كتاباتكتابات مختارة

جدلية الحاكم والمحكوم .. أيهما أفسد الآخر؟!

جدلية الحاكم والمحكوم .. أيهما أفسد الآخر؟!

بقلم خليل المقداد

كثيراً ما أثيرت جدلية الحاكم والمحكوم وذلك لجهة المسؤولية عن أسباب الفساد والصلاح، فبين قائل: “إن فساد الرعية من فساد حاكمها وصلاحها من صلاحه”، وبين قائل بعكس ذلك ومحاجج بأن الحاكم أولاً وأخيراً ابن البيئة، وأنه ليس سوى انعكاس لطبيعتها وبالتالي فإن الشعوب هي من يتحمل وزر فساد حكامها. من حيث المبدأ يمكننا اعتبار كِلا النظريتين صحيحتان وتكملان بعضهما البعض، مع فارق أن إحداهما قد تطغى على الأخرى بسبب الظروف المكانية والزمانية الناظمة لكل منهما والمؤسسة للحالة الوجدانية المجتمعية بكل تناقضاتها، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان، الجزم بماهية الأسباب ومآلاتها، وبالتالي استمرار حالة الجدل بين الفريقين.

يتسلح أصحاب كِلا النظريتين بمجموعة من الآيات والأحاديث والمقولات والأمثال، فأصحاب الرأي القائل بأن فساد الحاكم من فساد الرعية يتسلحون بأهم مقولة، رفعها البعض لدرجة حديث ونسبوه للنبي صلى الله عليه وسلم، بينما ضعفه وأنكره معظم أهل العلم، وهي مقولة: “كما تكونوا يولى عليكم” أو “كيفما تكونوا يولى عليكم”.

حيث يمكننا اعتبار المقولة صحيحة في مضمونها من حيث المبدأ، لكنها استخدمت في سياقات متعددة أهمها تبرئة الحكام من مسؤولية الفساد والتخلف، وإلقاء تبعية ذلك على عاتق الشعوب، التي ربما تكون فاسدة لكنها زادت فسادا بوجود الفاسدين المفسدين من الحكام وحاشيتهم وما يملكونه من قوة وسلطة ومال، سخرت جميعها كأدوات لتنفيذ سياسات هدامة أجبرت الشعوب على القبول بها، لتصبح مسؤولة عن فساد حكامها، فصمتها عن الفاسدين هو ما شجعهم على استمراء الفساد وجعل الشعوب شريكة لهم، وهنا لا بد من الاستشهاد بالآية الكريمة التي تقول (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً).

الحاكم الفاسد يحتاج لرعية فاسدين، فهو لا يستطيع أن يستمر بالحكم في بيئة صالحة لأنها ستقاومه وتتصدى له وربما تسقطه، لهذا نراهم يستميتون في محاولة إفساد المجتمعات بالتدرج أحيانا، وبطريقة الصدمة في أحيان أخرى متسلحين بالفاسدين من أبناء المجتمع ونخبه المزيفة التي صنعتها الأنظمة لتستخدمها في التسويف وقلب الحقائق والتدليس على الناس.

ربما يكون المجتمع الأمريكي أقرب مثال حي على هذه النظرية، فمجرد وصول رجل فاسد كدونالد ترامب لسدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية رغم عنصريته البغيضة وكل فضائحه المالية والجنسية والأخلاقية، دليل حي على المستوى الأخلاقي الذي وصلت إليه شريحة واسعة من المجتمع الأمريكي الذي أوصله لسدة الحكم في انتخابات سادها التضليل والتزوير.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر فلابد من استحضار الحالة المصرية، وكيف نجحت جوقة إعلامية بخداع شعب يعد 100 مليون، فشيطنت الثورة المصرية ودفعت وسهلت لشريحة من المصريين بقيادة الجيش وبمباركة المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية، الانقلاب على رئيس شرعي منتخب، بينما صمتت معظم قطاعات الشعب المصري عما يحدث ولم تحاول التصدي لهذا الانقلاب الذي يدفع ثمنه اليوم حتى الذين دعموه وشاركوا فيه، فهل هي مسؤولية الشعب ام مسؤولية النظام أم كليهما معاً، أم هي نقمة ربانية وعقوبة على صمت الناس وعدم وقوفهم في وجه الباطل؟

يقال: “إن الناس على دين ملوكهم” وهي المقولة التي يتسلح بها أصحاب نظرية فساد الشعوب من فساد الحاكم، فالأنظمة هي القدوة والمثال وهي الناظم لحركة المجتمع والمتحكم في سلوكه، فالمال والسلطة عاملان حاسمان في مسألة السيطرة على الشعوب وتوجيهها، فما يهم الشعوب في غالبها هو توفر الأمان وسبل حياة كريمة، وهو ما يفترض أن توفره الأنظمة المسؤولة عن تسيير شؤون الرعية.

لعل فساد الأنظمة هو بيت الداء وأس البلاء فنهب الثروات وتجميعها بيد الحاكم وعائلته وحاشيته وإنفاقها على بذخهم الخاص أو في غير مصارفها الشرعية، لابد وأن ينعكس سلبا على حالة الناس الاقتصادية والمعيشية، ما سيؤدي لانعدام فرص العمل وتلاشي جهود الرعاية الاجتماعية بمختلف أشكالها، لتنحصر في أدنى حالاتها أو فيما يقدمه الأفراد والجمعيات الخيرية من مبادرات تطوعية لن تستطيع بحال أن تسد العجز الحاصل.

الحاكم إما أن يكون نعمة من الله وإما أن يكون نقمة، صلاحه من صلاح الرعية وصلاح الرعية من صلاحه، وفي تاريخنا أمثلة عديدة على صلاح حكام أصلح الله بهم الأمة ولعل أبرزهم الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي أصلح في عامين ما فسد في عقود فأعاد الإسلام لسيرته الأولى أيام كان خلافة راشدة، فكان سببا في صلاح الرعية وغناها، حتى إن المنادي لينادي على المحتاج والفقير فلا يجد من يجيبه، ثم قضيت ديون المسلمين وحوائجهم من حج وزواج وطلب علم، ففاض المال حتى قضيت ديون اهل الكتاب، ففاض المال حتى أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بنثر الحب على رؤوس الجبال كي لا يقال جاعت الطير في بلاد المسلمين.

مما يعزز وجهة النظر القائلة أن صلاح الرعية من صلاح حاكمها قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: اعلموا أنهُ لا يزالُ النَّاس مُستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم. وقد روي أنه عندما جيء بغنائم كسرى إليه، نظر إليها وقال: “إن قوما أدوا هذا لأمناء”. فقال له علي بن أبي طالب: “إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت”.

الناس على ما ألفت حكامها عليه، وهم في اهتمامهم على ما اهتم به ولاة أمرهم من (علم وورع وزهد وعفة وعدل) أو عكسها من (جهل وفجور وجشع ومجون وظلم)، فصلاح الناس والدنيا والدين بصلاح الامراء والعلماء

كان عمر رضي الله عنه قد فرض للمهاجرين الأولين 4 آلاف درهم من عطايا بيت المال وفرض لابنه 3 آلاف وخمسمئة فقيل له: هو أي ابنه من المهاجرين فلم نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، وليس هو كمن هاجر بنفسه. أصاب المسلمين مجاعة في عهد سيدنا عمر فحرم السمن واللبن على نفسه وأكل الزيت حتى تغير لونه، فلما كلموه في ذلك قال: والله لا أذوق السمن حتى يذوقه فقراء المسلمين. وقد قال أحد الصحابة: لو لم ترفع هذه المجاعة لظننا عمر يموت هماً بأمر المسلمين. قال رجل لعمر: اتق الله! فقال رجل ممن حضر ذلك المجلس: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟ فأحابه سيدنا عمر: دعه يقلها، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم.

خرج الفاروق عمر إلى الشام ومعه أبو عبيدة بن الجراح فأتيا على مخاضة وعمر على ناقته فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض في الماء فقال له أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك! فقال عمر: آه لو قال هذا غيرك يا أبا عبيدة لجعلته نكالاً لأمة محمد! إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله.

صعد عمر بن الخطاب يوما على المنبر يوما فقال: يا معشر المسلمين ،ماذا تقولون لو أني ملت برأسي إلى الدنيا هكذا؟ وأمال رأسه، فقام إليه رجل فسل سيفه وقال: كنا نقول بالسيف هكذا وأشار إلى قطعه فقال عمر: إياي تعني بقولك؟ قال: نعم إياك أعني بقولي، فنهره عمر ثلاثاً وهو ينهر عمر، فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قوَمني.

من هذه الأمثلة والأدلة يتبين لنا أن الناس على ما ألفت حكامها عليه، وهم في اهتمامهم على ما اهتم به ولاة أمرهم من (علم وورع وزهد وعفة وعدل) أو عكسها من (جهل وفجور وجشع ومجون وظلم)، فصلاح الناس والدنيا والدين بصلاح الامراء والعلماء، وقد صدق من قال: إن الناس على دين ملوكهم والسلطان سوق يجلب إليها ما ينفق فيها. وقد صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى