كتابات

بين الفقه الشرعي وفقه الواقع

بين الفقه الشرعي وفقه الواقع

مقالات – د. عبد المجيد البيانوني

تساءل بعض الناس: لماذا تختلف أقوال العلماء الموثوقين في علمهم، ومواقفهم ممّا يجري في الواقع ؟!. ألا يمكن أن تتّحد أقوالهم ومواقفهم وفتاواهم، فلا تتشوّش مواقف الناس من الحكم على الواقع ، ولا تهتزّ ثقتهم بهم؟.

وأقول من الوجهة الموضوعيّة البحتة: إنّ فقه الحكم الشرعيّ “شيء” ، وفقه الواقع “أشياء”.. واجتهاد الفقيه يكون بتنزيل الحكم الشرعيّ على الواقع ..

فقه الحكم الشرعيّ قد يُحسِنُه كثير من طلاّب العلم الشرعيّ، كما جاء في مصادره ومراجعه .. إنّه يعبّر عن حالة ثابتة، أقرب إلى التجريد منها إلى الواقع ..

أمّا فقه الواقع، الذي لا بدّ منه لصحّة تنزيل الحكم الشرعيّ عليه، فلا بدّ فيه من مَلكِ أدوات عديدة، ومؤهّلات كثيرة، مع حسن الفهم، وبعد النظر، وسعة الأفق، وفي هذا العصر على وجه الخصوص أصبح المختصّ بالفقه غير مؤهّل للفتوى في الوقائع العامّة ما لم يكن له إلمام بعلوم كثيرة، ماضية وحاضرة، وأن يكون له وعي ببواطن أمور، لا تلتقي مع ظاهرها .. وذلك يحتاج إلى تفصيل وبيان، لا مجال لتفصيله هنا .. كلّ ذلك مع التجرّد عن الهوى، والتحرّر من ضغط الواقع ومؤثّراته ..

وكلّما تعقّد مشهد الواقع، وكثرت ملابساته واحتمالاته تباعدت تفسيرات الناس له واختلفت، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال .. ومن هنا قال العلماء: “الحكم على الشيء فرع عن تصوّره”، ولا يمكن تدارك هذا الأمر، وتقليل الاختلاف فيه إلاّ بالحوار العلميّ الموضوعيّ، الذي يضع كلّ شيء في نصابه الصحيح ..

فأيّة قدرة لفقيه أن يفتي في أمر سياسيّ مثلاً، وهو بعيد عن الواقع، غير مطّلع على مداخل السياسة المحلّيّة والعالميّة ومخارجها، وألاعيبها وأساليبها؟!.

لقد أصبح الذي يفقه الحكم الشرعيّ، ولا يفقه الواقع بكلّ معطياته وملابساته، وخفاياه قبل ظواهره، يصدق عليه قول الشاعر :

حفظت “شيئاً” ، وغابت عنك “أشياء”.

ومن هنا فإنّ فقه الناس للواقع بمتغيّراته وملابساته ومعطياته على درجات مختلفات متباينات .. والله يؤتي فضله من يشاء ..

وعندما ندر أن يجتمع في الفقيه الواحد فقه الحكم الشرعيّ وفقه الواقع ذهب أكثر الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهيّة إلى ترجيح الاجتهاد الجماعيّ، وبخاصّة في الأمور العامّة، لتحقيق أكبر قدر من الإحاطة بالمسألة، ومعرفة ملابساتها، وما يتّصل بها، ودرءاً لما يتوقّع من شذوذات الاجتهادات الفرديّة، التي تقصر عن المعرفة الصحيحة للواقع ..

وتأسيساً على ما سبق فإنّه يخطئ من يظنّ أنّ كلّ فقيه، يؤخذ عنه كلّ شيء .. فاعذروا الفقيه إذا قال لكم: لا أدري .. فهي نصف العلم، كما قال السلف، وهي تعني هنا: أنّه قد يفقه الحكم الشرعيّ، ولكنّه لا يفقه الواقع .. وفوق كلّ ذي علم عليم ..

والأمر يتّصل بتكوين طلاّب العلم الشرعيّ، وما يزوّدون به من أدوات العلم والبحث .. والحديث عن ذلك ذو شجون .. عسى الله أن يوفّق للحديث عنه عن قريب ..

المصدر: موقع “الإسلام اليوم”.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى