كتاباتكتابات مختارة

المفتي الأوّل لسوريا بعد الاستقلال محمّد عطا الله الكسم.. مواجهاتٌ ومبادرات

المفتي الأوّل لسوريا بعد الاستقلال محمّد عطا الله الكسم.. مواجهاتٌ ومبادرات

بقلم محمد خير موسى

في حيّ مئذنة الشّحم داخل أسوار دمشق العتيقة ولدّ الشّيخ محمد عطا الله الكسم سنة 1844م، وكعادة الدّمشقيين كان والده يعمل بالتّجارة، فأرسله إلى حلقات العلم المسجديّة فنهل العلم على أيدي كبار العلماء آنذاك منهم الشّيخ عبد الغني الغُنَيْمي المَيْداني من فقهاء الحنفيّة وأحد شرّاح “العقيدة الطّحاويّة”، غير أنّ أشهر شيوخه هو الشّيخ سليم العطّار الذي يلقّبه كثير من علماء دمشق المعاصرين أنّه “شيخُ شيوخ الشّام” وقد لازمه الكسم مدة سبعة عشر عامًا ملازمةً تامّة.

  • في مواجهة جمال باشا السّفّاح

كان الموقف الذي علا فيه ذكر الشّيخ محمد عطا الله الكسم، وكان سببًا في انتشار صيته، ونيله مكانةً عاليةً في نفوس النّاس سواء في ذلك خاصّتهم من العلماء أو عامّتهم من الجماهير هو موقفه من قرار جمال باشا السّفّاح قائد الجيش العثماني الرّابع وأحد أقطاب جمعيّة الاتحاد والترقّي الحكم بإعدام مجموعةٍ من الشّخصيّات في دمشق وبيروت بتهمة الخيانة العظمى والعمالة للسّفارة الفرنسيّة؛ إذ أرسل الشّيخ الكسم رسالةً إلى جمال باشا يحذّره فيها من إعدام هؤلاء الأشخاص، كما أنّه أعلن في المحافل العامّة اعتراضه على إعدامهم، في موقفٍ مناقضٍ تمامًا حينها لموقف مفتي دمشق وولاية سوريا الشّيخ أبو الخير عابدين.

كان الشّيخ عطا الله الكسم يرى أنّ هؤلاء الأشخاص هم مجرّد ضحايا لمؤامرة ولعبة دوليّة تستهدف الإسلام، وكان يؤكّد أن إعدامهم سيكون له تداعيات خطيرة على المجتمع السّوري كونهم من الشخصيّات المعروفة والمؤثّرة في الواقع السّوري.

لم يعبأ جمال باشا بنداءات الشّيخ عطا الله الكسم ومناشداته وتمّ تنفيذ حكم الإعدام فيهم شنقًا يوم السّادس من أيّار عام 1916م في كل من ساحة المرجة في دمشق وساحة النّجمة في بيروت.

من الواضح أنّ هذا الموقف أدّى إلى نقمة الشّيخ عطا الله الكسم على حكومة الاتحاد والترقّي، فكان من أوائل المرحّبين بدخول الملك فيصل إلى دمشق عام 1918م، وبايعه حاكمًا عربيًّا لسوريا بصفته ممثلًا عن والده الشريف حسين بن علي “قائد الثّورة العربية الكبرى”.

  • مفتيًا لسوريا

في الحادي عشر من أيّار “مايو” عام 1919م، أعلن الأمير فيصل تسمية الشّيخ محمد عطا الله الكسم مفتيًا لسوريا خلفًا للشّيخ “أبو الخير عابدين” الذي عزله الأمير فيصل من منصبه نقمةً عليه بسبب موعظته له ومواقفه السّابقة من العثمانيين وكونه “عثمانيّ الهوى” وكذلك بسبب موقفه المؤيّد لقرار جمال باشا السّفاح إعدام الشخصيّات السوريّة عام 1916م.

وقد وقع الاختيار على الشّيخ محمد عطا الله الكسم بسبب علمه الغزير وعلوّ قدره بين العلماء من جهة، ولمواقفه الرّافضة لسياسات حكومة الاتحاد والترقّي ومجابهته قرارات جمال باشا السفّاح من جهةٍ ثانية.

بهذا يكون الشّيخ محمد عطا الله الكسم المفتي الأول لسوريا الدّولة التي تعلن استقلالها عن السّلطة العثمانيّة

في الثّامن من آذار “مارس” من عام 1920م أعلن المؤتمر السّوري العام استقلال سوريا تحت اسم “المملكة العربيّة السّوريّة” لتكون أوّل دولةٍ تعلن استقلالها عن الحكم العثماني، كما تمّ إعلان تنصيب فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا، وبهذا يكون الشّيخ محمد عطا الله الكسم المفتي الأول لسوريا الدّولة التي تعلن استقلالها عن السّلطة العثمانيّة، وقد كان المفتي الكسم هو أحد المشرفين على تتويج فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا.

  • معركة ميسلون وسياسات غورو

في الرّابع عشر من تموز “يونيو” أرسل الجنرال الفرنسي غورو إنذارًا إلى الملك فيصل فيما اشتهر بعد ذلك باسم “إنذار غورو” طالبه فيه بقبول الانتداب الفرنسي على سوريا بشكل رسمي، وما يترتب على ذلك من أمورٍ منها قبول العملة الورقية التي أصدرتها فرنسا والسماح بالتعامل بها في المنطقة الداخلية، وإلغاء التجنيد الإجباري، ومعاقبة الثّوار الذين يقاتلون الفرنسيّين.

وافق الملك فيصل على الإنذار وشرع بتنفيذ بنوده فعلًا غير أنّ الجنرال غورو تعذّر بأنّ الموافقة الفيصليّة وصلت عقب انتهاء المدّة الممنوحة لقبول الإنذار، وبدأ الجيش الفرنسي تحرّكه باتّجاه دمشق لاحتلالها.

لم يكن هناك بدّ من المواجهة، وهنا بدأ الشّيخ محمد عطا الله الكسم تحرّكًا كبيرًا وبذل مجهودًا جبّارًا في حشد المقاتلين والمتطوعين لمواجهة الجيش الفرنسي الذي يقوده غورو لاحتلال دمشق.

كان خطباء المساجد وأئمتها في مقدّمة من استجابوا لتحشيد الشّيخ محمّد عطا الله الكسم وانضمّوا إلى جيش وزير الحربيّة يوسف العظمة، وكان من أشهر هؤلاء أحد أكبر علماء دمشق العلّامة محمّد سعيد البرهاني الذي شارك في معركة ميسلون في الرّابع والعشرين من تمّوز “يونيو” 1920م، والتي دخل عقبها غورو دمشق محتلًّا وخلع الملك فيصل وأعلن خضوع دمشق وسوريا للانتداب الفرنسي.

أعلن المفتي عطا الله الكسم من اللّحظة الأولى للانتداب الفرنسي معارضته لنظام الانتداب وأفتى بوجوب مجابهته بوصفه احتلالًا لسوريا، غير أنّ الجنرال غورو لم يقم بعزله، وبقي الشّيخ الكسم مفتيًا، وذلك في تقديري لسببين اثنين:

الأوّل: عزل المفتي الكسم سيثير الحاضنة الشّعبيّة ويؤجّج الثّورة وهو ما كان غورو يحاول تفاديه.

الثّاني: حرص سلطة الانتداب الفرنسي ألّا تظهر بصورة المحارِب للدّين وشعائره في فترة الاحتلال الفرنسي لا سيما في سنينه الأولى.

وفي الثّالث من أيلول “سبتمر” عام 1920م قام غورو بتقسيم سوريا إلى ست دويلات، ومنها دولة دمشق التي استمرّت حتّى نهايات عام 1922م إلى أن أعلنت دولة الاتحاد السوري التي تضمّ دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين، واستمرّت إلى حين قيام الجمهوريّة السّوريّة عام 1932م وانتخاب محمد علي العابد رئيسًا لها، وبقي الشّيخ الكسم مفتيًا في هذه المراحل كلّها.

  • السّعي إلى إقامة الخلافة

في الثّالث من آذار “مارس” عام 1924م أعلن مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة، وعلى إثر ذلك شهدت حواضر العالم الإسلاميّ المختلفة في القاهرة دمشق والمغرب وصولًا إلى الهند تحرّكات من العلماء لملء الفراغ واستعادة الخلافة التي يمثّل إلغاؤها نكبةً كبرى في التصوّر الإسلامي.

كان المفتي الشّيخ محمد عطا الله الكسم من أوائل المتحرّكين في هذا الشّأن في سوريا، ففي الشّهر نفسه آذار “مارس” الذي ألغيت فيه الخلافة وبعد أيامٍ قلائل أعلن في دمشق عن تأسيس “جمعيّة الخلافة”.

كان الشّيخ الكسم أوّل المبادرين لتأسيسها، ومعه الأمير محمد سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر، ورئيس مجلس الشورى بديع مؤيد العظم، ونقيب الأشراف الشيخ أحمد الحسيبي، وأمين الفتوى الشيخ عبد المحسن الأسطواني، واتخذوا شعارًا لجمعيتهم، العبارة التي كانت محفورة على خاتم أول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق رضي الله عنه “ونعم القادر الله”.

أصدرت السلطات السورية حينها ترخيصًا للجمعية مشترطةً عليها أن يكون عملها ضمن الشروط والقوانين الناظمة، وأن يكون بحثها عِلميًا ومنهجيًا، وأن تكون منفتحةً على سائر البلدان وليس فقط على المدن السورية.

أشهرت الجمعية في الجريدة الرسمية وحضر حفل التدشين، في قصر آل الجزائري في زقاق النقيب بحيّ العمارة، أول رئيس للدولة السورية التي تأسست في ظلّ الانتداب الفرنسي صبحي بركات.

  • الرّحيل والأبناء

استمرّ الشّيخ محمد عطا الله الكسم مفتيًا لسوريا إلى عام 1938م، حيث أدركته الوفاة يوم الرّابع من آب “أغسطس” عن أربعةٍ وتسعين عامًا.

أنجب المفتي الكسم ثلاثة من الأبناء كان لهم حضور فاعل في الحياة السّياسيّة السوريّة عقب ذلك.

أشهرهم الدكتور عبد الرّؤوف الكسم أحد قيادات حزب البعث ومحافظ دمشق عام 1979م ثمّ رئيس الوزراء في عهد حافظ الأسد ما بين عام 1980م و1988م.

والدّكتور محمّد بديع الكسم أحد مؤسّسي حزب البعث في سوريا وأحد المنظرين للفكر القومي.

والثّالث هو الدّكتور القانوني بدر الكسم الذي عمل في الأمم المتحدة وله العديد من الأبحاث القانونيّة.

وأمّا حفيده ابن ابنته وسيلة فهو الشّيخ عبد الرّزّاق الحلبي أحد أبرز رموز العلماء وأعمدة جماعة الفتح الإسلامي.

المصدر: سوريا TV

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى