كتب وبحوث

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 6 من 10

تطبيق الاشتراكيَّة في دار الإسلام: أسبابه وتداعياته المؤسفة 6 من 10

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

هل المفاوضات السِّلميَّة قادرة على حسْم الصِّراع؟

يناقش كشك ما ردَّده الموالون للغرب من صنائع أجهزة الاستخبارات الاستعماريَّة عن ضرورة اتِّباع نهج سلمي في تحرير الأرض، بدلًا من الحلول العسكريَّة، على أساس أنَّ الاقتتال يفضي إلى الفوضى والدَّمار، وهنا تبرز أفضليَّة التَّعايش السِّلمي. يتساءل كشك “كيف نحرِّر أرضنا وإرادتنا، وننتزع استقلالنا؟”، ويرد “بأن نهزم إسرائيل في ميدان القتال. أن نسحق جهازها العسكري. وندمِّر كيانها الاقتصادي…بشلِّه، باستنزافه في القتال، بتدميره بضربات عسكريَّة مباشرة” (ص201-202). ويعتبر المفكِّر الإسلامي أنَّ الهزيمة ليست في الانسحاق في ميدان القتال، إنَّما في الرُّضوخ لسيف المستعمر والرِّضا بالتَّبعيَّة على حساب ثوابت الدِّين. كان من الممكن، استنادًا إلى مبدأ “ما أُخذ بالقوَّة لا يُستردُّ إلَّا بالقوَّة”، كما أعلن عبد النَّاصر ذاته في أحد أواخر خطاباته قبل وفاته في 28 سبتمبر 1970م، رفْض أيِّ مساومة على التفاهم مع المحتل الصُّهيوني تحت مسمَّى اتِّباع الحلول السِّلميَّة والتفاوض البنَّاء، ومبرِّر ذلك الرَّفض ببساطة هو أنَّ إسرائيل لم تحتل ما احتلَّته إلَّا بعد استغلال “تفوُّقها العسكري في تدمير القدرات العسكريَّة للعرب”، ويذكِّرنا ذلك بما سبقت الإشارة إليه في أكثر من موضع عن عدم استعداد الجيوش العربيَّة لمواجهة إسرائيل بسبب التَّصارع الدَّاخلي على النُّفوذ والمال. ما يؤكِّد أهميَّة المواجهة القتاليَّة مع إسرائيل ثبوت مطامعها الإقليميَّة في المنطقة كلِّها، وليس في فلسطين وحدها، خاصَّة بعد الجهر بالمطالبة بتأسيس “دولة إسرائيل الكبرى”، وإن لم تكن قد أصبحت “سياسة رسميَّة دولة العدو”، كما يعرض كشك في كتابه الذي يعود إلى عام 1968م (ص208). وتجدر الإشارة إلى إطلاق إسرائيل في نوفمبر من عام 2018 إعلانًا روَّج لفكرة أنَّ الحلَّ في منطقة الشَّرق الأوسط يتلخَّص في احتلال الدَّولة العبريَّة المنطقة، ليصل نطاق الدَّولة إلى مصر والعراق والخليج العربي وتركيا وإيران والأحواز العربيَّة، بعد الشَّام، كما توضح الخارطة، التي نُشرت خلال تناوُل برنامج “من أمريكا”، المذاع على قناة مقدِّمه عبر موقع يوتيوب، الإعلان.

إسرائيل تحتلُّ الشَّرق الأوسط-برنامج “من أمريكا”

يعِد مقدِّم الإعلان المسلمين والمسيحيين في الدَّولة العبريَّة بحريَّة كامل في ممارسة شعائرهم الدِّينيَّة، وبعدم المساس بحقِّهم في الانتخاب والعمل في الوظائف الرَّسميَّة، بما فيها الوظائف العسكريَّة والقضائيَّة، كما يعد بالحريَّة والرفاهية والوفرة الماديَّة أكثر من أي وقت سبق. ويصف مقدِّم الإعلان “منْح اليهود السَّيطرة الكاملة على الشَّرق الأوسط” بأنَّها “فكرة رائعة”. يعيدنا هذا الوصف إلى ما أثاره كشك قبل أكثر من نصف قرن عن تعذُّر تصريح إسرائيل عن نيَّتها السَّيطرة على منطقة الشَّرق الأوسط بأكمله في ذلك الوقت؛ لعدم توفُّر سُبل تحقيقه حينها؛ لأنَّ إسرائيل الكبرى “سياسة رسميَّة لدولة العدو منذ لحظة تكوينها”، بل وحتَّى قبل أن تكون له دولة (ص211). إضافة إلى ذلكـ فإسرائيل تعتبر الدَّولة الوحيدة في العالم التي لم ترسم لنفسها حدودًا؛ وليس أدلَّ على ذلك أكثر من أنَّ خارطة إسرائيل الكبرى في السَّابق، كما تشمل فلسطين والأردن بالكامل والجزء الواقع شرق نهر النِّيل في مصر وأجزاء من سوريا والعراق وجنوب تركيا. أمَّا الخارطة الحديثة، فتضمُّ الشَّام ومصر والعراق والخليج العربي وتركيا وإيران والأحواز العربيَّة بالكامل.

خريطة إسرائيل الكبرى في السابق
خريطة إسرائيل الكبرى حاليا

تضليل العامَّة بشأن أسباب الهزيمة وسُبل الخروج من المحنة

يتناول كشك في كتابه مقالات للصحافي والسياسي المصري الرَّاحل محمَّ حسنين هيكل، تعرَّض فيها للأزمة العربيَّة في مواجهة الاحتلال الصُّهيوني، ساخرًا من محاولته تضليل العامَّة بإلقائه اللوم على ما أطلق عليه “العدوان الغادر” في حالة التَّردِّي التي كانت المجتمعات العربيَّة تعاني منها، كأنَّما كان لسان حال هيكل أراد أن يقول إنَّ عجلة “البناء الحضاري” عام 1955م، ومساعي “مواجهة الاستعمار” عام 1956م، وجهود “تحرير اليمن” عام 1967م لم يعطِّلهم سوى العدوان الإسرائيلي، بلا أيِّ تقصير من جانبنا (ص213). يعترف هيكل، برغم معارضته العمل العسكري ضدَّ إسرائيل، بصعوبة الوصول إلى تسوية سلميَّة مع الكيان الصُّهيوني دون مكاسب له على الأرض؛ لأسباب كثيرة، من بينها شعوره بالانتصار وإدراكه هشاشة القوَّات المعادية التي قهرها في أيَّام معدودات. أمَّا عن أسباب التَّصريح بعدم معارضة الحل السِّلمي، فمن بينها كسب الوقت، والحصول على تأييد الرَّأي العام العالمي. لا يجد كشك حلًّا لمواجهة التَّهديد الإسرائيلي سوى الحلَّ القتالي، قبل أن تطوِّر إسرائيل قنبلتها النَّوويَّة وتصبح دولة عظمى يصعب التغلُّب عليها. تمثِّل إسرائيل أحدث أشكال الاستعمار، الذي بدأ بالغزو الفكري، بنشر أفكار وعقائد دينيَّة منافية لصحيح الإسلام؛ بهدف تهيئة عقول العامَّة لقبول الوجود الإسرائيلي، بل وعدم إيجاد مانع عن مسايرته في عقيدته وعاداته؛ فتُباح ثروات الأمَّة للمستعمر دون مقاومة. وعن الاستعمار الجديد يقول كشك (ص269):

ولقد خدعنا أنفسنا، بالحديث، عن نهاية عصر الاستعمار…والحقيقة أنَّه طالما ظلَّت الغلبة للحضارة الغربيَّة البيضاء، فإنَّ الاستعمار مستمرٌّ، ربَّما تتغيَّر أشكاله، ولكنَّ جوهره سيبقى…تطلُّع الأقوياء إلى أرض وثروات الضُّعفاء. كذلك فإنَّ ظهور أشكال جديدة للاستعمار لا يعني حتميَّة اختفاء الأشكال القديمة…بالعكس، إنَّها تستمرُّ إلى جانبها وتُخضع نفسها للشَّكل الجديد…

لا يحد محمَّد جلال كشك في نهاية كتابه أهم من التَّشديد على أهميَّة الوحدة بين الشُّعوب المسلمة، فيما أطلق عليه “تعبئة الشُّعوب الإسلاميَّة” في مواجهة “الاستعماريَّة العالميَّة”، ولا غنى عن تحريك الشُّعوب المسلمة في شتَّى أنحاء المعمورة للتَّحرُّك على قلب رجل واحد لمناهضة السَّرطان الاستعماري الذي ينخر في جسد الأمَّة وكاد يفني أبناءها في سبيل إحكام سيطرته على العالم وموارده. المفارقة الدَّاعية للتَّحسُّر أنَّ كشك كان يتعجَّب من قدرة اليهود على تحريك العالم لمصلحتهم وهم لا يتجاوز عددهم 13 مليون شخص، بينما بلغ عدد المسلمين وقت إعداده هذا المؤلَّف عام 1968م حوالي 600 مليون. فماذا كان سيقول اليوم، وأحدث الإحصاءات تشير إلى وصول عدد المسلمين عام 2018م إلى 1.8 مليون-ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل 50 عامًا-بينما لم يتجاوز عدد اليهود عام 2019م 14.7 مليون؟! ولا ردَّ أبلغ قولًا من قول النبيِّ (ﷺ) الذي أخرجه أبي داود في سننه (4297)، وورد في مسند أحمد (21890)، وفي مسند أبي داود الطيالسي (1085) “يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى