كتاباتكتابات مختارة

الشعارات لا تخيف المستعمر: الفكرة تخيفه!

الشعارات لا تخيف المستعمر: الفكرة تخيفه!

بقلم د. أحمد عجاج

هنري كيسنجر كان يخشى كثيرا من الرئيس التشيلي سلفادور اللندي لأنه كان يرى فيه مشروعا كاملا يهدد فرادة امريكا كنظام رأسمالي ديمقراطي! وللذين لا يعرفون اللندي أقول: هو شخص ينحدر من أسرة أرستقراطية كرس حياته لنموذج ديمقراطي اقتصادي يختلف عن الثنائية القطبية القائمة في الحرب الباردة! أي النظام الرأسمالي ونقيضه الماركسي!

اللندي خلال عمله في السياسة وعندما كان نائبا في مجلس الشيوخ كان همه تعليم الفقراء وتوسيع حق الانتخاب ليشمل الجميع (كان الانتخاب محصورا بالمتعلمين ولم يكن النساء يمارسن هذا الحق)! وقد نجح في ذلك! وكان اللندي صاحب رؤية سياسية تختلف عن رؤية عبد الناصر وتيتو الاستبدادية والقائمة على الشعار وليس الفعل؛ وكانت رؤيته تقوم على بناء نظام ديمقراطي حقيقي يضمن الرفاه ويحقق المساواة وفق مبادئ اقتصادية مختلفة عما كان سائدا (رأسمالية وشيوعية)!

هذه الرؤية أخافت كيسنجر لأن اللندي بدأ يؤسس نموذجا لنظام ديمقراطي اشتراكي ناجح ستقلده دول أمريكا الجنوبية! علاوة على ذلك كان اللندي صاحب نظرية تقول ان دول الغرب مدينة للعالم الثالث لما أنزلته به من استغلال به خلال حقب الاستعمار، وكان يطالبها ان تعوض تلك الدول في العالم الثالث بنقل التكنولوجيا اليها والاستثمار برأس المال، والتسامح بحق الملكية الفكرية!

كيسنجر (الذكي) كان يقول: ان اللندي هو الخطر الحقيقي على امريكا ويؤكد انه أخطر من كاسترو في كوبا ومن على شاكلة كاسترو من أنظمة امتهنت الدعاية الكاذبة على حساب الفكر والعمل!

قال كسينجر ان النظام الديمقراطي الاشتراكي الذي أسسه اللندي سيؤدي الى خروج اللندي سلميا من السلطة وسيأتي بعده رئيس دستوري غيره! ليس معهودا في أنظمة ماركسية او اشتراكية ان يخرج أحد من السلطة!

وبهذا سيقوى، حسب رأي كيسنجر النظام التشيلي ويصبح نظاما ديمقراطيا اجتماعيا اشتراكيا وليس ماركسيا؛ هذا يمثل برأيه كارثة للنظام الأمريكي الرأسمالي!

لماذا؟!

كارثة لأنه سيعطي البديل العملي والناجح!

كيسنجر كان عمليا لا يرى خطرا في كاسترو ولا تيتو أو عبد الناصر ولا غيرهم لأنه يعرف أنهم استبداديون اسسوا أنظمة شخصية قمعية؛ بينما اللندي أسس نموذجا مثيرا ومنافسا!

الرئيس الأمريكي نيكسون وبناء على نصيحة كيسنجر طلب من المخابرات ان تُفعِّل عملاءها في تشيلي لكي يفعلوا كل شيء للتحريض على القيام بانقلاب! وبالطبع استعانوا برئيس البرازيل اليميني الذي جاء بانقلاب عسكري، وتمكنوا من خلال الجنرال بونشيه تنفيذ انقلاب انتهى بتطويق قصر الرئاسة وانتحار اللندي! او قتل اللندي!

بونشيه الجنرال الانقلابي قلب تشيلي رأسا على عقب، وترأس نظامه حملة تصفية وإعدامات أنهت كل أنصار ومفكري تجربة الرئيس اللندي! وكبديل استقدم بونشيه الخبير الأمريكي الاقتصادي ملتون كينز من تلامذة مدرسة شيكاغو التي تنادي بقتل دولة الرفاه، وانسحاب الدولة من الخدمات العامة وفتح الباب واسعا امام القطاع الخاص!

(تماما كما تفعل دولنا الان!!!)

الخبير ملتون  قال للرئيس بونشيه المغتصب للسلطة بإنقلاب عسكري ان تشيلي تسير على السكة الخطأ أي دولة الرفاه القائمة! ملتون رأى ان دولة الرفاه معناها “ان تعمل أعمال خير بأموال الناس الآخرين!” بعبارة أخرى تأكيد مبدأ القوي يأخذ كل شيء!

ما الهدف من كل هذا العرض؟!

أقول: أمران: 

أولا ان الدولة التي يخرج منها رجال كبار يجب ان يكونوا كبارا بالفكر والبرامج وان يجسدوا فكرهم وبرامجهم بسلوكهم؛ لا ان يكونوا كبارا عبر الشعار وتذويق الكلام !

ثانيا: ان الزعيم الرافع للشعار  قد تعاديه امريكا لكن تعاديه بسلاح الشعار والكلام؛ بينما الزعيم الحقيقي مثل اللندي ومن شابهه تحاربه بالحصار والتحريض وتحهد لقتله!

إن امريكا ومعها أية دولة استعمارية أخرى مثل روسيا والصين وغيرهما لا تخاف من الجعجعة ولا من سلاح تملكه دولة ما إنما تخاف من فكرة وفلسفة تؤسس لنموذج سياسي واقتصادي ناجح!

يقول كيسنجر في هذه المناسبة: “أن اكبر تحد لسياسة أمريكا ليس التوازن المادي (العسكري أو الاقتصادي) بل التوازن السيكولوجي أو الأخلاقي”!

السيكولوجي: هو الإيمان بالذات والقدرة على التطوير والدفاع والصمود، والأخلاقي هو: نتائج إيجابية تحقق العدالة في المجتمع والمساواة، وتضمن نظاما منافسا وقابلا للعيش وديمقراطيا؛ نظاما أرقى من نظام امريكا!

هذا ما تخافه امريكا والصين وروسيا وكل دول الاستكبار والاستعمار صغيرها وكبيرها!

لا عجب اننا مستهدفون لا لأننا نملك الفكرة بل لأن جذورها عندنا، وكل ما نحتاجه قليلا من نبش تربتها، وسقايتها، وتعهدها، لتنمو وتمتد جذورها! وإذا ما اشتدت الجذور، فلن تقوى قوة على قلعها، ولن ينكر أحد جودة ثمرها وخير فيئها!

الاستعماريون يعرفون الفكرة، والمصيبة اننا نحن؛ إما نقتلها جهلا او نشوهها غباء، او ندير لها، جنونا، ظهرنا ونركض مهرولين طالبين الخير عند غيرنا!

(المصدر: موقع المنهل)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى