلام أن يكون الرجل الفرد أصوب رأيًا وأحَدَّ بصرًا في مسألة من المسائل من سائر أعضاء المجلس. فإن كان كذلك, فليس من الحق أن يرمي برأيه, لأنه لا يؤيده جمع غفير. فالأمير له الحق أن يوافق الأقلية في رأيها, وكذلك له أن يخالف أعضاء المجلس كلهم ويقضي برأيه…“[2].

والشاهد عندي في هذا النص, هو اعتماده على الآية التي تضمنت عدم الاعتداد بالكثرة الخبيثة, للتدليل على إهدار الأكثرية مطلقًا.

وهذا المعنى ردده الأستاذ إسماعيل الكيلاني, وهو يرد على الدكتور عبد الحميد الأنصاري[3], حيث قال: “إن الإسلام لا يجعل كثرة العدد ميزانًا للحق والباطل“[4]

وأبدأ في توضيح هذه المسألة, من هذه الآية الأخيرة التي اعتمد عليها الشيخ المودودي ومن تابعه في ذلك. فالآية إنما تنفي المساواة بين الطيب والخبيث, مشيرة إلى أفضلية الطيب ولو كان قليلًا, على الخبيث ولو كان كثيرًا. والخبيث من الأشياء, هو الحرام, وهو القذر والنجس. والخبيث من الناس هو الكافر والمنافق لا غير. وعلى هذا فالطيبات من الأموال والأشياء, ولو كانت قليلة خير من خبائثها ولو كثرت. وكذلك الطيبون من الناس هم المقبولون المعتد بهم في ميزان الشرع ولو كانوا قلة. أما الكفار والمنافقون, فمهما كثرت أعدادهم وتعددت مللهم ونحلهم، فإنما هم حطب جهنم. فلا ينبغي للمؤمنين أن يغتروا ويتأثروا لكثرة خبيثة إن رأوها قد أحاطت بهم.

فليس في الآية أبدًا تفضيل مطلق للقلة على الكثرة, وليس فيها إهدار مطلق للكثرة، وإنما فيها إهدار للكثرة الخبيثة. ومعلوم أن الخبيث لا تزيده الكثرة إلا خبثًا وسوءًا, كما أن الطيب تزيده كثرته طِيبًا. فالكثرة تقوي خبث الخبيث وتقوي طيب الطيب.

ومن نوادر الاستنباطات, ما ذهب إليه الإمام ابن عرفة[5] من أن هذه الآية بالذات قد دلت على الاعتداد بالكثرة. فقد قال في تفسيره –كما نقل ابن عاشور — : “وكنت بحثت مع ابن عبد السلام[6]، وقلت له: هذه الآية تدل على الترجيح بالكثرة في الشهادة… فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}, يدل على أن الكثرة لها اعتبار, بحيث إنها ما أسقطت هنا إلا للخبث, ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه. ثم وجدت ابن المنير[7] ذكره بعينه[8]”.

فالذي أهدرته الآية هو الخبث لا الكثرة. وعلى هذا الأساس أيضًا نفهم عشرات الآيات التي جاءت تذم أكثر الناس, وتصفهم بأنهم لا يعلمون, ولا يؤمنون, وأنهم فاسقون…

والآيات التي وصفت “أكثر الناس “بأنهم” لا يعلمون” كانت تتحدث بصفة خاصة عن مجال الغيبيات, وهو المجال الذي لا يدرك حقائقه ولا يعقلها إلا أقل الناس. وأكثر الناس لا يكاد علمهم وإدراكهم يصل إلى شيء منها إلا بخبر الأنبياء. وها هي بعض الآيات التي تبين السياق الذي يوصف فيه أكثر الناس بأنهم لا يعلمون, والمسائل التي يتعلق بها هذا الحكم.

ـ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [لقمان: 24].

ـ {وَاللَّهُ غَالِبٌ على أمره وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].

ـ {أَمَرَ ألا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40].

ـ {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47].

ـ وقال تعالى عن نبيه يعقوب: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68].

ـ وقال عن موسي: {فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أن وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 13].

ـ {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إن اللَّهَ قَادِرٌ على أن يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].

ـ {فإذا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أكثرهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131].

وهكذا تمضي الآيات تقرر وتؤكد أن أكثر الناس لا يعلمون الحقائق الغيبية. فلا عبرة بكثرة المنكرين لها, وبكثرة المعتقدين خلافها. ولهذا كان المصدر الصحيح المعتمد في هذا المجال هو الوحي , والخبر الصادق عنه.

على أن بعض الآيات التي ذمت (الأكثر) بصيغ متعددة, كانت تعني خاصة بعض الأقوام المتعنتين, كاليهود, أو مشركي العرب, أو غيرهم من الأقوام الذين عاندوا أنبياءهم واستكبروا أمام هدايتهم.

ففي مشركي العرب أنزل الله عز وجل :

ـ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أكثرهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63].

ـ {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلا أن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أكثرهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111].

ـ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ على اللَّهِ الْكَذِبَ وَأكثرهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].

ـ {أَمْ تَحْسَبُ أن أكثرهُمْ يَسْمَعُونَ أو يَعْقِلُونَ إن هُمْ إلا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].

ومما أنزله الله تعالى في ذم أكثرية أهل الكتاب, وخصوصًا منهم اليهود:

ـ {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أكثرهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 100].

ـ {وَلَوْ آَمَنَ أهلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأكثرهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 100].

فهذه هي الأكثريات المذمومة في القرآن : أكثرية المشركين, أكثرية المنافقين, أكثرية اليهود والنصارى, أكثرية المعاندين والمستكبرين.

فمن الغلط الفادح قطع الآيات الذي ذمت الأكثرين من هذه الأصناف, عن سياقاتها وموضوعاتها, ثم الانتقال بها إلى صف المسلمين وجماعة المؤمنين, ثم الانتقال بها إلى إهدار الكثرة مطلقًا, و تفضيل القلة عليها!

إن الكثرة في الأصل هي حكمة الله, وهي نعمته على خلقه, حيث يكثرهم ويكثر أرزاقهم. ألا ترى أن الله سبحانه قد امتن على قوم شعيب بأنه كثرهم فقال لهم: {وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ}. ومن المفيد أن أورد هذا الجزء من الآية في سياقه. قال الله عز وجل:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أشياءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصلاحها ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 85– 86].

إن الله يأمر القوم بتوحيده وعبادته, وبإيتاء الناس حقوقهم بلا تطفيف ولا بخس, وينهاهم عن الإفساد في الأرض بعد أن أصلحها, أي جعلها صالحة مهيأة لنفع العباد. ويحذرهم من مضادة نعم الله التي منها أنه هيأ لهم أسباب التكاثر بعد قلة. ويحذرهم من عاقبة المفسدين, وهي أنه أهلكهم ومحق كثرتهم بعد أن أفسدوها وحولوها إلى كثرة خبيثة لا قيمة لها.

فالتكثير نعمة من الله كسائر نعمه: من خلق، ورزق, وجمال, وقوة, ومال… وكل هذه النعم قد تسخر تسخيرًا أعوج, يفقدها قيمتها ونفعها, لأسباب عارضة. ولكن هذه النعم لا تفقد قيمتها الأصلية, فمتى حسن استعمالها, ووضعت في موضعها كانت معتبرة ومعتدًا بها, وكانت كثرتها خيراً من قلتها.

ألا ترى أن الله امتدح ضخامة الجسم حين كانت مع الإيمان والصلاح وذمها واستهزأ بها, حين اقترنت بالنفاق, فقال في حق طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247], وقال في زعيم المنافقين– وكان ذا قامة وضخامة ووجاهة في البدن _​: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4].

فالكثرة مطلوبة ومرغوبة ومعتد بها, شريطة ألا تخرج من دائرة الإيمان والإصلاح إلى دائرة الكفر والإفساد. وعلى هذا, فالكثرة في دائرة الخير زيادة في الخير, والكثرة في دائرة الشر زيادة في الشر. والقلة في الخير نقصان في ذلك الخير, والقلة في الشر نقصان فيه أيضًا.

فالكثرة في الخير أفضل من القلة. والقلة في الشر أفضل من الكثرة.

وعلى هذا, فكثرة المؤمنين, أفضل من قلتهم, من حيث هم مؤمنون. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة, وإياكم والفرقة, فإن الشيطان مع الواحد, وهو من الإثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة…“[9].

وتأكيداً لمعنى الحديث, وتطبيقا له قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الراكب[10] شيطان, والراكبان شيطانان, والثلاثة ركب“[11].

فالثلاثة أفضل من الاثنين, وأبعد عن تأثير الشيطان ونزعه, مثلما أن الاثنين أبعد عن ذلك من الواحد, كما في الحديث السابق.

واعتبار الراكبين شيطانين — ولو أنهم أبعد عن الشيطان من الواحد — يرجع — والله أعلم — إلى أنهما إذا تعرضا للخلاف والنزاع, لم يكن بينهم حكم ولا مرجح, لأنهما يُحْرَمَان من تحقيق ما جاء في الحديث الآخر” إذا خرج ثلاثة في سفر, فليؤمروا أحدهم“[12].

والتأمير لا يأتي مع الاثنين, لعدم إمكان وجود أغلبية ترجح وتؤمر, كما هو الشأن مع الثلاثة فأكثر, فالتأمير لا يتأتى إلا مع ثلاثة فأكثر, لأن وجود الأغلبية يصير ممكناً.

ومن الأحاديث المشيرة إلى تقديم الكثرة على القلة: ما جاء فيمن يبدأ بالسلام عند التلاقي. وخلاصة ما جاءت به الروايات عن أبي هريرة. عن النبي — صلى الله عليه وسلم — : “أن الصغير يسلم على الكبير, وأن القليل يسلم على الكثير, وأن الراكب يسلم على الماشي, وأن الماشي يسلم على القاعد“[13].

فقد وقع تقديم حق الكبير على الصغير, وهذا مسلم, وله شواهد من النقل والعقل, وعليه فالصغير يسلم على الكبير. ووقع تقديم حق الكثير على القليل, لأن الكثير مع القليل, كالكبير مع الصغير. فإذا لم يوجد مرجح أقوى وأولى، كان للكثرة رجحان وأولوية. مثلما يكون ذلك للسن, عند التساوي من كل وجه.

وأما تسليم الراكب على الماشي, فالغرض منه الحمل على التواضع, حتى لا يحس الراكب بالاستعلاء والتفضيل على من لا مركوب له.

وأما تسليم الماشي على القاعد, فإن القاعد بمثابة من هو في بيته أو محله, والماشي بمثابة الوافد عليه. ومعلوم أن الوافد على غيره, يلزمه السلام عليه, لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا على أهلهَا} [النور: 27].

آية آل عمران

ومما تعلق به الرافضون لاعتبار الأكثرية, قوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللَّهِ إن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .

فقد فهموا من هذه الآية أن الأمير إذا استشار، فإنه يختار بعد ذلك ما بدا له ويعزم عليه, ويمضي متوكلاً على الله, لا على أغلبية ولا على أقلية. وقد دعموا فهمهم هذا بنص للإمام الطبري, وضعوه في غير موضعه.

ومن الواضح جدًا أن الآية لم تتعرض لاتباع الأغلبية ولا لعدم اتباعها, ولا لجواز ذلك ولا لوجوبه ولا لمنعه. فتحميلها الدلالة على جواز تفرد الأمير بالأمر ومخالفة أغلبية مستشاريه أو جميعهم، إنما هو تكلف وتعسف.

وأما نص الطبري الذي تعلقوا به, فقد جاء عند تفسير قوله تعالى: { فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ على اللَّهِ}. وهذا نص كلامه: “(فإذا عزمت فتوكل على الله) فإنه يعني: فإذا صح عزمك بتثبيتنا إياك, وتسديدنا لك فيما نابك وحزبك من أمر دينك ودنياك, فامض لما أمرناك به على ما أمرناك به, وافق ذلك آراء أصحابك وما أشاروا به عليك, أو خالفها. كما حدثنا ابن حميد قال: ثنا سلمة عن ابن إسحاق: (فإذا عزمت فتوكل على الله, إن الله يحب المتوكلين) فإذا عزمت, أي على أمر جاءك مني أو أمر دينك في جهاد عدوك, لا يصلحك ولا يصلحهم إلا ذلك فامض على ما أُمرت به, على خلاف من خالفك, وموافقة من وافقك“[14].

والنص ناطق بنفسه, أن الأمر يتعلق بما نزل فيه وحي, وحكم الله فيه بحكم, فإن الواجب أن ينفذ ما أمر الله به, ولا عبرة حينئذ بالأكثر أو الأقل أو الجميع. وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين. والنص عن هذا يتكلم: (فامض لما أمرناك به, على ما أمرناك به… فإذا عزمت. أي على أمر جاءك مني أو من أمر دينك..فامض على ما أمرت به…).

وكثيرًا ما يخلط أنصار الفردية بين الأمور التي عالجها الرسول مع أصحابه بالرأي والاجتهاد, وكان فيها رأي أغلبهم راجحاً معتبرًا, وبين الأمور التي أمضاها بمقتضى الوحي وما يستنبطه منه, وهذا ينقلنا إلى مستند آخر, مما أكثروا الاتكاء عليه لإهدار الأغلبية وتثبيت الفردية, وهو:

صلح الحديبية

وحجتهم فيه أن النبي — صلى الله عليه وسلم — , أقدم على كثير من الأمور مخالفاً بذلك آراء الصحابة. فأمضى ما بدا له, ولم يلتفت إلى معارضتهم واستيائهم. يقول الدكتور حسن هويدي: “ففي هذه الحادثة الشهيرة. خالف رسول الله — صلى الله عليه وسلم — الأكثرية بل الجميع، في عدة مواقف, أولها: قال: “المسلمون [واللهِ لا نكتبها إلا (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال الرسول — صلى الله عليه وسلم — : اكتب (باسمك اللهم). وثانيها: قال المسلمون: سبحان الله, كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً[15]. وثالثها: أمره إياهم بالنحر والحلق, فما قام منهم رجل. ورابعها: إبرام شروط الصلح المشهورة التي تبدو كأن فيها حيفًا عليهم”.

قال: “فالحادثة كالشمس وضوحا في استعمال القائد حقه في أمر يراه صوابا, وإن خالف رأي الأكثرية. وذلك دليل قطعي على عدم إلزامية الشورى للخليفة أو الإمام“[16].

ويقول الدكتور محمود الخالدي: “وأمضى رأيه ولم ينزل عند رأي الأغلبية…“[17] والعجب لا ينتهي من صنيع هؤلاء الذين يصرون — غفلة أو تغافلاً — على أن النبي — صلى الله عليه وسلم — إنما نفذ رأيه في الحديبية, وأنه لم يلتفت إلى آراء الصحابة لأن رأيه كان هو الصواب…

أليست الأدلة ” كالشمس وضوحا” في أن الرسول إنما كان ينفذ الوحي الذي لا تبقى معه أقلية ولا أكثرية, ولا تبقى معه شورى أصلًا؟!.

لنبدأ القصة من أولها…

خرج المسلمون إلى مكة يريدون العمرة, ولا يريدون قتالًا. لكن قريش جمعت لهم جموعها وأصرت على صدهم، وهو ما لم تكن تسمح به حتى أعراف الجاهلية. فلما تأكد أن قريشا ستصدهم وتقاتلهم, استشار النبي — صلى الله عليه وسلم — أصحابه وقال لهم: أترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم, فنصيبهم, فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين, وإن يجيئوا تكن عنقا قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟.

فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم, إنما جئنا معتمرين, ولم نجيء لقتال أحد, ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه, فقال النبي — صلى الله عليه وسلم-​: فروحوا إذاً…“[18]

فالرسول استشار, وعرض اقتراحين أحدهما يقضي بالمبادرة إلى الهجوم، والآخر يقضي بالمضي للعمرة, ومن قاتلهم قاتلوه. وقد أشار أبو بكر بالاقتراح الثاني, ولم يعارضه أحد، فأخذ الرسول به ومضى على أساسه. هذا إلى هذا الحد.

ثم وقع تحول في سير الأمور: لما اقتربوا من مكة وبالضبط من الحديبية، بركت ناقة رسول الله, وحاول الناس استنهاضها فأبت. فقالوا: خلأت القصواء[19] فقال النبي — صلى الله عليه وسلم — : ما خلأت القصواء, وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل.

ومعنى هذا أن الله تعالى أراد توقيف السير إلى مكة, وهو السير الذي كان يعني قتالا محققاً بين المسلمين والمشركين. وفهم الرسول الإشارة وأدرك مرماها. ولذلك قال: “والذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله, إلا أعطيتهم إياها“[20] ثم استنهض ناقته, فنهضت, وتقدموا حتى نزلوا بالحديبية. ثم بدأت المفاوضات بين الطرفين، ورسول الله حريص كل الحرص على تجنب القتال, بعد أن تلقى توجيهاً من ربه إلى هذا.

ومما يؤكد أن التمسك بالصلح وتجنب القتال كان بوحي من الله, هو أن الرسول — خلافاً لمعهوده– لم يعد إلى مشاورة الصحابة أصلًا منذ توقفت راحلته وفهم من ذلك ما فهم.

وعندما اشتد التذمر بعمر بن الخطاب من الصلح مع قريش, ومن شروطه, ومما رافقه من تنازلات لقريش وممثلها سهيل بن عمر, اندفع عمر يعبر عما في نفسه, قال: “فأتيت النبي — صلى الله عليه وسلم — , فقلت يا رسول, ألست نبي الله حقاً؟ قال بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله, وهو ناصري ولست أعصيه”.

فواضح تمام الوضوح أن النبي — صلى الله عليه وسلم — قد تصرف بصفته رسولاً, ينفذ أمر ربه, ولا يستطيع أن يعصيه, فلم يبق مجال لآراء الناس. ولهذا لم يُستشاروا في الأمر أصلًا.

والعجيب أن الدكتور حسن هويدي قد احتج في مناصرته لتفرد الأمير بالرأي، حتى بكتابة (باسمك اللهم) بدل (بسم الله الرحمن الرحيم), وبِكونِ الرسول أمرهم بالتحلل من إحرامهم فلم يفعلوا, وأنه أصر على ذلك حتى فعلوه.

فهل هذه الأمور أيضًا تدخلها الشورى والرأي؟! هذه شعائر وعبادات, ليس فيها شورى ولا رأي ولا أمير ولا أغلبية, وإنما الحكم فيها لله ولرسوله.

ولقد جاءت بعد ذلك سورة الفتح تؤكد أن ما جرى بالحديبية, كان إرادة الله ووحيه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أن أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا…} [الفتح: 24 – 25].

غزوة أحد

غزوة أحد من أشهر وأظهر ما يشهد للعمل بمبدأ الأغلبية، وقد تقدم هذا. ولكن بعض المعارضين أبوا إلا أن يتعلقوا ببعض ما وقع في هذه الغزوة, تأييداً لما يرونه من حق الأمير في مخالفة الأغلبية, ومخالفة الجميع.

تعلقوا بكون النبي — صلى الله عليه وسلم — لما عزم على الخروج استجابة لرأي أكثرية الصحابة, وخرج من بيته مستعداً للقتال خارج المدينة, أحس الصحابة أنهم قد أَكْرَهوا رسولَ الله على ما لا يحب, وهذا لا يليق, فندموا على ما فعلوا, وعرضوا على الرسول التخلي عن فكرة الخروج, فأبى ذلك ومضى. فاعتبر أصحابنا أنه — صلى الله عليه وسلم — في خروجه لم يلتفت إلى الصحابة في عدولهم عن الخروج.

وهذا مردود,

أولاً: لكون الشورى تمت وأعطت ثمرتها, ولم يبق إلا التنفيذ (فإذا عزمت, فتوكل على الله).

وثانيًا: لأن الصحابة لم يعدلوا عن رأيهم ولم يتغير عندهم ما رأوه صواباً وهو الخروج. وإنما آثروا إرضاء رسول الله تأدبًا معه وتقديمًا لحقه. فهذا هو الذي يلتفت إليه الرسول من جانبه, خاصة بعد أن تقرر الخروج ووقع العزم عليه.

وتمسك الدكتور هويدي بجانب آخر من هذه الغزوة — وهو الهزيمة التي أصابت المسلمين في آخرها– فقال: “إن كان المتعلقون بوقعة أُحد يرون فيها دليلاً على إلزامية الشورى[21], فإننا نرى فيها عكس ما يرون, حيث كانت مأساة من المآسي الدالة على خطر مخالفة القائد أو الإمام, حتى ندم الصحابة كلهم — رضي الله عنهم — على موقفهم وتمنوا لو أنهم وافقوا رسول الله — صلى الله عليه وسلم -, ولم يخرجوا من المدينة, فكانت عبرة وموعظة مدى الدهر. وهل ثمة عبرة وموعظة مدى الدهر، وهل ثمة عبرة لسوء مخالفة الإمام, كهذه العبرة؟ وموعظة تلفت الأنظار كهذه الموعظة؟ وبهذا كانت موعظة باقية للمسلمين حتى لا يخالفوا إمامهم في رأي يصر عليه ويرتضيه, متوهمين بإلزامية الشورى, أو متعللين برأي الأكثرية“[22].

وقد تضمن هذا الكلام جملة أغلاط لا أساس لها من الصحة, وهي:

1– يعزو سبب الهزيمة التي لحقت المسلمين إلى خروجهم, والحقيقة أن لا صلة للخروج من المدينة بالهزيمة التي لحقت بالمسلمين في آخر المعركة. ولم يقل بهذا التفسير للهزيمة لا القرآن, ولا الرسول, ولا أهل السير. بل الصحيح أن الخروج إلى أحد قد حقق غايته, وانتصر المسلمون. ثم انقلب الوضع, ودارت الدائرة على المسلمين, لسبب آخر لا تلازم بينه وبين الخروج. فقد ارتكب بعض المقاتلين خطًأ عسكريًا, وخالفوا خطة المعركة, فجاءت الهزيمة بعد النصر. وتفصيل ذلك — كما هو معروف في كتب الحديث والسير– أن الرسول نزل بأصحابه في الساحة المحاذية لجبل أحد, وجعل ظهورهم إلى الجبل, وحصن ظهورهم من جهة الجبل بخمسين من الرماة, وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير, وأمره وأصحابه أن يلزموا مكانهم, وألا يغادروه مهما يكن من أمر, حتى يأذن لهم بذلك. وأمرهم أن يرموا المشركين بالنبال من فوق الجبل. وأوصاهم خاصة ألا ينزلوا سواء رأوا المشركين تغلبوا على المسلمين أو رأوا عكس ذلك…“[23]

ودارت المعركة, وانتصر المسلمون على المشركين, وانهزم المشركون وفروا نحو نسائهم.

قال ابن إسحاق: “ثم أنزل الله نصره على المسلمين, وصدقهم وعده فحسوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر, وكانت الهزيمة لا شك فيها…“[24].

وروى بسنده إلى الزبير بن العوام أنه قال: “والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب, ما دون أخذهن قليل ولا كثير, إذ مال الرماة إلى العسكر, حين كشفنا القوم عنه, وخلوا ظهورنا للخيل فأُتينا من خلفنا, وصرخ صارخ: ألا أن محمدًا قد قُتل، فانكفأنا, وانكفأ علينا القوم…“[25].

فهذا هو سبب الهزيمة, فقد خالف الرماة التعليمات العسكرية لقائد المعركة — صلى الله عليه وسلم -، ظناً منهم أن المعركة قد حسمت وانتهت. وهذا الخطأ لا صلة له بالخروج. فقد كان يمكن أن يقع مثله في أي مكان آخر. ولا يخفى أن هذا المقام ليس مقام شورى ولا أكثرية. فهو عمل عسكري تنفيذي وفي حال اندلاع المعركة. والمخالفة التي وقعت, ليست رأياً, ولا اجتهاداً, ولا أغلبية ولا أقلية, بل هي خطأ محض, دفع إليه التسرع والغفلة, والطمع من البعض.

2– اعتبر الدكتور هويدي أن المسلمين حين قالوا بالخروج لملاقاة عدوهم, قد خالفوا إمامهم, فنالوا جزاء مخالفتهم. والحقيقة أنهم لم يخالفوا رسول الله في شيء. بل امتثلوا أمره لا غير. طلب منهم الرأي, فأطاعوه وأعطوه رأيهم وتحملوا مسؤوليتهم, وأدَّوْا أمانة الله في أعناقهم, بصدق وإخلاص. ثم لما خشوا أن يكون الرسول قد خرج وهو كاره, عرضوا تنازلهم عن رأيهم تأدبًا معه واحترامًا لمقامه, فهو رسول قبل أن يكون أميرًا. ولما تمسك بالخروج تبعوه وخرجوا معه. فأين المخالفة في هذا؟ فهل المقصود بالمخالفة, هو أنهم رأوا رأياً مخالفاً, وقدموه كما هو؟ وهل يبقى للشورى معنى إذا كان المستشار لا يسعه إلا موافقة المستشير وترضيته بالرأي الذي يجب؟ إن المستشار إذا لم يقل ما أراه الله تعالى, وما اقتنع هو بصوابه, وقال بخلافه, يكون قد خان الأمانة، وهذه هي المعصية حقاً.

3– وقول الدكتور هويدي: (وبهذا كانت موعظة باقية للمسلمين حتى لا يخالفوا إمامهم في رأي يصر عليه ويرتضيه…)، يفهم منه أن الرسول كان مصراً على رأيه بالبقاء بالمدينة, وهو ما لا دليل. كل ما في الأمر أنه قدم رأيه. فلما تقدم أكثر مستشاريه برأي مخالف, ترك رأيه إلى رأيهم, وليس عندنا ما يمكن اعتباره إصراراً منه — صلى الله عليه وسلم -. نعم هناك إصرار واضح, لكن في إمضاء ما رآه الصحابة من الخروج.

استشارات فردية:

ومما تمسك به خصوم الأغلبية, أن الرسول — صلى الله عليه وسلم — لم يستشر في بعض الأمور إلا فرداً أو فردين, وأحياناً استشار الجماعة, لكنه أخذ برأي فرد واحد.

ففي بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر وحده, وغير مكان النزول…

وفي أسرى بدر أخذ برأي أبي بكر, وهو أخذ الفدية من الأسري…

وفي الخندق أخذ برأي سلمان الفارسي وحده…

وفي الحديبية — قبل بروك الناقة — أخذ برأي أبي بكر…

وفي حادثة الإفك, لم يستشر في شأن عائشة إلا أفراداً معدودين منهم علي وأسامة…

قالوا: فهذه الحالات تثبت أن للأمير أن يستشير من شاء, ويأخذ من الآراء ما شاء، ويترك ما شاء, وأنه ليس مقيداً بالأغلبية, لا في استشارتها, ولا في الأخذ برأيها.

وليس في هذه الأمثلة ما يدل على إهدار استشارة الأغلبية وإهدار رأيها:

أما ما أشار به الحباب بن المنذر فيما يخص مكان النزول ببدر, فقد كان رأيًا من رجل خبير بالمنطقة, عارف بآبارها. فاستحسنه الرسول, واستحسنه المسلمون, ولم يقع فيه خلاف ولا معارضة، لأن صوابيته لا تحتمل شيئًا من هذا. فمضى المسلمون جميعًا على هذا الرأي مقتنعين مسرورين به.

ومثل هذا يقال في رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق, وكذلك رأي أبي بكر في الحديبية. أما رأيه بأخذ الفداء من المشركين, فقد بينت من قبل أنه كان رأي كل الصحابة تقريبًا.

وأما استشارته عليًا وأسامة في شأن عائشة, وهل يطلقها أو يبقيها– بعد أن راج حديث الإفك مدة, وقبل أن ينزل عليه القرآن في الموضوع– فموضوعها موضوع خاص, ولهذا استشار فيه خواصه والمقربين إليه. وقد كان علي وأسامة بمنزلة ولديه.

ولكل واحد في مسائله الشخصية والعائلية, أن يستشير من شاء ويعمل بما شاء. الشورى هنا مندوبة, فلا يمكن أن تكون ملزمة, لا في دائرة إجرائها, ولا في نتيجتها.

منزلة الرسول — صلى الله عليه وسلم — وخصوصياتها

مهما أخذنا بالاعتبار أن الرسول, كان يتصرف في كثير من الأمور بصفته إمامًا حاكمًا للمسلمين, وبصفته قائد جيشه, وقائد معاركهم العسكرية، مهما يكن من اعتبارنا لهذه الجوانب, فإن شخص رسول الله — صلى الله عليه وسلم -, لا يمكن تجريده من ثلاث صفات جليلة خاصة به, كانت تهيمن على تفكيره وتدبيره وأقواله وأفعاله.

1 . أنه رسول الله, يوحى إليه ابتداء, ويوحى إليه لاحقاً, فيأتيه الوحي بتأييد تصرفاته واجتهاداته أو بتعديلها وتصحيحها, وأنه أعلم الناس بأحكام الشرع ومقاصده, وليس لأحد بعده من هذا المقام شيء, لا لخليفة, ولا أمير, ولا قائد, ولا عالم.

روى ابن عبد البر بسنده, عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: ” أيها الناس: إن الرأي إنما كان من رسول الله — صلى الله عليه وسلم — مصيباً, لأن الله كان يريه. وإنما هو منا الظن والتكلف“[26].

2 ـ عصمته — صلى الله عليه وسلم -، وبهذه الصفة يكون تصرفه مأموناً من أي هوى ، أو غش أو تحيز، أو ظلم، أو طمع، أو انتقام لنفسه، لا قليل ولا كثير، ولا عابر ولا دائم. وهذا ما لن يكون لأحد بعده بهذه الصفة وبهذا الإطلاق. فلا ننتظر أن يصل أحد إلى العصمة والبراءة المطلقة في هذه الأمور، ولا في غيرها من الآفات والعوارض البشرية. وإلى هذا الفرق بين رسول الله — صلى الله عليه وسلم — ومن سواه من الأمراء والحكام أشار عمر بن عبد العزيز، حين منع الهدية له ولولاته، فقيل له: إن رسول الله كان يقبل الهدية، فقال — رضي الله عنه — : كانت له — صلى الله عليه وسلم — هدية ، وهي لنا رشوة.

3 ـ كونه أفضل الخلق، وأكملهم عقلًا، وأسدهم نظرًا، وأحكمهم تدبيرًا. وهذه المنزلة أيضًا لن تكون لأحد بعده، كما لم تكون لأحد قبله.

ومن هنا ندرك فداحة غلط أولئك الذين يذهبون في قياس الأمراء على رسول الله كل مذهب، وينتهون إلى أن يعطوا لأمرائهم ما كان لرسول الله — صلى الله عليه وسلم — من مكانة، ومن تعظيم، ومن تقديم، ومن تفويض، ومن حقوق، كأنهم لم يقرأوا سورة الحجرات وغيرها.

ففي ضوء الصفات الثلاث المذكورة ينبغي أن يُنظر إلى تصرفات الرسول وإلى أقواله، وإلى تدابيره السياسية والعسكرية.

وفي ضوء عدمها ينبغي أن ننظر إلى تصرفات الأمراء والقضاة والقادة. فليس ينزل على أحد وحي يتفرد به عن الناس، وليس أحد منهم معصومًا من المعصية وشيء من الإفراط أو التفريط، وليس لأحدهم عقل لا يوجد مثله ، أو علم لا يوجد مثله ، أو حكمة لا يوجد مثلها. ورضي الله عن إمام المسلمين بعد رسول الله، أبي بكر الصديق، حيث نبه على هذا بقوله: “فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم“[27] مع أن مكانته معلومة لا ينازع فيها عاقل.

فإذا ساغ لرسول الله أن يخالف جماعة المسلمين أو أكثريتهم، لما معه من وحي ونور، ولما هو متفرد به من كمال العقل ونفاذ البصيرة، فهل يلزم منه أن يكون ذلك ولابد للأمراء من بعده؟ وإذا كان الرسول ـ بصفاته الثلاث المذكورة ـ لم يثبت أنه أمضى أمرا من أمور الرأي، ضدًا على ما يراه أصحابه، أفيكون للأمراء من بعده، وهم على ما هم عليه من الآفات وصفات القصور، أن يخالفوا أهل الرأي والخبرة والفضل، جميعهم أو أكثريتهم، ويتفردوا بما بدا لهم ويحملوا الأمة عليه؟ إن هذا لهو البلاء المبين.

تصرفات الخلفاء الراشدين

يستدل أصحابنا على حق الأمير في التفرد بالقرار ومخالفة مستشاريه، ببعض التصرفات الصادرة عن الخلفاء الراشدين، وخصوصا أبا بكر وعمر.

يقولون: إن أبا بكر قرر قتال مانعي الزكاة ومضى فيه، ولم يعبأ بمعارضة الصحابة.

وكذلك فعل في إنفاذ جيش أسامة لمحاربة الروم.

وإن عمر تمسك برأيه في شأن الأراضي المفتوحة ولم يستجب لرأي مخالفيه…

قالوا: فهذه المواقف للخلفاء الراشدين، تدل على أن الخليفة غير ملزم برأي مستشاريه، وأن له أن يخالفهم جميعاً، فضلًا عن أكثريتهم. ولو كان ملزمًا برأيهم لما خالف أبو بكر وعمر سائر الصحابة في بعض مواقفهما.

فلننظر في هذه الدعاوى .

قتال مانعي من الزكاة

يلاحظ أن الروايات الواردة في هذه المسألة نوعان: روايات صحيحة واردة في كتب الحديث المعتمدة، وعلى مناهج المحدثين، وروايات أخرى واردة على طريقة المؤرخين…

أما روايات المحدثين، فليس سوى نقاش بين أبي بكر وعمر، انتهى إلى الاتفاق على قتال مانعي الزكاة، بعد أن اتضح الحكم الشرعي في المسألة.

فعن أبي هريرة — رضي الله عنه – قال: “لما توفي رسول الله — صلى الله عليه وسلم — واستُخْلِفَ أبو بكر بعده، كفر من كفر من العرب، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: ” كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله — صلى الله عليه وسلم — : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ومن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله؟ قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة، وإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالا ـ أو عناقا ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله — صلى الله عليه وسلم — لقاتلتهم على منعه. فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق“[28].

هذه هي الرواية التي جاءت في أهم كتب الحديث، ولم تختلف عندهم في شيء من مضمونها، وحتى الألفاظ ليس بينهم فيها إلا اختلاف طفيف جدًا.

ويؤخذ من الرواية:

1 ـ أن الخلاف جرى بين أبي بكر وعمر، لا بين أبي بكر وسائر الصحابة.

2 ـ أن الخلاف آل بسرعة إلى الاتفاق، فصار عمر إلى قول أبي بكر وانتهى الخلاف بالمرة.

3 ـ أن أبا بكر لم يكن يدافع عن رأي سياسي أو عن تدبير عسكري رآه ناجعًا في ذلك الموقف العصيب، وإنما كان يدافع عما هو مقرر في الشرع، ويستدل عليه بأدلة الشرع. قال الخطابي: “فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنهما، وبانَ له صوابه، تابعه على قتال القوم. وهو معنى قوله: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق، يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصًا ودلالًة“[29].

فالمسألة عبارة عن حوار علمي، انتهى إلى أن من لم يكن بلغه دليل المسألة، أو غفل عنه في تلك اللحظة الحرجة، عرف الدليل، واطمأن إلى حجة محاوره، فمضى معه، ولم يكن يملك إلا ذاك، فالمسألة ليس فيها رأي واجتهاد، وإنما هو الحكم الشرعي الثابت.

هذا ما تتضمنه كتب الحديث في هذه المسألة وهذا ما تدل عليه.

أما الروايات الأخرى فوردت ـ كما ذكرت ـ على طريقة المؤرخين، بمعنى أنها إما تذكر بغير سند، أو ترد بأسانيد لا ترقى إلى درجة الصحة والقبول. فهذه الروايات هي التي تذكر أن الخلاف كان بين أبي بكر من جهة، وعمر وغيره من جهة أخرى. فعند ابن العربي ـ في العواصم ـ : “وقال له عمر وغيره: إذا منعتك العرب الزكاة فاصبر عليهم، فقال: والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله — صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم عليه ـ قيل: ومع من تقاتلهم؟ فقال: وحدي حتى تنفرد سالفتي“[30].

وقال في (العارضة): “لما كفرت العرب وارتدت ومنعت الزكاة، رأى عمر وغيره من الصحابة أن يكف عنهم حتى يتمكن الإسلام…“[31].

وفي (البداية) لابن كثير: “وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه مع منع الزكاة، حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم، ثم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه“[32].

وتعليقي على هذه الروايات يتضمن أربع ملاحظات:

1 ـ ما مدى صحة هذه الروايات، وهي تذكر مرسلة، أو قد تذكر بأسانيد تحتاج إلى تمحيص، للحكم عليها على مناهج المحدثين. وقبل أن يحكم أهل الاختصاص بصحتها، كما تصحح الأحاديث النبوية، فلا يصح ـ بل لا يجوز ـ أن نبني عليها شرعنا وأسس حكمنا ودولتنا.

2 ـ هذه الروايات تصطدم بالرواية الصحيحة المعتمدة عند علماء الحديث وليس في هذه الرواية سوى حوار بين أبي بكر وعمر…

3 ـ هذه الروايات مجملة، بمعنى أنها حين تذكر اختلاف أبي بكر مع الصحابة لا تذكر من هم المخالفون لأبي بكر، وكم كان عددهم ونسبتهم.

4 ـ أبو بكر — رضي الله عنه — ـ على ما تقدم ـ لم يتمسك برأي له، أصر على أن يعارض به جمهور الصحابة، وأن يفرضه عليهم، وإنما كان يتمسك بالنص، ومعلوم أنه لا اجتهاد ولا شورى، ولا أغلبية، في مورد النص، وإنما هو بيان للدليل ولدلالته، وينتهي الأمر. وكذلك كان.

إنفاذ جيش أسامة

قال القاضي ابن العربي: “وقال أبو بكر لأسامة: اُنفٌذ لأمر رسول الله — صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش، والعرب قد اضطربت عليك؟! فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيشا أنفذه رسول الله — صلى الله عليه وسلم — “[33].

وعند ابن كثير عن أبي هريرة، قال: “فاجتمع إليه أصحاب رسول الله — صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا أبا بكر، رُدَّ هؤلاء. تُوجهُ هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟! فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله — صلى الله عليه وسلم -، ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله، فوجه أسامة“[34].

وفي هذه النازلة أيضا نجد أبا بكر لا يدافع عن رأي رآه، وإنما يتمسك بذلك المسلك الرفيع الذي تفرد به غير ما مرة، وبزَّ به الصحابة أجمعين في غير ما مناسبة، وهو المسلك الذي نال به درجة “الصديق”: فقد اهتز الناس لحديث الإسراء، وبقي هو مصدقًا مطمئنًا. وتذمر الناس وزُلزلوا يوم الحديبية، وفاز هو بالرضى والتأييد لرسول الله — صلى الله عليه وسلم -. وارتج الناس يوم وفاة رسول الله، وبقى هو ثابتاً كالجبل يردهم إلى رشدهم.

وكان الصحابة يعرفون له هذه المزية ويقدرونها قدرها، فكانوا إذا رأوا عزمه وتصميمه عرفوا أن ذلك حق. وبعد وفاته — رضي الله عنه — بسنوات، خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في الناس، وكان مما قاله لهم: “وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر“[35] وهي عبارة تقال للفرس الجواد الذي لا يلحقه أحد.

وفي اللسان: أراد أن السابق منكم، الذي لا يلحق شأوه في الفضل أحد، ولا يكون مِثلًا لأبي بكر.

فأبو بكر ـ على العموم ـ ليس له نِدٌّ ولا مثيل في هذه الأمة، ولكن تفوقه في إيمانه وشدة تمسكه بأحكام الشرع، كان يظهر أكثر ما يظهر، في الظروف العصيبة والفتن المزلزلة، فلم يكن هو يتزلزل، ولم يكن يتحير، ولم يكن يذهل عن حكم شرعي ولا عن سنة نبوية.

فمن هذه المنزلة الفريدة تصرف أبو بكر، من يوم وفاة رسول الله، إلى أن استتبت الأمور. فلم يذهل عن الواجب في قتال المرتدين ومانعي الزكاة المتمردين. ولم يذهل عن وصية رسول الله بإنفاذ جيش أسامة، وهو — صلى الله عليه وسلم — في لحظات حياته الأخيرة. قال الإمام الشاطبي: “ولما منعت العرب الزكاة عزم أبو بكر قتالهم، فكلمه عمر في ذلك، فلم يلتفت إلى وجه المصلحة في ترك القتال إذْ وجد النص الشرعي المقتضي لخلافه. وسألوه في رد أسامة ليستعين به وبمن معه في قتال أهل الردة فأبى، لصحة الدليل عنده بمنع رد ما أنفذه رسول الله — صلى الله عليه وسلم — “[36].

على أن إنفاذ أبي بكر لجيش أسامة، لم يكن فقط، إنفاذا لجيش كان رسول الله قد أمر بإنفاذه، بل هو جيش كان رسول الله مصراً كل الإصرار على إنفاذه، وقد علم — صلى الله عليه وسلم — ما حصل من تردد وتلكأ في انطلاق ذلك الجيش، فألح عليه الصلاة والسلام ـ وهو في حال احتضار ـ على أن ينطلق الجيش إلى غايته، ولم يقبل عذرهم في التردد والتباطؤ.

روى ابن سعد بسنده، عن عروة بن الزبير قال: ” كان رسول الله — صلى الله عليه وسلم — قد بعث أسامة وأمره أن يوطئ الخيل نحو البلقاء، حيث قُتل أبوه وجعفر[37]، فجعل أسامة وأصحابه يتجهزون، وقد عسكر بالجرف، فاشتكى رسول الله — صلى الله عليه وسلم -، وهو على ذلك. ثم وجد من نفسه راحة فخرج عاصبًا رأسه فقال: أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، ثلاث مرات. ثم دخل النبي — صلى الله عليه وسلم -، فاستعز به، فتوفي رسول — صلى الله عليه وسلم — …“[38].

وقال الحافظ ابن حجر: “ثم اشتد برسول الله — صلى الله عليه وسلم — وجعه فقال: “أنفذوا بعث أسامة“[39].

وإذا كان بعض الصحابة قد ارتبكوا وتخوفوا، وذهلوا عن دلالة الإلحاح النبوي على إنفاذ جيش أسامة، فإن أبا بكر لم يقع في شيء من هذا، وظل متىقظًا، رابط الجأش، سليم العزم. فعمل على تنفيذ آخر وصية نبوية, وهي وصية اتسمت بالتأكيد والإلحاح كما رأينا. وحكمة ذلك، كما ظهر فيما بعد، هي أن تقترن وفاة رسول — صلى الله عليه وسلم -، بمظاهر القوة والثبات والعزم والإقدام، بدل أن تقترن بما يُطمع الأعداء من مظاهر الضعف والارتباك والتخاذل.

المهم أن التقابل في هذه المسألة، لم يكن بين رأي أبي بكر، ورأي غيره من الصحابة، بل كان التقابل بين الوصية النبوية الملحاحة، ورأيٍ أمْلته الظروف الحرجة على بعض الصحابة، فلما تولى أبو بكر بيان الأمر، ووضعه في نصابه، استجاب له الجميع ومضوا فيه.

مسألة الأراضي المفتوحة

واستدلوا أيضا بموقف عمر — رضي الله عنه -، حين رفض قسمة الأراضي المفتوحة عنوة على المقاتلين، رغم أنهم طالبوا بذلك وجادلوه في الأمر.

فقد روى أبو عبيد بسنده، أن بلالًا — رضي الله عنه — قال لعمر بن الخطاب، في القرى التي افتتحها عنوة: اقسمها بيننا، وخذ خمسها. فقال عمر: لا، هذا عين المال، ولكني أحبسه فيما يجري عليهم وعلى المسلمين…“[40].

ولما لم يصل عمر مع المقاتلين وممثليهم إلى نتيجة متفق عليها، عرض الأمر للشورى، فاستشار أولًا كبار المهاجرين، فأيده أكثرهم، وأيد عبدُ الرحمن بن عوف مطلب الفاتحين. ثم عرض الأمر على كبار الصحابة من الأنصار فوافقوه جميعاً.

قال أبو يوسف: “فأما عبد الرحمن بن عوف — رضي الله عنه — فكان رأيه أن يقسم لهم حقوقهم. ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رضي الله عنهم رأي عمر. فأرسل ـ أي عمر ـ إلى عشرة من الأنصار، خمسة من الأوس، وخمسة من الخزرج، من كبرائهم وأشرافهم. فلما اجتمعوا، حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي، فيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم. وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني. ولست أريد أن تتبعوا هذا الذي هَوَاي. معكم من الله كتاب ينطق بالحق. فوالله لئن كنت نطقت بأمر أريده، ما أريد به إلا الحق. قالوا: قل نسمع يا أمير المؤمنين.

قال: قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا إني أظلمهم حقوقهم، وإني أعوذ بالله أن أركب ظلماً، لئن ظلمتهم شيئًا هو لهم، وأعطيته غيرهم، لقد شقيت. ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى، قد غنَّمَنا الله أموالهم وأرضهم، وعلوجهم. فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله، وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه، وأنا في توجيهه. وقد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها، وأضع عليهم فيها الخراج، وفي رقابهم الجزية، يؤدونها فتكون فيئًا للمسلمين: المقاتلة، والذرية، ولمن يأتي بعدهم.

أرأيتم هذه الثغور، لابد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام، والجزيرة، والكوفة، والبصرة، ومصر، لابد لها من أن تشحن بالجيوش، وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطَى هؤلاء إذا قُسمَتِ الأرَضُون والعلوج؟

قالوا: الرأي رأيك، فنِعْمَ ما قلت، ونعم ما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور، وهذه المدن برجال، وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم“[41].

وواضح بما لا مزيد عليه أن عمر — رضي الله عنه — لم يستبد برأيه، بل كان مع رأيه الجمهورُ الأعظم من أهل العلم والرأي من الصحابة.

وقد يقال إنه تمسك برأيه من قبل أن يستشير ويلقى التأييد. وأقول: لو أراد أن يتمسك برأيه وأن ينفذه بمفرده، لما عرض الأمر للشورى.

بل هناك ما يدل على أن عمر كان قد أراد ـ في البداية ـ أن يقسم الأراضي، وأن بعض مستشاريه من الصحابة هم الذين عارضوه، وأشاروا عليه بإبقائها بيد أصحابها. فقد روى أبو عبيدة بسنده، عن حارثة بن مضرب، عن عمر: أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين… فشاور في ذلك، فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين، فتركهم…

وروى أيضًا: قدم عمر الجابية، فأراد قسم الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها، صار الربع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي مِن بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدًا، وهم لا يجدون شيئًا، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم.. فصار عمر إلى قول معاذ“[42]

قال أبو عبيد: “… وذلك أنه جعله[43] فيئا موقوفًا على المسلمين ما تناسلوا، ولم يخمسه، ولم يقسمه. وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب — رضي الله عنه -، ومعاذ بن جبل” — رضي الله عنه — [44].

—————————————

هوامش:

[1] الشورى في الإسلام 26 – 27.

[2] نظرية الإسلام وهديه: 58 – 59.

[3] سبق أن دار نقاش مطول حول مسألة الأغلبية , علي صفحات مجلة ( الأمة ) القطرية , بدأه الدكتور عبد الحميد الأنصاري , بمقال بعنوان ( هل مبدأ الأغلبية مبدأ إسلامي أصيل ؟ ) (العدد –3 يناير1) فأيد مبدأ الأغلبية ثم رد عليه الأستاذ إسماعيل الكيلاني معارضًا ومنكرًا ( العدد 5 — مارس 81 ) فرد عليه الأستاذ عبد القادر العماري(العدد 7 — مايو 81) .

[4] مجلة الأمة، العدد الخامس ص 29

[5] محمد بن عرفة الورغمي التونسي , إمام المالكية في وقته,وصفه معاصره ابن فرحون بشيخ الشيوخ وبقية أهل الرسوخ, كان رائدا في العلوم العقلية والنقلية . وقال ابن فرحون: وله تآليف منها تقييده الكبير في المذهب , في نحو عشرة أسفار , جمع فيها ما لم يجتمع في غيره .وقد عده بعض العلماء, مجدد المائة الثامنة, ولد سنة 716 وتوفي سنة 803 ( الديباج 337 — 340 ) و (نيل الابتهاج 274 — 279 )

[6] هو محمد بن عبد السلام، قاضي الجماعة بتونس ، وأحد شيوخ ابن عرفة توفي سنة 749، (انظر الديباج 236 – 237)

[7] هو جمال الدين، محمد بن محمد، المعروف بابن المنير الإسكندري (انظر نيل الابتهاج 403).

[8] التحرير والتنوير : 7⁄64.

[9] ـ رواه الترمذي عن عمر , وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ( العارضة 9⁄10 ) ورواه الإمام أحمد عن عمر أيضاً , وفيه لفظ ( بحبحة ) بدل ( بحبوحة ) , الحديث 114 . ورواه الإمام الشافعي بلفظ (… ألا فمن سره بحبحة الجنة , فليلزم الجماعة, فإن الشيطان مع الفذ, وهو من الاثنين أبعد…) ( الرسالة 474 ) , وقال الشيخ أحمد شاكر عن هذا الحديث ( إسناده صحيح) انظر هامش المسند للإمام أحمد : 1⁄204 .

[10] ـ المقصود بالراكب: المسافر.

[11] رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

[12] رواه أبو داود.

[13] الحديث رواه البخاري، ومسلم ، وأبو داود، والترمذي، وعبد الرزاق.

[14] جامع البيان: 4⁄101.

[15] يقصد أبا جندل، وقد تقدمت التفاصيل في الفصل السابق، وهي موجودة في عامة كتب السيرة والحديث والتفسير.

[16] الشورى في الإسلام 10 – 11.

[17] نقض النظام الديمقراطي 134.

[18] زاد المعاد 3⁄289.

[19] حرنت وامتنعت عن السير.

[20] زاد المعاد 3⁄289.

[21] يقصد بإلزامية الشورى لزوم رأي الأغلبية للأمير.

[22] الشورى في الإسلام: 13.

[23] ـ زاد المعاد : 3⁄194.

[24] سيرة ابن هشام 3⁄857.

[25] نفسه.

[26] جامع بيان العلم وفضله : 163.

[27] كلمة قالها في أول خطبته لما ولي الخلافة ، انظر تمام خطبته في (كتاب الأموال لأبي عبيد 1⁄12)

[28] رواه البخاري في باب وجوب الزكاة ن وفي أبواب أخرى من صحيحه ، ورواه مسلم في أبواب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله . ورواه الترمذي في أبواب الإيمان ، باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ورواه النسائي في كتاب الزكاة ، باب مانع الزكاة . ورواه الإمام أحمد في مسند عمر ( الحديث 239) ورواه ابن حبان في صحيحه ، تحت عنوان : ذكر أمر الله جل وعلا صفيه — صلى الله عليه وسلم — بقتال الناس حتى يؤمنوا بالله . ثم تحت عنوان : ذكر البيان بأن الخيَّر الفاضل من أهل العلم ، قد يخفي عليه من العلم بعض ما يدركه من هو فوقه فيه .

[29] عن شرح النووي لصحيح مسلم 1⁄203.

[30] العواصم من القواصم: 46 – 47.

[31] عارضة الأحوذي: 10⁄72.

[32] البداية والنهاية 6⁄311.

[33] العواصم من القواصم 45.

[34] البداية والنهاية 6⁄305.

[35] من خطبة طويلة له ، انظرها في صحيح البخاري ، كتاب الحدود ، وفي المسند رقم 391.

[36] الموافقات: 4⁄329 – 330.ـ

[37] كان ذلك في غزوة مؤتة.

[38] الطبقات الكبرى 2÷248−249.

[39] فتح الباري : 8⁄152.,

[40] الأموال: 58.

[41] الخراج 28 – 29.

[42] الأموال: 59.

[43] الضمير يعود على السواد.

[44] الأموال: 60.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى