تقارير وإضاءات

القاديانية .. بين مزالق الهرطقة ومصارع السياسة

القاديانية جماعة دينية ظهرت في الهند أيام الاستعمار البريطاني لها، فادعى مؤسسها أنه نبي يوحى إليه من الله تعالى، وطالب الناس بالانصياع لحكم المستعمر وموالاته. ورغم تأكيدها أنها “طائفة مسلمة” فإن علماء المسلمين كفروها. لها وجود في بعض الدول الإسلامية والعربية، ولكن ميدان عملها الرئيسي في الهند وباكستان والدول الغربية.

النشأة والمعتقدات
تأسست الطائفة القاديانية عام 1889 على يد زعيم ديني هندي من أصل فارسي يدعى ميرزا غلام أحمد القادياني (1839- 19088)، نسبة إلى قرية “قاديان” في مقاطعة البنجاب التي كانت آنذاك جزءا من الهند، قبل أن تصبح ضمن دولة باكستان بعد انفصالها عن الهند عام 19477.

ادعى ميرزا غلام أحمد النبوة وزعم أن الله تعالى أوحى إليه “الكتاب المبين” الذي يحتوي على “عشرة آلاف آية”، واعترف في الوقت نفسه -ولكن على طريقته- بأن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) “هو خاتم الأنبياء ولكنه ليس آخرهم”، كما أنه يقول إن الرسول محمد (ص) كان “نبيا مشرِّعا” أما هو فـ”نبي غير مشرِّع”.

كما ادعى أنه جاءه “الوحي” من الله بتأسيس جماعته لـ”تجديد الإسلام بعد ما اعتراه من جمود وإغلاق لباب الاجتهاد”، معتبرا أنه هو المسيح الموعود والإمام المهدي المنتظر ومجدِّد رأس القرن الرابع عشر الهجري. وقد وضع في شرح أفكاره عشرات المؤلفات منها كتاب “التذكرة” الذي تضمن “الوحي والإلهام” الذي ادعى هبوطه عليه من السماء.

ظهر ميرزا غلام أحمد القادياني في وقت كانت فيه الهند تشتعل بالحركات الجهادية المسلمة الثائرة ضد المستعمر الإنجليزي الذي لم يدخر جهداً في قمعها بكل الوسائل المتاحة له، ومن هنا يشير بعض المؤرخين إلى أن بروزه في مثل تلك الظروف كان له ما يبرره لدى هذا المستعمر، خاصة أنه حرَّم على المسلمين قتال الإنجليز قائلا إنهم “ولاة أمر تجب طاعتهم”.

وفي ذلك يقول في إحدى رسائله إلى الحاكم الإنجليزي في الهند سنة 1898: “لقد ظللت منذ حداثة سني -وقد ناهزتُ الآن الستين- أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية والنصح لها والعطف عليها، وأنفي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جُهال المسلمين، والتي تمنعهم من الإخلاص للإنجليز”.

وأضاف “أنا مؤمن بأنه كلما كثر عدد أتباعي قلَّ شأن الجهاد، إذ يلزم من الإيمان بي وبأني مسيح أو مهدي إنكار الجهاد، وقد ألفت كثيراً في تحريم الجهاد ضد الإنجليز الذين أحسنوا إلينا، والذين تجب علينا طاعتهم بكل إخلاص”.

وبينما يشير مؤرخون إلى وجود “رابطة قوية” تجاريا وسياسيا تجمع بين أسرة القادياني والاستعمار البريطاني في الهند؛ يعلل أتباعه هو موقفه هذا من المستعمر بأن الإنجليز “أنقذوا المسلمين من اضطهاد السيخ الذين كانوا يمنعونهم من ممارسة دينهم، ووفروا لهم الحرية الدينية الكاملة، والحرب باسم الدين إنما تكون ضد من يمنع المسلمين من أن يقولوا ربنا الله، أو يمنعهم من أن يقوموا بشعائرهم الدينية”.

يعتقد القاديانيون أن مدينة قاديان هي “مهبط الوحي” على ميرزا غلام أحمد، ويقدسونها كما يقدس المسلمون مكة والمدينة فيشدون إليها الرحال من جميع أرجاء العالم، إذ يؤمنون بأن المسيح عيسى عليه السلام هاجر إليها وعاش في ربوعها حتى جاوز الثمانين، ثم ذهب إلى كشمير ليعلِّم الإنجيل، وبقي هناك حتى “توفي” فدُفن في عاصمتها سرينغار.

وتحرِّم تعاليم القاديانية على أتباعها الصلاة في مساجد المسلمين، وتمنع دفن المسلمين في مقابر القاديانيين، وتحظر زواج القاديانيات من رجالهم، وذلك بدعوى كفر من لم يؤمن بـ”نبوة” زعيمهم ميرزا غلام أحمد القادياني.

جدل وانتشار
دار حول القاديانية -التي تسمي نفسها “الجماعة الإسلامية الأحمدية”- منذ تأسيسها جدل كبير، لاسيما أنها برزت في عهد الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية ودعت لعدم التصدي له، وذلك في تناقض مع روح وتعاليم الدين الإسلامي الذي يرفض الخضوع للمعتدين المحتلين، ويحث على الشهادة في سبيل الدفاع عن الأرض والكرامة والسيادة.

وفي حين يدّعي القاديانيون أنهم فرقة من فرق المسلمين تختلف في بعض الفروع عن غيرها، فإن علماء العالم الإسلامي وهيئاته الفقهية (مثل مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة التابع لمنظمة العالم الإسلامي)؛ أصدروا فتاوى عديدة نصت على أن أتباع هذا المذهب “خارجون عن الإسلام”.

ومن أبرز الشخصيات السياسية القاديانية حبيب الله شاه الذي عينه الإنكليز حاكما على العراق إثر احتلالهم له بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وظفر الله خان الذي كان أول وزير خارجية لباكستان عند إعلان قيامها، وأقيل عام 1954 إثر احتجاجات طالبت بتنحيه عن منصبه وسقط فيها عشرات الآلاف من القتلى.

تتخذ القاديانية من العاصمة البريطانية لندن مقراً رئيسياً لها، حيث يجتمع فيها كل عام عشرات الألوف من أتباعها قادمين من مختلف أنحاء العالم، فيما يشبه كرنفالاً ضخماً أو موسم حج جامع، ويرددون أثناء اجتماعهم -الذي يستغرق بضعة أيام- ابتهالات وتضرعات بشكل متواصل، ويستمعون إلى مواعظ وإرشادات من علماء الجماعة ودعاتها.

ويشكل هذا اللقاء السنوي فرصة للالتقاء وتقويم مسيرة “الدعوة” على امتداد عام كامل، وفي اليوم الأخير يتجمع الحاضرون في باحة واحدة ويجددون “البيعة على الطاعة المطلقة لخليفة الجماعة”. ويتعهدون بمواصلة نشر دعوتهم وخدمتها بسلسلة كبيرة من المؤسسات التعليمية والصحية والتجارية.

ولنشر دعوتها عبر مختلف أنحاء العالم أنشأت الجماعة القاديانية -خلال تسعينيات القرن العشرين- أول قناة تليفزيونية “إسلامية” تبث برامج ذات طابع ديني على مدار الساعة، وبأكثر من 15 لغة عالمية من بينها اللغة العربية، وتغطي جميع أقطار العالم.

وقد أثار ترخيص الحكومة البريطانية لهذه القناة -في حين رفضت ترخيص قنوات لجهات إسلامية أخرى- علامة استفهام كبيرة لدى الجالية المسلمة في بريطانيا بشأن أهداف الجماعة وعلاقتها بحكومة لندن.

ورغم الإمكانيات المادية الضخمة التي سخرتها القاديانية لنشر مذهبها فإن وجودها يبقى محدوداً في العالمين العربي والإسلامي، ولذا اتجهت خلال العقود الأخيرة إلى تركيز دعوتها في دول الغرب عبر ما تبثه قناتها من برامج، ومن خلال المراكز والمعابد التي تمولها في مختلف العواصم الغربية، وامتداد نفوذها إلى دوائر صنع القرار الكبرى في الدول الغربية.

لكن أتباع فروعها في الدول الإسلامية لا تزال علاقتهم بالأغلبية الإسلامية من حولهم تثير الكثير من التوجس والريبة اللذين يتجليان أحيانا في توتر العلاقة مع السلطات القائمة، أو في أحداث عنف مجتمعي يسقط فيها مئات الأشخاص بين قتيل وجريح.

ففي باكستان -حيث يوجد مهد ولادة الجماعة، وتقول قيادتها إن أتباعها فيها يبلغون أربعة ملايين نسمة- صدر قانون عام 1970 يمنع إطلاق صفة “مسلمين” على أفراد الجماعة وصنفتها “أقلية غير مسلمة”. وفي بنغلاديش -التي يقدر عدد القاديانيين فيها بمئة ألف- حظرت الحكومة مطلع عام 2004 منشورات للجماعة “تفاديا لإثارة مشاعر الأغلبية”، لكن المحكمة العليا علقت قرار الحظر.

وفي إندونيسيا أوصى -في عام 2008- فريق مكون من مسؤولين من وزارتين حكوميتين ومكتب المدعي العام الحكومة بحظر هذه الطائفة، قائلين إن تعاليمها تحيد عن المعتقدات الأساسية للإسلام.

وفي الجزائر فجّر قبض السلطات على تسعة من أتباع القاديانية في مدينة البليدة (يونيو/حزيران 2016) جدلا بشأن حجم وجود الطائفة في البلاد، فبينما قُدّر عددهم بنحو ألف منتسب، أعلنت زعامة الطائفة في الخارج أن الذين اعتنقوا فكرها من الجزائريين بلغ خمسة آلاف.

وقد أعلنت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية تشكيل لجنة أمنية رأسها وزير الداخلية باعتبار أن “القضية أمنية وليست دينية”.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى