كتب وبحوث

الناسخ والمنسوخ بين المكثر والمقل

إعداد: دينا حسن نصير

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتبه الكريم: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة:106] والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فإن الناسخ والمنسوخ من أهم مباحث علوم القرآن التي يجب أن يحيط بها المفسر علماً، لآن معرفة ذلك ذات أهمية كببرة في دراسة القرآن ومعرفة أحكامه ومعانيه.

وقدكان السلف يرون أن معرفة الناسخ والمنسوخ شرطا في أهلية المفسر للتفسير والمحدث للحديث، وقد كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، لا يرضون لأحد أن يتحدث في الدين إلا إذا كان عارفاً وعالماً بالناسخ والمنسوخ من القرآن وقد جاء في الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، بأنه كان يفسر قوله تعالى ﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ بأن الحكمة معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله.

المبحث الأول : تعريف النسخ لغة و اصطلاحًا
النسخ لغة:

النسخ في كلام العرب على وجهين:

أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر.

الثاني: الإبطال والإزالة، وهو منقسم في اللغة على ضربين:

• إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله.

• إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم: نسخت الريح الأثر.[1]

النسخ اصطلاحًا:

أقرب وأنسب تعريف هو: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي.

• ومعنى رفع الحكم الشرعي: قطع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو فإنه أمر واقع والواقع لا يرتفع والحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين.

• والدليل الشرعي هو وحي الله مطلقا متلوا أو غير متلو فيشمل الكتاب والسنة أما القياس والإجماع ففي نسخهما والنسخ بهما كلام.

و يتضح مما سبق أنه لا بد في تحقق النسخ من أمور أربعة:

أولها: أن يكون المنسوخ حكماً شرعياً.

ثانيها: أن يكون دليل رفع الحكم دليلاً شرعياً.

ثالثها: أن يكون هذا الدليل الرافع متراخيا عن دليل الحكم الأول غير متصل به كاتصال القيد بالمقيد والتأقيت بالمؤقت.

رابعها: أن يكون بين ذينك الدليلين تعارض حقيقي.

فتلك أربعة لا بد منها لتحقيق النسخ باتفاق جمهور الباحثين.[2]

المبحث الثاني : أهمية النسخ

لهذا المبحث أهمية خاصة وذلك من وجوه خمسة:

أولها أنه طويل الذيل كثير التفاريع متشعب المسالك.

ثانيها أنه تناول مسائل دقيقة كانت مثارا لخلاف الباحثين من الأصوليين الأمر الذي يدعو إلى اليقظة والتدقيق وإلى حسن الاختيار مع الإنصاف والتوفيق.

ثالثها أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين قد اتخذوا من النسخ في الشريعة الإسلامية أسلحة مسمومة طعنوا بها في صدر الدين الحنيف ونالوا من قدسية القرآن الكريم ولقد أحكموا شراك شبهاتهم واجتهدوا في ترويج مطاعنهم حتى سحروا عقول بعض المنتسبين إلى العلم والدين من المسلمين فجحدوا وقوع النسخ وهو واقع وأمعنوا في هذا الجحود الذي ركبوا له أخشن المراكب من تمحلات ساقطة وتأويلات غير سائغة.

رابعها أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ بكشف النقاب عن سير التشريع الإسلامي ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشر وابتلائه للناس مما يدل دلالة واضحة على أن نفس محمد النبي الأمي لا يمكن أن تكون المصدر لمثل هذا القرآن ولا المنبع لمثل هذا التشريع إنما هو تنزيل من حكيم حميد.

خامسها أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام وفي الاهتداء إلى صحيح الأحكام خصوصا إذا ما وجدت أدلة متعارضة لا يندفع التناقض بينها إلا بمعرفة سابقها من لاحقها وناسخها من منسوخها ولهذا كان سلفنا الصالح يعنون بهذه الناحية يحذقونها ويلفتون أنظار الناس إليها ويحملونهم عليها حتى لقد جاء في الأثر أن ابن عباس رضي الله عنهما فسر الحكمة في قوله تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾ بمعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وورد أن عليا كرم الله وجهه دخل المسجد فإذا رجل يخوف الناس فقال ما هذا قالوا رجل يذكر الناس فقال ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان ابن فلان فاعرفوني فأرسل إليه فقال أتعرف الناسخ ومن المنسوخ قال لا قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه وروي أنه كرم الله وجهه مر على قاص فقال أتعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت يريد أنه عرض نفسه وعرض الناس للهلاك ما دام أنه لا يعرف الناسخ من المنسوخ.[3]

المبحث الثالث : أدلة ثبوت النسخ

أدلة جواز النسخ عقلاً:

أما أدلة جوازه العقلي فأربعة إجمالا ولا يضير بعضها أن يكون دليلا على الجواز والوقوع معاً.

الدليل الأول أن النسخ لا محظور فيه عقلاً وكل ما كان كذلك جائز عقلاً.

فأهل السنة يقولون إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده ولكن ليس معنى هذا انه عابث أو مستبد أو ظالم بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم:﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾، ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ ﴾، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾.

والنسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.كيف يكون محظور عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال.

الدليل الثاني وهو دليل إلزامي للمنكرين أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته لكنهم يجوزون هذا عقلا ويقولون بوقوعه سمعا فليجوزوا هذا لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ وهذا ليس بفارق مؤثر.

الدليل الثالث أن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية وإذن فالنسخ جائز وواقع.

الدليل الرابع ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة.[4]

الأدلة السمعية على ثبوت النسخ:

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 106] فهذا نص ظاهر في جواز النّسخ للقرآن بالقرآن، والمعنى على قراءة الجماعة: أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه ويقول: ما نرفع من حكم آية ونبقي تلاوتها أو ننسكها يا محمد فلا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها هي أصلح لكم وأسهل في التعبّد، أو نأت بمثلها في العمل وأعظم في الأجر. [5]

الآية الثانية: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 101، 102].

قال ابن جرير الطبري في تفسيره للآية: “يقول تعالى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية، فأبدلنا مكانه حكم أخرى، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: 101]: يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغيِّر من أحكامه، قالوا: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ﴾ [النحل: 101] يقول: قال المشركون بالله، المكذِّبو رسوله لرسوله: إنما أنت يا محمد مفترٍ؛ أي: مكذب، تتخرَّص بتقوُّلِ الباطل على الله، يقول الله تعالى: بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ ﴾ جهَّالٌ، بأنَّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه، لا يعلمون حقيقة صحته”[6]

وقد أجمع المسلمون على جوازه ( أي النسخ )، وأنكره اليهود ظنا منهم أنه بداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له، وهو باطل؛ لأنه بيان مدة الحكم كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بداء، هكذا الأمر والنهي.[7]

المبحث الرابع : شروط النسخ

للنسخ شروط:

1- أن يكون المنسوخ شرعيا لا عقليا.

2- أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ، متأخرا عنه، فإن المقترن كالشرط، والصفة، والاستثناء لا يسمى نسخا بل تخصيصا.

3- أن يكون النسخ بشرع، فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخا، بل هو سقوط تكليف.

4- أن لا يكون المنسوخ مقيدا بوقت، أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخا له.

5- أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة، أو أقوى منه، لا إذا كان دونه في القوة؛ لأن الضعيف لا يزيل القوي.

قال إلكيا: وهذا مما قضى به العقل، بل دل الإجماع عليه، فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد.

6- أن يكون المقتضى للمنسوخ غير المقتضى للناسخ، حتى لا يلزم البداء كذا قيل.

قال إلكيا: ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ، متناولا لما تناوله المنسوخ، أعني بالتكرار والبقاء، ( إذ لا يمتنع ) فهم البقاء بدليل آخر سوى اللفظ.

7- أن يكون مما يجوز نسخه، فلا يدخل النسخ أصل التوحيد؛ لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال، ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت.

قال سليم الرازي: وكل ما لا يكون إلا على صفة واحدة، كمعرفة الله، ووحدانيته، ونحوه فلا يدخله النسخ، ومن هاهنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار، إذ لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبر به الصادق، وكذا قال إلكيا الطبري وقال: الضابط فيما ينسخ ما يتغير حاله من حسن إلى قبح.

قال الزركشي: واعلم أن في جواز نسخ الحكم المعلق بالتأبيد وجهين، حكاهما الماوردي، والروياني، وغيرهما.

أحدهما: المنع؛ لأن صريح التأييد مانع من احتمال النسخ.

والثاني: الجواز، قالا: وأنسبهما الجواز، قال ونسبه ابن برهان إلى معظم العلماء، ونسبه أبو الحسين في المعتمد إلى المحققين، قال: لأن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في لفظ الأمر المبالغة لا الدوام.[8]

المبحث الخامس : بما يُعرف النسخ
دلائل النسخ إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان، ولم يمكن استعمالهما استدل على نسخ أحدهما بأمور:

أحدها: اقتضاء اللفظ له، بأن يعلم تقدم أحد الحكمين على الآخر، فيكون المتقدم منسوخا، والمتأخر ناسخا. قال الماوردي: المراد بالتقدم التقدم في التنزيل، لا التلاوة، فإن العدة بأربعة أشهر سابقة في التلاوة على العدة بالحول، مع أنها ناسخة لها، واقتضاء اللفظ إما بالتصريح كقوله: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ﴾ [الأنفال: 66] فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة بقوله: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 187] فإنه يقتضي نسخ الإمساك بعد الفطر، وقوله: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ [المجادلة: 13] الآية فإنه يقتضي نسخ الصدقة عند المناجاة، وإما بأن يذكر لفظ يتضمن التنبيه على النسخ، كما نسخ الإمساك في البيوت حد الزنى بقوله: ﴿ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 15] فنبه على عدم الاستدامة في الإمساك، ولذلك قال: {خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا}، وإما بالاستدلال بأن تكون إحدى الآيتين مكية، والأخرى مدنية فعلم أن المنزل بالمدينة ناسخ للمنزل بمكة. قاله أبو إسحاق المروزي وغيره.

الثاني: بقوله عليه السلام: هذا ناسخ أو ما في معناه، كقوله: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها”.

الثالث: فعل النبي صلى الله عليه وسلم كرجم ماعز، ولم يجلده، يدل على أن قوله: (الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة) منسوخ، ذكره ابن السمعاني، ثم قال: وقد قالوا: إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين، وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول، فيكون القول منسوخا بمثله من القول، لكن فعله بين ذلك القول.

الرابع: إجماع الصحابة، كنسخ رمضان صوم يوم عاشوراء، ونسخ الزكاة سائر الحقوق في المال، ذكره ابن السمعاني أيضا، وكذا حديث: “من غل صدقته، فإنا آخذوها وشطر ماله” واتفقت الصحابة على ترك استعمالهم هذا، فدل عدولهم عنه على نسخه.

الخامس: نقل الراوي الصحابي تقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر، إذ لا مدخل للاجتهاد فيه، كما لو روي أن أحدهما شرع بمكة، والآخر بالمدينة، أو أحدهما عام بدر والآخر عام الفتح، فإن وجد مثال هذا فلا بد أن يكون المتأخر ناسخا للمتقدم، كقول جابر: “كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار”، وكقول أبي بن كعب: كان “الماء من الماء” رخصة في أول الإسلام، ثم أمر بالغسل، كذا قاله ابن السمعاني وغيره.[9]

طرق معرفة الناسخ من المنسوخ:

لا بد في تحقيق النسخ من ورود دليلين عن الشارع وهما متعارضان تعارضا حقيقيا لا سبيل إلى تلافيه بإمكان الجمع بينهما على أي وجه من وجوه التأويل وحينئذ فلا مناص من أن نعتبر أحدهما ناسخا والآخر منسوخا دفعا للتناقض في كلام الشارع الحكيم ولكن أي الدليلين يتعين أن يكون ناسخا وأيهما يتعين أن يكون منسوخا هذا ما لا يجوز الحكم فيه بالهوى والشهوة بل لا بد من دليل صحيح يقوم على أن أحدهما متأخر عن الآخر وإذن فيكون السابق هو المنسوخ واللاحق هو الناسخ ولنا إلى هذا الدليل مسالك ثلاثة:

أولها أن يكون في أحد النصين ما يدل على تعيين المتأخر منهما نحو قوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة: 13] ونحو قوله: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66] ونحو قوله صلى الله عليه وسلم:”كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجرا”.

ثانيها أن ينعقد إجماع من الأمة في أي عصر من عصورها على تعيين المتقدم من النصين والمتأخر منهما.

ثالثها أن يرد من طريق صحيحة عن أحد من الصحابة ما يفيد تعيين أحد النصين المتعارضين للسبق على الآخر أو التراخي عنه كأن يقول نزلت هذه الآية بعد تلك الآية أو نزلت هذه الآية قبل تلك الآية أو يقول نزلت هذه عام كذا وكان معروفا سبق نزول الآية التي تعارضها أو كان معروفا تأخرها عنها.

أما قول الصحابي هذا ناسخ وذاك منسوخ فلا ينهض دليلا على النسخ لجواز أن يكون الصحابي صادرا في ذلك عن اجتهاد أخطأ فيه فلم يصب فيه عين السابق ولا عين اللاحق وكذلك لا يعتمد في معرفة الناسخ والمنسوخ على المسالك الآتية:

• اجتهاد المجتهد من غير سند لأن اجتهاده ليس بحجة.

• قول المفسر هذا ناسخ أو منسوخ من غير دليل لأن كلامه ليس بدليل.

• ثبوت أحد النصين قبل الآخر في المصحف لأن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول.

• أن يكون أحد الروايين من أحداث الصحابة دون الراوي للنص الآخر فلا يحكم بتأخر حديث الصغير عن حديث الكبير لجواز أن يكون الصغير قد روى المنسوخ عمن تقدمت صحبته ولجوز أن يسمع الكبير الناسخ من الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن يسمع الصغير منه المنسوخ إما إحالة على زمن مضى وإما لتأخر تشريع الناسخ والمنسوخ كليهما.
– أن يكون أحد الروايين أسلم قبل الآخر فلا يحكم بأن ما رواه سابق الإسلام منسوخ وما رواه المتأخر عنه ناسخ لجواز أن يكون الواقع عكس ذلك. – أن يكون أحد الراويين قد انقطعت صحبته لجواز أن يكون حديث من بقيت صحبته سابقا حديث من انقطعت صحبته.

• أن يكون أحد النصين موافقا للبراءة الأصلية دون الآخر فربما يتوهم أن لها هو السابق والمتأخر عنها هو اللاحق مع أن ذلك غير لازم لأنه لا مانع من تقدم ما خالف البراءة الأصلية على ما وافقها مثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا وضوء مما مست النار” فإنه لا يلزم أن يكون سابقا على الخبر الوارد بإيجاب الوضوء مما مست النار ولا يخلو وقوع هذا من حكمة عظيمة هي تخفيف الله من عباده بعد أن ابتلاهم بالتشديد.[10]

المبحث السادس : أقسام النسخ

والنسخ أربعة أقسام:

القسم الأول: نسخ القرآن بالقرآن: وهذا القسم متفق على جوازه ووقوعه من القائلين بالنسخ، فآية الاعتداد بالحول مثلا نسخت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشر.

القسم الثاني: نسخ القرآن بالسنة: وتحت هذا نوعان:

أ- نسخ القرآن بالسنة الآحادية. والجمهور على عدم جوازه. لأن القرآن متواتر يفيد اليقين، والآحادي مظنون، ولا يصح رفع المعلوم بالمظنون.

ب- ونسخ القرآن بالسنة المتواترة. وقد أجازه مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، لأن الكل وحي. قال تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

وقال: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم، والنسخ نوع من البيان – ومنعه الشافعي وأهل الظاهر وأحمد في الرواية الأخرى، لقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، والسنة ليست خيرا من القرآن ولا مثله.

القسم الثالث: نسخ السنة بالقرآن، ويجيزه الجمهور، فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليه، وقد نسخ بالقرآن في قوله: ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، ووجوب صوم يوم عاشوراء كان ثابتا بالسنة ونسخ بقوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]..

ومنع هذا القسم الشافعي في إحدى روايتيه، وقال: “وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن، أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة تبين توافق الكتاب والسنة”.

القسم الرابع: نسخ السنة بالسنة، وتحت هذا أربعة أنواع:

1- نسخ متواترة بمتواترة، 2- ونسخ آحاد بآحاد، 3- ونسخ آحاد بمتواترة، 4- ونسخ متواترة بآحاد.

• والثلاثة الأولى جائزة – أما النوع الرابع ففيه الخلاف الوارد في نسخ القرآن بالسنة الآحادية، والجمهور على عدم جوازه.

أما نسخ كل من الإجماع والقياس والنسخ بهما فالصحيح عدم جوازه. “[11]

قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب:

الأول: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة، كأمر الخليل بذبح ولده، وكقوله تعالى: ﴿ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ [المجادلة: 12] ثم نسخه سبحانه بقوله: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ ﴾ (المجادلة:13).

الثاني: ويسمى نسخا تجوزا، وهو ما أوجبه الله على من قبلنا كحتم القصاص ولذلك قال عقب تشريع الدية: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [البقرة: 178] وكذلك ما أمرنا الله به أمرا إجماليا ثم نسخ، كنسخه التوجه إلى بيت الله المقدس بالكعبة، فإن ذلك كان واجبا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله، وكنسخ صوم يوم عاشوراء برمضان.

الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء، كما قال تعالى: ( أو ننسأها ) ( البقرة: 106 ) فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا. وإلى هذا أشار الشافعي في ( الرسالة ) إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته؛ حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي.[12]

المبحث السابع : أنواع النسخ

النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنوع ثلاثة نسخ التلاوة والحكم معا ونسخ الحكم دون التلاوة ونسخ التلاوة دون الحكم.

1- نسخ الحكم والتلاوة جميعا فقد أجمع عليه القائلون بالنسخ من المسلمين ويدل على وقوعه سمعا ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن وهو حديث صحيح وإذا كان موقوفا على عائشة رضي الله عنها فإن له حكم المرفوع لأن مثله لا يقال بالرأي بل لا بد فيه من توقيف وأنت خبير بأن جملة عشر رضعات معلومات يحرمن ليس لها وجود في المصحف حتى تتلى وليس العمل بما تفيده من الحكم باقيا وإذن يثبت وقوع نسخ التلاوة والحكم جميعا وإذا ثبت وقوعه ثبت جوازه لأن الوقوع أول دليل على الجواز وبطل مذهب المانعين لجوازه شرعا كأبي مسلم وأضرابه.[13]

قال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19] ولا يعرف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا توفي لا يكون متلوا في القرآن؛ أو يموت وهو متلو موجود في الرسم، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم، وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.[14]

2- نسخ الحكم دون التلاوة فيدل على وقوعه آيات كثيرة: منها أن آية تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي قوله تعالى: َ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ منسوخة بقوله سبحانه: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ على معنى أن حكم الآية الأولى منسوخ بحكم الآية الثانية مع أن تلاوة كلتيهما باقية.

ومنها أن قول سبحانه: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ منسوخ بقوله سبحانه: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ على معنى أن حكم تلك منسوخ بحكم هذه مع بقاء التلاوة في كلتيهما.[15]

وهنا سؤال، وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة ؟

والجواب: من وجهين: أحدهما: أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به، فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.

وثانيهما: أن النسخ غالبا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة، وأما حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر.[16]

3- نسخ التلاوة دون الحكم فيدل على وقوعه ما صحت روايته عن عمر ابن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا كان فيما أنزل من القرآن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة اه- وأنت تعلم أن هذه الآية لم يعد لها وجود بين دفتي المصحف ولا على ألسنة القراء مع أن حكمها باق على إحكامه لم ينسخ.

ويدل على وقوعه أيضا ما صح عن أبي بن كعب أنه قال كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة أو أكثر مع أن هذا القدر الكبير الذي نسخت تلاوته لا يخلو في الغالب من أحكام اعتقادية لا تقبل النسخ.

ويدل على وقوعه أيضا الآية الناسخة في الرضاع وقد سبق ذكرها في النوع الأول.[17]

النسخ ببدل وبغير بدل:

الحكم الشرعي الذي ينسخه الله إما أن يحل سبحانه محله آخر أو لا فإذا أحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ ببدل وإذا لم يحل محله حكما آخر فذلك هو النسخ بغير بدل وكلاهما جائز عقلا وواقع سمعا على رأي الجمهور.

مثال النسخ ببدل أن الله تعالى نهى المسلمين أول الأمر عن قتال الكفار ورغبهم في العفو والصفح بمثل قوله سبحانه: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].

ثم نسخ الله هذا النهي وأذنهم بالجهاد فقال: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 39 – 41].

ثم شدد الله وعزم عليهم في النفير للقتال وتوعدهم إن لم ينفروا فقال: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 39، 40].

نسخ الحكم ببدل أخف أو مساو أو أثقل: النسخ إلى بدل يتنوع إلى أنواع ثلاثة:

أولها النسخ إلى بدل أخف على نفس المكلف من الحكم السابق كنسخ تحريم الأكل والشرب والجماع بعد النوم في ليل رمضان بإباحة ذلك إذ قال سبحانه: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187].

ثانيها النسخ إلى بدل مساو للحكم الأول في خفته أو ثقله على نفس المكلف كنسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة في قوله سبحانه: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144].

وهذان النوعان لا خلاف في جوازهما عقلا ووقوعهما سمعا عند القائلين بالنسخ كافة.

ثالثها النسخ إلى بدل أثقل من الحكم المنسوخ وفي هذا النوع يدب الخلاف فجمهور العلماء يذهبون إلى جوازه عقلا وسمعا كالنوعين السابقين ويستدلون على هذا بأمثلة كثيرة تثبت الوقوع السمعي وهو أدل دليل على الجواز العقلي كما علمت من تلك الأمثلة أن الله تعالى نسخ إباحة الخمر بتحريمها ومنها أنه تعالى نسخ ما فرض من مسالمة الكفار المحاربين بما فرض من قتالهم: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾. ومنها أن حد الزنى كان في فجر الإسلام لا يعدو التعنيف والحبس في البيوت ثم نسخ ذلك بالجلد والنفي في حق البكر وبالرجم في حق الثيب ومنها أن الله تعالى فرض على المسلمين أولا صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان كله مع تخيير الصحيح المقيم بين صيامه والفدية ثم نسخ سبحانه هذا التخيير بتعيين الصوم على هذا الصحيح المقيم إلزاما.[18]

المبحث الثامن : الناسخ والمنسوخ بين المكثر والمقل

العلماء في موقفهم من الناسخ والمنسوخ يختلفون بين مقصر ومقتصد وغال فالمقصرون هم الذين حاولوا التخلص من النسخ إطلاقا سالكين به مسلك التأويل بالتخصيص ونحوه كأبي مسلم ومن وافقه وقد بينا الرأي في هؤلاء سابقا.

والمقتصدون هم الذين يقولون بالنسخ في حدوده المعقولة فلم ينفوه إطلاقا كما نفاه أبو مسلم وأضرابه ولم يتوسعوا فيه جزافا كالغالين بل يقفون به موقف الضرورة التي يقتضيها وجود التعارض الحقيقي بين الأدلة مع معرفة التقدم منها والمتأخر.

والغالون هم الذين تزيدوا فأدخلوا في النسخ ما ليس منه بناء على شبه ساقطة ومن هؤلاء أبو جعفر النحاس في كتابه الناسخ والمنسوخ وهبة الله بن سلامة، وأبو عبد الله محمد بن حزم وغيرهم فإنهم ألفوا كتبا في النسخ أكثروا فيها من ذكر الناسخ والمنسوخ اشتباها منهم وغلطا ومنشأ تزيدهم هذا أنهم انخدعوا بكل ما نقل عن السلف أنه منسوخ وفاتهم أن السلف لم يكونوا يقصدون بالنسخ هذا المعنى الاصطلاحي بل كانوا يقصدون به ما هو أعم منه مما يشمل بيان المجمل وتقييد المطلق ونحوها.

منشأ غلط المتزيدين:

ونستطيع أن نرد أسباب هذا الغلط إلى أمور خمسة:

أولها ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال سببه من المنسوخ وعلى هذا عدوا الآيات التي وردت في الحث على الصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين وقلتهم منسوخة بآيات القتال مع أنها ليست منسوخة بل هي من الآيات التي دارت أحكامها على أسباب فالله أمر المسلمين بالصبر وعدم القتال في أيام ضعفهم وقلة عددهم لعلة الضعف والقلة ثم أمرهم بالجهاد في أيام قوتهم وكثرتهم لعلة القوة والكثرة وأنت خبير بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما وأن انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا بدليل أن وجوب التحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما إلى اليوم وأن وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك إلى اليوم.

ثانيها توهمهم أن إبطال الإسلام لما كان عليه أهل الجاهلية من قبيل ما نسخ الإسلام فيه حكما بحكم كإبطال نكاح نساء الآباء وكحصر عدد الطلاق في ثلاث وعدد الزواج في أربع بعد أن لم يكونا محصورين مع أن هذا ليس نسخا لأن النسخ رفع حكم شرعي وما ذكروه من هذه الأمثلة ونحوها رفع الإسلام فيه البراءة الأصلية وهي حكم عقلي لا شرعي.

ثالثها اشتباه التخصيص عليهم بالنسخ كالآيات التي خصصت باستثناء أو غاية مثل قوله سبحانه: ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا… ﴾ [الشعراء: 224 – 227] ومثل قوله: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [البقرة: 109].

رابعها اشتباه البيان عليهم بالنسخ في مثل قوله سبحانه: ﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [النساء: 6] فإن منهم من توهم أنه ناسخ لقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾ [النساء: 10] مع أنه ليس ناسخا له وإنما هو بيان لما ليس بظلم وببيان ما ليس بظلم يعرف الظلم وبضدها تتميز الأشياء.

خامسها توهم وجود تعارض بين نصين على حين أنه لا تعارض في الواقع وذلك مثل قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، وقوله: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ فإن بعضهم توهم أن كلتا الآيتين منسوخة بآية الزكاة لتوهمه أنها تعارض كلا منهما على حين أنه لا تعارض ولا تنافي لأنه يصح حمل الإنفاق في كلتا الآيتين الأوليين على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقارب ونحو ذلك وتكون آية الزكاة معهما من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام ومثل هذا لا يقوى على تخصيص العام فضلا عن أن ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا.[19]

المبحث التاسع : بيان الناسخ والمنسوخ من آي الذكر الحكيم

نظم الإمام السيوطي – رحمه الله – الآيات المنسوخة في القرآن، وقد وضع عليها الإمام الشنقيطي – رحمه الله – شرحاً لها، وهذا نسخ للأبيات مع شرحها.

قال الإمام السيوطي – رحمه الله – في الإتقان في علوم القرآن:

فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة، على خلاف في بعضها، لا يصح دعوى النسخ في غيرها.

والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشر، ويضم إليها قوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله. على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية. فتمت عشرون.

المصادر:

1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي – دار الفكر

2- مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني – دار الكتاب العربي

3- الإيضاح لناسخ القرآن و منسوخه لمكي بن أبي طالب القيسي – دار المنارة

4- جامع البيان عن تأويل آي القرآن ( تفسير الطبري ) – دار المعارف

5- الإتقان في علوم القرآن للسيوطي – دار الكتاب العربي

6- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني – دار السلام

7- البحر المحيط للزركشي – دار الكتبي

8- البرهان في علوم القرآن للزركشي – دار المعرفة

9- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين الشنقيطي – دار الفكر


[1] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ص 61 ( بتصرف ).

[2] مناهل العرفان ص 138 ( بتصرف ).

[3] مناهل العرفان ص136.

[4] مناهل العرفان ص 148 ( بتصرف ).

[5] الإيضاح لناسخ القرآن و منسوخه ص 62.

[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري ج 17/ ص 297.

[7] الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج1/ 648.

[8] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني ج 2/ ص540.

[9] البحر المحيط للزركشي ج 5/ ص 318.

[10] مناهل العرفان 163.

[11] مباحث في علوم القرآن ص 243.

[12] البرهان في علوم القرآن للزركشي ج 2 ص 173.

[13] مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج2 / ص167.

[14] البرهان في علوم القرآن ج 2/ ص 170.

[15] مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج2 / ص167.

[16] البرهان في علوم القرآن ج 2/ ص 170.

[17] مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني ج2 / ص167.

[18] مناهل العرفان ج2 / ص 171.

[19] مناهل العرفان ج 2/ ص 197.

المصدر: موقع الألوكة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى