كتابات مختارة

انتصار طالبان يبشر بموجات قادمة من الثورات العربية

انتصار طالبان يبشر بموجات قادمة من الثورات العربية

كأنّ مشهد الطائرة الأمريكة وهي تُقْلِع من مطار كابول والناس يتساقطون من فوق متنها قد صار أيقونة جديدة للإنسانية المتدحرجة إلى الهاوية! فهل آن للبشرية أن ترى الحقيقة عارية من كل طلاء زائف، وهل تستطيع الإنسانية أن ترى صورتها في مرآة هذا الحدث البعيد الدلالات برغم مروره الخاطف؟ لقد سارع أصحاب النظرة السطحية والنفسية المهزومة إلى تفسير الحدث على نحو يذري بشعب أفغانستان وينعي على طالبان؛ فغفلوا عن الوجه الحقيقيّ للحدث، وجه الحضارة الغربية الأمريكية الآيلة للسقوط؛ لكثرة ما ارتكبته وترتكبه في حق سكان هذا الكوكب من فظائع وشرور.

لقد كان حدثا عابرا نعم، ولقد نجحت أمريكا في تمريره والتشويش عليه، وفي التزفيف على عورتها قبل أن تتوالى حملات التشنيع من الشرفاء والوضعاء على السواء، لكنّه برغم ذلك كان بمثابة عمود الدخان الذي يرشد إلى النار التي كانت ولا تزال مُتَّقدة بل مستعرة؛ وإنّني لا أبالغ إذا قلت: إنّ سقوط الأفغان من فوق متن الطائرة سيكون في حسّ الإنسانية أبلغ من سقوط جدار برلين، وإنْ بعد حين.

إنّ ما فعلته أمريكا في أفغانستان على مدى عقدين من الزمان لم يكن حربا على الأرهاب كما زعمت؛ فإنّ الواقع أنّ أمريكا هي منبع الإرهاب ومصدره، ولكنّها تتخذ من الحرب على الإرهاب ذريعة لتنفيذ مخططات كبرى من قبيل عولمة الهيمنة عبر الابتزاز الوقائي، ذلك النهج الذي انتهجته أمريكا بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو نهج لا يرمي فقط إلى القضاء على الجريمة قبل وقوعها بناء على التوقع والتخمين، وإنّما يرمي إلى إقامة نظام أمني جديد يقوم على تحييد عامّ للشعوب؛ لكتابة نهاية التاريخ، ليس على طريقة فوكوياما بانتصار الليبرالية، ولكن على قاعدة “الإرهاب الوقائي([1]).

لذلك كان المتضرر الأكبر من هجمات أمريكا وحلفائها هو ذاته المتضرر الأكبر في كل حروبها: (الشعوب)، إذْ مثلما فعلت في كل مكان وزمان قاتلت فيه، ومثلما فعل الحلفاء مع ألمانيا واليابان، ومثلما فعل الاستعمار مع كل بلد غزاها بجحافله السوداء؛ فعلت مع الشعب الأفغانيّ عندما عجزت عن النيل من الطالبان، فبرغم قسوة الهجمات الجوية بطائراتF16   و B52 لم تستطع القوات الأمريكية أن تحقق القليل من أهدافها، مما اضطرها إلى استعمال أسلوبها الدنيء بقتل المدنيين في القرى والمدن الآمنة ليضطروا المجاهدين إلى النزول إليها والخروج من الجبال في منطقة تورابورا([2]).

هذا السلوك الشاذ المنحرف من زعيمة الدنيا حيال أخطر ملف فَجَّرَ الثورات في عصر النهضة وما تلاه بما في ذلك الثورة الأمريكية تجلى في صور كثيرة، كان منها ملف التعامل مع المعتقلين، حيث قامت الأجهزة الأمنية الأمريكية وعلى رأسها ال CIA بممارسة التعذيب الممنهج للمعتقلين، ليس هذا وحسب بل محاولة تشريع وتقنين التعذيب، وهذا ما شهد به الجميع عن رؤية واطلاع، تقول البرلمانية الكندية “نعومي كلاين”: “تجسد التجديد الحقيقي الذي قامت به إدارة بوش في الاستعانة بمصادر تعذيب داخلية، مع خضوع السجناء للتعذيب على أيدي مواطنين أمريكيين في سجون تديرها الولايات المتحدة الأمريكية، أو نقلهم المباشر من خلال عملية نقل استثنائية إلى بلدان العالم الثالث على متن طائرات أمريكية؛ هذا ما يجعل نظام جورج بوش مختلفاً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث تجرأ النظام على المطالبة بحق التعذيب بدون حياء؛ الأمر الذي جعل الإدارة عرضة للمقاضاة الجنائية، وهي مشكلة تعاملت معها من خلال تغيير القوانين، إنّ سلسلة الأحداث واضحة جداً، فقد عمد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بتفويض من جورج بوش إلى سن قانون يعتبر السجناء المأسورين في أفغانستان غير خاضعين لاتفاقية جنيف؛ باعتبارهم مقاتلين معادين”([3]).

فلا يغترنّ أحد بديمقراطيتهم المزعومة، تلك التي أتت لنا بكرزاي بعد دمار أفغانستان، وبالمالكي بعد دمار العراق، تلك التي أتت بأشرف غني ذلك اللص الذي فرّ بملايين الدولارات على مرأى ومسمع من العالم أجمع، ولا يلتفتن أحد إلى ندبهم الدائم حول حقوق المرأة والأقليات والتشارك السياسي، فأمريكا لا يعنيها شيء من ذلك، إنّما يعنيها فقط دخول الدول تحت هيمنتها، وألا يخرج أحد رأسه من الحظيرة الأمريكية، ومن أجل ذلك ومن أجل تأمين الخراج من البلاد الفقيرة يدعمون المستبدين ولو كانوا سفاحين سفاكين للدماء، يقول الكاتب الأمريكي “نعوم تشومسكي” معدداً مواقف الإدارة الأمريكية المخزية: “خذ مثلا لذلك تروجيليو دكتاتور جمهورية الدومينيكان الذي نسانده، وسوموزا دكتاتور نيكاراجوا وماركوس دكتاتور الفلبين وروفالييه دكتاتور هايتي، وآخرين من طائفة الرؤساء المجرمين في ثمانينات أمريكا الوسطىى، كانوا كلهم أكثر وحشية من نوريجا، ولكن ساندتهم الولايات المتحدة بثقل وحماسة طوال عهودهم المليئة بالفظائع والإرهاب؛ مادامت الأرباح تتدفق من بلادهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية”([4]).

وهذا السلوك الأمريكي ليس جديدا عليها ولا منحصرا فيها، هو أسلوب هذه الحضارة المعاصرة الآيلة للسقوط والمؤذنة بالرحيل، تلك الحضارة التي كانت على أهلها نعيما وعلى سائر سكان الكوكب عذابا وجحيما، تلك الحضارة التي سخرت علومها في خدمة الإمبريالية التي أذلت الخلق وانتزعت بالقوة أقواتهم، حقاً: “إنّ تاريخ الإمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب متحضرة شنت حروبا ظالمة استئصالية ضد شعوب متخلفة أقل تعليماً، كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم، إنّ المستوى التعليميّ الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم”([5]).

لذلك نعتقد أنّ هذه الحضارة أفلست من كل مقوماتها، فيما عدا الترسانة العسكرية، وقد علمنا من التاريخ أنّ الجيوش لا تحمي الحضارات من الأفول إذا شاخت وهرمت ونفد رصيدها من القيم، وهذه حقيقة لا يجهلونها ولا ينكرونها، بل إنّ أكثر ما يزعجهم من العالم الإسلاميّ ويستفزهم لغزوه وتدميره هو أنّهم يرونه هو البديل الوحيد والوريث الأكيد، وأنّه قادم وسيسحق في طريقه عملاءهم الذين وظفوهم فوق عروشهم، يقول البروفيسور مراد هوفمان: “عندما تنافس العالم الغربيّ والشيوعية على قيادة العالم كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربيّ، يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم … فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربيّ، بل هو البديل”([6]).

ومن هنا ننطلق في استكمال الإعداد للموجات القادمة من الثورات العربية، وأن نتخذ من صمود الطالبان عبرة وعظة ومنهاجا، وأن نقف بجانب طالبان والشعب الأفغانيّ، وألا ننخدع بطنطنات ما يسمى بالمجتمع الدوليّ، ذلك السرك الكبير الذي يمتلئ عن آخره بالبلطجية ومصاصي الدماء، ولنكن على يقين من نصر الله تعالى ومعيته للمؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128).

([1]) روح الإرهاب – جان بودريار – ترجمة بدر الدين عمرو زكي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة – ط 2010م صـــ88

([2]) ر: البلاء الشديد والميلاد الجديد – فايز الكندري – مركز طروس للنشر – ط ثالثةة 2021م صــــــــ53

([3]) عقيدة الصدمة “صعود رأسمالية الكوارث” – نعومي كلاين – ترجمة نادين خوري – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر – بيروت لبنان ط الثالثة 2011م – صـــــــــــ 68

([4]) ماذا يريد العم سام؟ – نعوم تشومسكي – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – مصر – ط أولى 1998م – صــــ43

([5]) الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – ترجمة محمد يوسف عدس – دار النشر للجامات مصر – مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام – ط ثانية 1997م صـــــــ 101

([6]) الإسلام كبديل – د. مراد هوفمان – ترجمة عادل المعلم – دار الشروق – القاهرة – الطبعة الأولى 1997م – صــــــ9

المصدر: الحقيقة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى