كتابات

جهاد اللسان والبيان أو (الجهاد الدعوي والإعلامي)

بقلم الشيخ د. يوسف القرضاوي

جهاد السان وما يتفرع عنه: ومن أنواع الجهاد المفروض على المسلم ومراتبه: الجهاد باللسان، وذلك بالدعوة إلى الإسلام وبيان محاسنه، وإبلاغ رسالته، بلسان الأمم المدعوَّة ليبيِّن لهم، وإقامة الحُجَّة على المخالفين بالمنطق العلمي الرصين، والردُّ على أباطيل خصومه، ودفع الشبهات التي يثيرونها ضدَّه، كل إنسان بما يقدر عليه.

ذلك أن الله تعالى امتنَّ على الإنسان بتعليمه البيان: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4]. والبيان منه النُطقي، كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9،8]، ومنه البيان الخطِّي. ولهذا يدخل في جهاد اللسان: جهاد القلم أيضا، فالقلم أحد اللسانين، كما قال العرب. وقد أقسم الله تعالى بالقلم في كتابه بقوله: {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]. وقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4،3]. وقلم عصرنا هو: المطبعة وما تفرَّع عنها، من هذا الحاسوب (الكمبيوتر)، وكل ما يصنع الكلمة المكتوبة، مثل شبكة الإنترنت. وقد قال تعالى في سورة الفرقان خطابا لرسوله: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، جاهدهم به: أي بالقرآن، فاعتبر الجهاد بالبيان والقرآن جهادا، بل جهادا كبيرا. وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم” [1].

  • الشعر سلاح في المعركة مع المشركين: وعن كعب بن مالك – وكان من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم – أنه قال: يا رسول الله! ما ترى في الشعر؟ قال: “إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل”[2] . أي كأنكم بشعركم ترمونهم بالنبل. وعن البَرَاء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسَّان: “اهجُهُمْ – أو هاجهم – وجبريل معك”[3] . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “أجِب عني، اللهم أيِّده برُوح القُدُس”[4] . وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يضع لحسان المنبر في المسجد، فيقوم عليه قائما، يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: “إن رُوح القُدُس مع حسَّان، ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”[5] . ولقد استثنى القرآن من الشعراء المذمومين: فئة منهم وصفهم الله بأربع صفات جعلتهم من أهل الخير والصلاح. وذلك في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:224-227].
  • الحرب الإعلامية: لقد كان الشعر سلاحا في المعركة مع المشركين، الذين لم يألوا جهدا في توظيف كل طاقاتهم لحرب دعوة الإسلام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أبصر منهم وأهدى وأقدر في توظيف هذه القوى والقدرات بما يخدم أهداف الدعوة، ويحقِّق النصر على الأعداء. وكان هذا كلُّه جزءا مما يسمُّونه الآن: (الحرب الإعلامية)، وهي حرب سلاحها الكلمة، مقروءة أو مسموعة أو مشاهدة، وهو سلاح له خطره وتأثيره النفسي على العدو، سواء على الجيش المقاتِل أم على الجبهة الداخلية. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسب حساب الحملات الإعلامية التي يثيرها المشركون، لتشويه صورة الدعوة وصاحبها. ولهذا حين اقترح عليه بعض الصحابة أن يستريح من المنافقين الأشرار، أمثال عبد الله بن أُبَيٍّ ومَن يشابهه بقتلهم، قال: “أخشى أن يتحدث الناس: أن محمدا يقتل أصحابه” [6].

ومعنى هذا: أنه خشي من آثار الحملة الإعلامية المضادَّة والمضلِّلة، التي تنتهز أي حدث للتشكيك والتشويش. وهذا يدلنا على مدى خطورة الإعلام وتأثيره.

  • من صور الجهاد باللسان والبيان في عصرنا: والجهاد باللسان والبيان في عصرنا يتخذ صُورا عدة. منها: البيان الشفهي بالخطب والدروس والمحاضرات، التي تخاطب الناس بألسنتهم لتبيِّن لهم، وتخاطبهم على قدر عقولهم. ومنها: البيان التحريري، المكتوب باللغات المختلفة لتبليغ رسالة الإسلام إليهم، عن طريق الكتب والرسائل والنشرات والبحوث والمقالات، التي تخاطب الناس على مستويات شتَّى، كل بما يليق به. وهذا البيان بنوعيه الشفهي والتحريري، يحقق معنى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، التي أمر الله تعالى بها في كتابه، إذ قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].

وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم رسائل مكتوبة إلى كسرى وقيصر وغيرهما من القادة، بل القرآن نفسه رسالة مكتوبة من الله عز وجل إلى خَلقه، ولذا سُمِّي (كتابا)، لأنه يكتب، كما سُمِّي (قرآنا)، لأنه يقرأ. ومنها: البيان عن طريق الحوار، وهو المأمور به في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46]. ويشمل هذا ما يُسمَّى اليوم (حوار الأديان) أو (حوار الحضارات)، وهو جزء من الجدال بالتي هي أحسن، الذي أُمرنا به. ومن المسلمين لا يؤمن بفكرة حتمية صراع الحضارات، الذي دعا إليها داعون من الأمريكان، بل أن الحضارات يمكن أن تتعايش، وتتفاعل وتتلائم ويغذي بعضها بعضا، ويأخذ بعضها من بعض، وينصح بعضها لبعض. ويدخل في هذا أو يقترب منه: البيان الإعلامي، المتمثِّل في الأعمال الدرامية عن طريق القصة والمسرحية والتمثيلية و(الفيلم) والمسلسل، الذي يقدَّم في الإذاعة أو في التلفاز، أو في (السينما) أو في المسرح، ويكون له تأثير هائل في السامعين والمشاهدين، على أن تكون هذه الأعمال في إطار الشرع وضوابطه.

وقد أصبح الإعلام في عصرنا من أنجع الوسائل – إن لم يكن أنجعها – في تبليغ الدعوة، عن طريق (الإذاعات الموجَّهة) بلغات مختلفة. وعن طريق (القنوات الفضائية) التي باتت تعدُّ من أعظم آليات الغزو الفكري والدعوة في عصرنا. ومن رأى أثر برنامج (الشريعة والحياة) الذي يبثُّ من (قناة الجزيرة) في قطر، والذي أكرمني الله بتقديمه للمشاهدين منذ نشأة الجزيرة (ما لم أكن غائبا)، وكيف يترقَّبه الملايين في كلِّ مكان ممَّن يعرفون العربية، حتى من غير المسلمين: عرَف قيمة الإعلام الفضائي وما يمكن أن يؤدِّيه من دَور [7]. ومن الوسائل المهمة في (الجهاد البياني) أو (الجهاد الدعوي) و(التعليمي) في عصرنا: شبكة المعلومات العالمية المعروفة بـ(الإنترنت)، والتي يتَّسع نطاقها يوما بعد يوم، ويُقبل الناس على الاستفادة والتعلُّم منها من شرق وغرب بعشرات الملايين ومئات الملايين [8].

وأعتقد أن هذا الجهاد هو الجهاد الأهم والأخطر في عصرنا، وهو الذي يحتاج إلى تجنيد الجنود، وتعبئة الجهود، وإزالة السدود، ليقوم بدوره المنشود، في هذا العصر. ولا يجوز للمسلمين أن يضنُّوا عليه بنفس ولا مال، فإن الله تعالى سائلهم عن ضلال أمم الأرض: لماذا لم يبلغوهم رسالة الله، ودعوة الإسلام ولقد قلتُ في افتتاح موقع (إسلام أون لاين. نت) في أكتوبر 1999م في قطر: إن هذا هو جهاد العصر المطلوب منا.

فلم نعُد في حاجة إلى تجييش الجيوش، لإزاحة السلطات الظالمة، حتى نتيح للشعوب أن تسمع كلمة الإسلام، بل فتحت لنا هذه الوسائل الطريق، لنصل مباشرة إلى هذه الشعوب. أهمية إعداد المؤسسات الإعلامية وتهيئة الطاقات البشرية: ولا بد من إعداد مؤسسات إعلامية وتربوية وثقافية وتقنية لهذا الهدف النبيل، تكون على مستوى الهدف، ومستوى الأمة، ومستوى العالم، ومستوى العصر.

ولا بد من تهيئة الطاقات البشرية (الكوادر) المتخصصة والمدربة، والمؤمنة بهذه الرسالة العالمية الثابتة، والقادرة على تبليغها إلى شعوب العالم بلغاته المختلفة. وهو أمر لو تعلمون عظيم. وهذا من (الفروض الكفائية) على الأمة، والتي تجب عليها بالتضامن، ويجب على (أولي الأمر) خاصة (من أهل العلم وأهل الحكم): أن يتعاونوا في تهيئة الأسباب، لإقامة هذه الفروض، فإن قام بها عدد كافٍ يلبِّي الحاجة، سلِمت الأمة من الإثم والحرج؛ وإلا أثمت الأمة كلها، حتى تراجع نفسها، وتستكمل نواقصها. ولا بد من توفير التمويل اللازم لهذا العمل، وهو من (الجهاد بالمال) المفروض على الأمة، ويمكن أن يموَّل من الزكاة الواجبة، من مصرف (في سبيل الله)، ومن الصدقات المندوبة، ومن وصايا الموتى، ومن عوائد الأوقاف، ومن كل مال فيه شبهة أو كسب خبيث، فهو حرام على صاحبه، حلال لهذه المشروعات.

هوامش:-

[1] – رواه أحمد عن أنس، وقد سبق تخريجه.

[2] رواه أحمد في المسند (15785)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وسماع عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب من جده كعب بن مالك، مختلف فيه، والصحيح سماعه منه، وابن حبان في السير (11/5)، والطبراني في الكبير (19/75)، والبيهقي في الكبرى كتاب الشهادات (10/239)، عن كعب بن مالك، وصحَّح الألباني سنده في الصحيحة (1631).

[3] متفق عليه: رواه البخاري في بدء الخلق (3213)، ومسلم في فضائل الصحابة (2486)، كما رواه أحمد في المسند (18650)، عن البراء بن عازب.

[4] متفق عليه: رواه البخاري في بدء الخلق (3212)، ومسلم في فضائل الصحابة (2485)، كما رواه أحمد في المسند (21936)، والنسائي في المساجد (716)، عن حسان بن ثابت.

[5] رواه أبو داود (5015)، والترمذي (2846)، وقال: حديث حسن صحيح، كلاهما في الأدب، وأبو يعلى في المسند (8/67)، عن عائشة، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة (1657).

[6] متفق عليه: رواه البخاري في التفسير (4905)، ومسلم في البر والصلة (2584)، كما رواه الترمذي في تفسير القرآن (3315)، وأحمد في المسند (15223)، عن جابر بن عبد الله.

[7] أثبتت الإحصاءات – بالأرقام – التي قامت بها بعض الجهات: أن هذا البرنامج هو أكثر البرامج مشاهدة في قناة الجزيرة، وهو ما أعلمني به المسؤولون في الجزيرة.

[8] وعلى ضوء ذلك، أسسنا موقعنا الإسلامي العالمي على الإنترنت، وهو (إسلام أون لاين. نت) ليؤدِّي رسالته في تعليم المسلمين الإسلام الصحيح، وتبليغ غير المسلمين ذلك، بأسلوب عصري سليم وسريع ومشوِّق، وقد أمسى مِلء الأسماع والأبصار في العالم كله، ويدخله الملايين باللغة العربية واللغة الإنكليزية.

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى