كتابات مختارة

تقسيم الاجتهاد من حيث الانقطاع وعدمه

بقلم الشيخ وليد بن فهد الودعان

هذا التقسيم صرح به الشَّاطبي، بل وابتدأ به مسائل الاجتهاد التي ضمنها كتابه الموافقات، وسيوضح لنا الشَّاطبي في هذا التقسيم ما يمكن أن ينقطع من أنواع الاجتهاد، وما يبقى ولا ينقطع، وفيما يلي عرض رأيه.

رأي الشَّاطبي:
الاجتهاد بهذا الاعتبار قسمه الشَّاطبي إلى قسمين:
القسم الأول: اجتهاد لا ينقطع حتى قيام الساعة.
القسم الثاني: اجتهاد يمكن انقطاعه.

أما القسم الأول – وهو ما لا ينقطع حتى قيام الساعة -: فهو الاجتهاد المتعلق بالتكليف؛ فهو باقٍ ما بقي التكليف، وهذا النوع هو نوع من تحقيق المناط، وهو المتعلق بالأشخاص؛ قال الشَّاطبي: “الاجتهاد على ضربين: أحدهما لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة[1]، ثم قال: “فأما الأول: فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط”[2].
وقال: “ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة، فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان”[3].
ولا يندرج في ذلك نوعَا تحقيق المناط الشخصي، وإنما المراد هنا هو نوع من تحقيق المناط، وهو تحقيق المناط الشخصي العام، الذي لا يختص بفئة دون أخرى، وإنما هو عام لكل مكلف، سواء كان عالمًا، أو متعلمًا، أو حاكمًا، أو مفتيًا، أو غير ذلك.

وبما أن هذا الاجتهاد مرتبط بالتكليف، وبقاء التكليف بقاء لهذا النوع من الاجتهاد، كما أن ارتفاع التكليف ارتفاع لهذا النوع من الاجتهاد، ولما أن كان ارتفاع التكليف مرتبطًا بارتفاع الشريعة؛ إذ لا يمكن أن يكلف الإنسان مع ارتفاع الشريعة؛ إذ هذا من تكليف المحال وما لا يطاق، كما يرى الشَّاطبي[4] – فإنه لا يقدح فيما مضى تقريره قول الشَّاطبي: “لأنه إن فرض في زمان ما ارتفعت الشريعة ضربة لازب..” [5]؛ إذ واضح من قوله هذا أنه مجرد فرض، وجواز عقلي، ولا يلزم من الجواز العقلي الوقوع الشرعي، كما هو معلوم، وعلى هذا فهو هنا حينما قرر أن هذا النوع من الاجتهاد لا ينقطع نظر إلى عدم وقوع الفتور في الشريعة، ولم ينظر إلى الجواز العقلي.

وأما القسم الثاني – وهو الاجتهاد الذي يمكن انقطاعه -: فهذا القسم بيَّن الشَّاطبي أنه يندرج فيه ثلاثة أنواع من أنواع الاجتهاد:
النوع الأول: تنقيح المناط، وهو أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورًا مع غيره في النص، فيقوم المجتهِد بتمييزه عما هو غير معتبر[6].
النوع الثاني: تخريج المناط، وهو راجع إلى أن النص المتضمن للحكم لم يتعرض لبيان المناط؛ فالمجتهِد يقوم بالبحث واستخراج المناط الذي يغلِب على ظنه أن الشارع علَّق عليه الحكم[7].
النوع الثالث: نوعان من تحقيق المناط، وهما:
الأول: تحقيق المناط الخاص بالأنواع.
والثاني: تحقيق المناط الشخصي الخاص.
فالأول من نوعَيْ تحقيق المناط كتعيين نوع المِثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في الكفارات، والبلوغ في الغلام والجارية، ونحو ذلك.
والثاني وهو النظر المتعلق بكل مكلف بالنسبة لما وقع عليه من الدلائل، إن كان التكليف حتمًا، أو لما يصلح له، إن كان غيرَ حَتْم.

وهذه الأنواع لما لم تكن عامة بكل أحد، بل القائم بها هم خاصة من الناس، كانت قابلة للانقطاع وعدم الدوام، وقال الشَّاطبي: “أما الضرب الثاني، وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع، فثلاثة أنواع، أحدها المسمى بتنقيح المناط… والثاني المسمى بتخريج المناط… والثالث: هو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر؛ لأنه ضربان، أحدهما: ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص؛ كتعيين نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات، وما أشبه ذلك… الضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه”، ثم ذكر أن هذا على قسمين، منه ما هو عام، وأشار إلى عدم انقطاعه، ومنه ما هو خاص، وأشار إلى أنه مندرج ضمن ما ينقطع[8].
وفيما اطلعت عليه لم يتبين لي أن أحدًا من الأصوليين صرح بهذا التقسيم للاجتهاد.

ولكن: هل الشَّاطبي موافَق فيما ذهب إليه في هذا التقسيم أو لا؟
أما عن النوع الأول، وهو الاجتهاد الذي لا يمكن انقطاعه لتعلقه بالتكليف، فإن بعض المتأخرين ذكر الإجماع على بقاء الاجتهاد في تحقيق المناط العام إلى قيام الساعة[9]، وعلى هذا فالشَّاطبي مقرر لإجماع مَن تقدمه من العلماء[10].
ويؤيد هذا أن جماعة من الأصوليين قد صرحوا بأن من نوعي الاجتهاد[11] في تحقيق المناط ما هو من ضرورة كل شريعة، وهو أن تكون القاعدة الكلية في الأصل منصوصًا عليها، أو مجمعًا عليها، فيجتهد في تحقيقها في الفرع[12].
وفي هذا النوع الذي هو من ضرورة كل شريعة يندرج ما أطلقنا عليه تحقيق المناط الشخصي العام، وعلى هذا فهو إذًا باقٍ بقاءَ الشريعة؛ لأنه من ضرورياتها، والشريعة باقية لا تنقطع إلا بقيام الساعة.
كما أن اختلاف الأصوليين في أنواع الاجتهاد الأخرى، وهل يمكن خلوُّ الزمان من المجتهد فيها أو لا؟ مفيد بأن هذا النوع المتعلق بالعامي وغيره، الذي يطلق عليه الشَّاطبي اجتهادًا، لا يمكن أن ينقطع، وأنه محل وفاق بينهم.
ولكن هذا محل نظر؛ لأن بعض الأصوليين جوَّز اندراس الشريعة، وتعطل الأحكام؛ كالأشعري، والإسفراييني[13]، والجويني[14]، والغزالي[15]، وابن الصلاح[16]، والصفي الهندي[17].

ومن هؤلاء مَن جعل مِن لازم القول بالاندراس والفتور سقوط التكاليف، إلا أنه يبقى تعبد على الخلق بإفتاء محاسن العقول.
ونقل الجويني ذلك عن الإسفراييني، ونقل عن الأشعري بقاء التكليف، وقال: “بناه على أصله في جواز تكليف ما لا يطاق”[18].
ثم اختار الجويني جواز الوقوع[19]، وتبعه الغزالي[20]، وعلى هذا فإذا فترت الشريعة فلا تكليف[21].
وقد تعقب الأبياري قول الجويني، فقال: “وقد ذهب الإمام إلى تجويز الاندراس بالكلية، وانتهاء الأمر فيه إلى الفترة، وإن كان الظاهر لنا خلافه، وأن هذه الشريعة باقية إلى قيام الساعة”[22].
وعلى هذا، فعلى القول بوقوع فتور الشريعة يمكن أن ينقطع تحقيق المناط العام قبل قيام الساعة؛ لأن هذا النوع من تحقيق المناط مرتبط بالتكليف، والتكليف – على قولٍ – مرتبط بعدم فتور الشريعة، فإذا جُوِّز فتورها جاز انقطاع تحقيق المناط العام، فهذا القول بمضمونه مخالف لما سبق أن قرر، فيكون في المسألة خلاف – فيما يبدو.

أما في القسم الثاني وهو إمكان انقطاع بقية أنواع الاجتهاد – دون ما سبق في القسم الأول – قبل قيام الساعة، فالشَّاطبي قد وافق فيه الجمهور، خلافًا للحنابلة، وبعض الشافعية[23].
إذا تبين هذا، فالشَّاطبي متميز بهذا التقسيم الفريد، منفرد بتوضيحه بهذه الصورة.

أدلة الشَّاطبي ومن وافقه:
استدل الشَّاطبي على أن الاجتهاد الشخصي العام لا ينقطع بأدلة، وهي:
الدليل الأول: أن هذا النوع متعلق بالتكليف، ووجه تعلقه أن التكليف لا يمكن أن يحصل إلا به، وبيان ذلك: أن من شرط إيقاع التكليف الامتثال، وذلك لا يتأتى إلا بمعرفة المكلف به، ولا يكون ذلك إلا عن طريق هذا النوع من الاجتهاد؛ لأن الأحكام الشرعية سواء كانت مطلقة أو مقيدة، إنما تتنزل على الأفعال المطلقة، وهذه الأفعال لا توجد في الواقع إلا إذا تعلقت بأعيان، وكيف يعرف المكلف أنه مندرج تحت هذا المطلق إلا عن طريق هذا النوع من الاجتهاد، فإذًا لا بد من هذا النوع من الاجتهاد لوجود التكليف، ولو كان التكليف واجبًا مع إمكان انقطاع هذا النوع من الاجتهاد، لكان تكليفًا بالمُحال؛ إذ لا يمكن امتثال المأمور، ولا معرفة المأمور به، وهذا غير ممكن شرعًا وعقلًا[24]، وأما بقية الأنواع فقد يحصل التكليف بدونها عن طريق التقليد مثلًا؛ ولذا جاز انقطاعها[25].
الدليل الثاني: أن هذا النوع لا يلزم أن يكون مستندًا لدليل شرعي، بل قد يثبت بغير دليل أصلًا؛ كطمأنينة القلب وما يقع في النفس، وهذا أمر يتمكن منه العامي ويقوَى عليه، والعامي مما لا ريب فيه مخلوق وموجود إلى قيام الساعة[26].

اعتراض: أورد الشَّاطبي اعتراضًا على التفريق بين هذا النوع من أنواع الاجتهاد وبين بقية الأنواع، وصورته: لماذا فرقتم مع توافق الأنواع في الحكم؟؛ لأن هذا النوع إن كان غير منقطع فغيره مثله؛ لأنه لا يخلو من: أن يكون مرادكم بالانقطاع أنه لا يصح انقطاع هذا النوع بالكلية، وإن صح انقطاع بعض جزئياته مع بقاء البعض الآخر، أو يكون مرادكم لا يصح انقطاعه لا كليًّا ولا جزئيًّا، وعلى كِلا التقديرينِ توافقه بقية أنواع الاجتهاد، وبيان ذلك:
أما الأول: فلأن من المعلوم أن الوقائع لا تنحصر، ولا يمكن دخولها تحت الأدلة المنحصرة؛ ولذا احتيج لفتح باب الاجتهاد والقياس؛ إذ لا بد من وقوع الحوادث غير المنصوص عليها، وليس للأولين فيها اجتهاد، وحينئذ فلا يخلو: إما أن يترك المكلف فيها مع هواه، أو ينظر فيها دون اجتهاد شرعي، وهذا فيه اتباع الهوى، وفيه من الفساد ما فيه، أو يتوقف، والتوقف لا إلى غاية ففيه تعطيل التكليف، كما أنه مؤدٍّ إلى التكليف بما لا يطاق، وعلى هذا فلا بد من الاجتهاد بأنواعه في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة غير مختصة بزمن دون آخر، وبهذا يتبين الحاجة لجميع أنواع الاجتهاد، وأنه لا وجه للتفرقة.

أما الثاني: فباطل؛ لأن مطلق التكليف لا يتعطل بتعذُّر الاجتهاد في بعض الجزئيات، وعلى هذا فيمكن انقطاع هذا النوع من الاجتهاد، وغيره كذلك، فلا يظهر فرقٌ حينئذ[27].
جوابه: وقد أجاب الشَّاطبي عن هذه المناقشة بما يتضمن الدليل على الفرق، وهو دليل أيضًا على إمكان انقطاع الأنواع الأخرى من الاجتهاد، وصورة الجواب: أن بين النوعين فرقًا؛ فالنوع المستدَلُّ له يخالف بقية الأنواع، ووجه المخالفة أن هذا النوع الخاص كليٌّ في كل زمان، وعام في جميع الوقائع أو أكثرها، ولو قلنا بارتفاعه وانقطاعه، لتعطَّل معظم التكليف أو كله، وذلك باطل، فما ترتب عليه مثله، ولو فُرض وقوع ذلك لارتفعت الشريعة كلها، ولكان ارتفاعها لازمًا وحتمًا بخلاف غيره من الأنواع؛ لأنه لا يلزم من تعطيلها تعطيل معظم الشريعة؛ فإن الوقائع الجديدة التي لا مثيل لها في الأزمنة المتقدمة قليلة بالنسبة لها؛ وذلك لاتساع النظر والاجتهاد من المتقدِّمين، وحينئذ يمكن تقليدهم فيه، وهو معظم الشريعة، ولو تعطلت بعض الجزئيات، فلا يلزم من ذلك تعطيل الشريعة، كما لو عجز عن تحقيق المناط في بعض الجزئيات، فإنه لا ضرر على الشريعة في ذلك، وحينئذ يتبين الفَرق بين الأنواع[28].

————————————————

[1] الموافقات (5/ 11).
[2] الموافقات (5/ 12).
[3] الموافقات (5/ 17).
[4] الموافقات (5/ 334).
[5] الموافقات (5/ 39)، واللزوب: اللصوق والثبوت، وصار ضربة لازب؛ أي: لازمًا ثابتًا؛ انظر القاموس المحيط (171) مادة: “لزب”.
[6] الموافقات (5/ 19 – 20).
[7] الموافقات (5/ 21 – 22).
[8] الموافقات (5/ 19 – 22).
[9] انظر: حاشية دراز على الموافقات (5/ 11) تعليق عفيفي على الإحكام (4/ 233).
[10] وافق الشاطبي على ذلك العلوي، كما في نشر البنود؛ فقد نقل كلامه وأقره على ذلك (2/ 202) كما نقله د/ محمد مدكور في كتابه: الاجتهاد في التشريع الإسلامي (46 – 47).
[11] وذلك لأن بعض الأصوليين يقسمون تحقيق المناط إلى قسمين، أحدهما: في القاعدة الكلية، والثاني: في العلة؛ انظر: رسالة في أصول الفقه (82) روضة الناظر (ت: النملة 3/ 801) شرح مختصر الروضة (3/ 233).
[12] انظر: رسالة في أصول الفقه للعكبري (81 – 82) المستصفى (2/ 231) روضة الناظر (2/ 200) الإبهاج (3/ 83) شرح مختصر الروضة (3/ 33).
[13] انظر: البرهان (2/ 881)، وما نقله الجويني هنا عن الإسفراييني مخالف لما نقله الزركشي عنه؛ حيث قال: “تحت قول الفقهاء: لا يخلي الله زمانًا من قائم بالحجة، أمرٌ عظيم، وكأن الله تعالى ألهمهم ذلك، ومعناه أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائم بحجة زال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطَلت الشريعة”؛ ولهذا نقل عنه اختياره عدم جواز خلوِّ الزمان من مجتهد؛ انظر: البحر المحيط (6/ 207 – 208).
[14] انظر: البرهان (2/ 881 – 882) غياث الأمم في التِيَاث الظُّلَم (240).
[15] انظر: المنخول (595).
[16] انظر: أدب الفتوى (54 – 55).
[17] انظر: نهاية الوصول (8/ 3890).
[18] انظر: البرهان (/ 881).
[19] في البرهان (2/ 882) اختار الجويني أنه إن قامت القيامة في خمسمائة سنة، فيغلِب على الظن أن الشريعة لا يندرس أصلها ولا تفاصيلها، وإن تمادى الزمان فيمكن اندراسها في غالب الظن، وانظر: غياث الأمم (241)، ولا يخفى بطلان ذلك؛ فقد مضى زمن أكثر مما ذكر، والشريعة قائمة بحمد الله.
[20] انظر: المنخول (596).
[21] انظر: المنخول (596).
[22] التحقيق والبيان (2/ 929).
[23] سيأتي ذكر الأقوال وعرض الخلاف (ص 553 – 555).
[24] انظر: الموافقات (5/ 17 – 18) وانظر: الموافقات (3/ 232 – 233) وحاشية دراز عليه.
[25] انظر: الموافقات (5/ 39 – 40).
[26] انظر: الاعتصام (2/ 387).
[27] انظر: الموافقات (5/ 38 – 39).
[28] انظر: الموافقات (5/ 39 – 40).

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى