كتاباتكتابات المنتدى

جواهر التدبر (٢٥٩) .. المسافة بين وحدة الدين وتفرق المتدينين

جواهر التدبر (٢٥٩)

المسافة بين وحدة الدين وتفرق المتدينين

 

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

 

من يقارن بين مقاصد الإسلام العظيمة وأوضاع المسلمين المتخلفة؛ يصاب بالدهشة من البون الشاسع بينهما في كل الجوانب؛ نتيجة ما طرأ على أفهام المسلمين وسلوكياتهم من تغيرات مخيفة، ابتعدت بأوضاع التدين النسبي عن قيومية الدين المطلق، وبدلا من البقاء على المحجة البيضاء زغنا نحو مسالك بكل الألوان وصولا إلى المسلك الحالك السواد!
وقد أورد لنا القرآن نموذجا متصلا بقيمة حضارية عظيمة وهي الوحدة، حيث يتجسد فيها البون الشاسع بين الوحدة التي يدعو لها الدين وبين التفرق الذي يصنعه التدين المغشوش أو المنقوص، فقال عز من قائل: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون. فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون} [المؤمنون: ٥٢، ٥٣]. فإن القرآن يعظم الوحدة المشار إليها ب{أمتكم أمة واحدة}، ويجعلها من القيم الأساسية التي تضاهي وحدانية الله، بل إنه يقدمها في الذكر على الوحدانية المشار إليها في قوله تعالى: {وأنا ربكم فاتقون}، لكن المسلمين الذين أصابتهم علل التدين، قاموا بتقطيع الإسلام الواحد {أمرهم} كتقطيع الحداد للحديد إلى زبر متفرقة، ويصبح كل فريق كأنه زبرة تهوي على رؤوس الناس الذين لم يسلكوا مسلكه، والزبرة هي مطرقة الحديد الضخمة، كما قال ذو القرنين: {آتوني زبر الحديد ..}، أو كتقطيع الكتاب الواحد إلى كتب متعددة ويصبح كل جزء منها زبورا منفصلا عن الآخر مثل زبور داوود!
وهذا يعني أن كل فريق يأخذ القطعة التي يراها مناسبة لأهوائه، ويطير فرحاً بها، ومن معاني الفرح بها اعتقاده أن الحق كله في ما أخذه وأن الحقيقة المطلقة أصبحت ملك يمينه وحده، بينما يرى أن الآخرين في ضلال مبين، وهذا يعمق حالة التفرق والتمزق التي تعاني منها الأمة!
وقد أورد القرآن نموذجا لشخص فقه دينه فجعله التزاحم بين الوحدة والوحدانية في ظرف ما يقدم الوحدة، وهو نبي الله هارون الذي أبقاه أخوه موسى عليهما السلام مع قومه نيابة عنه، حينما ذهب لميقات الله في جبل الطور، وفي هذه الأثناء قام السامري بإغواء بني إسرائيل وأقنعهم بعبادة العجل الذي صنعه لهم من الذهب المأخوذ من المصريين، ورغم محاولات هارون لردعهم إلا أن خوار العجل فتنهم وخاصة أنهم كانوا حديثي عهد بوثنية المصريين التي تأثروا بها كثيرا حتى سكنت العقل الباطن لكثيرين منهم، وكان هارون إزاء هذا الانحراف بين خيارين: أن ينتصر لوحدانية الله ويقوم بثورة ضد السامري فينقسم اليهود إلى قسمين، أو أن يبقى مع الجماعة الواحدة حتى يعود موسى، وهذا ما فعله، وحينما عاد موسى غضبان أسفا وعاتب أخاه بشيء من العنف لأنه بقى معهم ولم يفارقهم، قال له هارون: {إني خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي} [طه: ٩٤]، وتشير جملة ولم ترقب قولي إلى أن موسى أوصاه بالمحافظة على وحدة الجماعة مهما كانت الظروف؛ ولذا فقد اقتنع بتبرير هارون وقام باحتضانه والدعاء له معه!
وللأهمية البالغة للوحدة ولدور الدين في التوحد، فقد أخبرنا القرآن أن مضمون رسالات الأنبياء الخمسة المعروفين ب(أولي العزم من الرسل) هي ما ورد في قوله تعالى: {أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: ١٣]، وأشار في ذات الآية إلى صعوبة التوحد بالنسبة للمشركين، فقال: {كبر على المشركين ما تدعوهم إليه}؛ وكأنه يشير إلى أن اختلاف مصادر التلقي وتعدد الطواغيت الذين يجعلونهم أندادا لله تجعل وحدة المشركين شبه مستحيلة، ولذلك فقد حذر المسلمين من أن اختلافهم في الدين، وهو الثوابت والقطعيات والكليات والأصول الواردة في الوحي، سينقلهم من التوحيد إلى الشرك، قال تعالى: {ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا..}[الروم: ٣٢]، والشيع هم الذين جعلوا القرآن عضين فأخذوا بعضه وتركوا بعضه، فكأن كل طرف قد تشيع لنوع من النصوص في القضايا التي تحمل وجهين، مثلما يتشيع الناس للزعماء والقادة!
وقد حذر الله المسلمين بصورة قطعية من التفرق في الدين، ولكن من خلال مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله تعالى: {إن الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}[الأنعام: ١٥٩]، وهذا أمر غير مباشر للنبي عليه السلام بالبراءة منهم؛ لأنهم ابتعدوا عن مضمون رسالته الشاملة وعن منهجه في التعامل مع هذه الرسالة والتي لا تضمن للمسلمين وحدة أمتهم وائتلافهم، ولا أمنهم واستقرارهم ولا قوتهم وعزتهم ولا تقدمهم ورفاهيتهم، إلا أن تم أخذها جملة واحدة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، الذين لم يفرقوا بين العقيدة والشريعة، ولا بين الأخلاق الظاهرية والمشاعر الباطنية، وكانوا حريصين على وحدة الأمة مثل حرصهم على وحدانية الإله!
ومن ثم فإن المسافة بيننا وبين العروج الحضاري ستظل شاسعة، ما لم نردم الهوة التي تفصلنا عن القيم الحضارية التي أقامت خير أمة أخرجت للناس وفي مقدمتها الوحدة والحرية!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى