كتاباتكتابات المنتدى

إبراهيم عليه السلام وزوجه هاجر… وقصة اللقاء

إبراهيم عليه السلام وزوجه هاجر… وقصة اللقاء

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

بعد إقامة إبراهيم – عليه السّلام – في الأرض المقدسة فلسطين المباركة، وبعد زمن لا يعلمه إلا الله دخل إبراهيم – عليه السّلام – بتدبير منه عزّ وجل إلى أرض مصر، وبما أنه – عليه السّلام – رسول يدعو إلى الله، فكل خطواته وحركاته للدعوة ولتبليغ الرسالة للناس. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/375].

وكان من نتيجة هذه الرحلة أن أهديت هاجر إلى سارة زوج إبراهيم – عليه السّلام – والتي أصبحت فيما بعد زوجاً ثانية لإبراهيم، وأمّاً لابنه الكبير إسماعيل – عليه السّلام -، ومعلوماتنا عن هذه الرحلة مستمدة من حديث رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات؛ ثنتين منهن في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}، وقوله للملك الظالم عن زوجه سارة: أنّها أخته”، وقد بيّنت أن هذا من المعاريض في قصة إبراهيم في سورة الأنبياء وفي سورة “الصافات”، كما مرّ معنا سابقاً.

وبينما هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبّار من الجبابرة، فقيل له: إنّ ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، وقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرّك، فدعت الله، فأطلق، ثم تناولها ثانية، فأخذ مثلها أو أشدّ، فقال: ادعي الله لي، ولا أضرّك، فدعت، فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنكِ لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، فأخدمها هاجر، فأتته وهو قائم يصلي، فأومأ بيده مَهْيا، قال: ردّ الله كيد الفاجر في نحره، وأخدم هاجر، قال أبو هريرة: فتلك أمّكم يا بني ماء السماء. [صحيح البخاري، رقم (2217)، صحيح مسلم، رقم (2371)].

هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، يذكر الحادثة العجيبة التي جرت لإبراهيم – عليه السّلام – وزوجه عندما توجّها إلى مصر، والكرامة التي أُكرم بها سارة وعصمها من ذلك الملك الجبار الفاجر. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/376].

  • الذّمّة والعهد والرحم لأهل مصر:

إنَّ الذي يدلُّ على هذه الحادثة التي جرت لإبراهيم وهو في مصر، وأن الملك الجبار الفاجر هو ملك مصر، حديث آخر ينصّ على أن “هاجر” مصرية.

فقد روى مسلم ورواه آخرون عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنكم تستفتحون مصر، وهي أرض يُسمّى فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورَحم، أو قال: ذمة وصهراً، فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبِنة، فاخرج منها، قال أبو ذر: فرأيت عبد الرّحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبِنة، فخرجت منها. [صحيح مسلم، رقم (2543)، سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني، رقم (95)].

فهذا الحديث ينصّ على أنّ لأهل مصر ذمّة ورحماً وصهراً للعرب، قال للعلماء: القيراطُ: جزء من أجزاء الدينار أو الدرهم، وأهل مصر يكثرون من استعماله والتكلم به. والذّمّة: الحرمة والحق. والرحم: لكون هاجر أم إسماعيل منهم، فأهل مصر هم أخوال لأهل مكة والحجاز. والصّهر: لأنَّ أهل مصر صاهروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنَّ حاكم مصر المقوْقس أهداه “مارية” القبْطية، وأن ابنه إبراهيم الذي مات وهو صغير، وأن ملك مصر أهدى “هاجر” لإبراهيم فأنجبت منه إسماعيل عليه السّلام، وأن حاكم مصر فيما بعد أهدى محمد صلّى الله عليه وسلّم “مارية”، فأنجبت ابنه إبراهيم، ولهذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يوصي الصحابة بالمقربين خيراً، ويدعوهم إلى مراعاة ذمتّهم ورَحِمهم ومصاهرتهم. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/37].

  • من دلالات الحديث عن زيارة مصر:

عندما ننظر في الحديث الذي سجل قصة إبراهيم – عليه السّلام – وسارة مع ملك مصر، فإننا نخرج منه ببعض النتائج والفوائد، ولعل منها:

  • اسم زوج إبراهيم – عليه السّلام – هو سارة كما ورد مصرحاً به في الحديث.
  • كانت سارة رضي الله عنها من أحسن الناس وأجملهن.
  • كان ذلك الملك جباراً من الجبابرة وكان فاجراً شهوانياً وكان مرتكباً للفاحشة ملاحقاً للنساء.
  • كانت له حاشية أو عصابة، مهمتها البحث عن النساء الجميلات وإحضارهن إليه طوعاً وكرهاً؛ ليفجر بهن، وتحويل مهمة الملك ليكون “صائدي نساء” هذا من سمات الأنظمة الجاهلية في كل زمان ومكان. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 1/378].
  • أمر إبراهيم سارة لتقول للملك أنّها أختي، ليأخذها الملك وهناك يقدم الله لذلك الملك آية ومعجزة، وليحقّ قدره سبحانه فيعصم سارة من فجوره وتأخذ هاجر معها.
  • قال إبراهيم عن سارة أنّها أخته، وأراد الأخوة في الدين، فهو مسلم وهي مسلمة، والإسلام جمع بينهما في أخوة إيمانية وإن كانا زوجين، ولقد كان إبراهيم – عليه السّلام – صادقاً عندما قال: أنّها أخته وأراد بذلك الأخوة الإيمانية، وقد وضّح إبراهيم – عليه السّلام – هذا لسارة وذلك في قوله لها: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، ولأنَّ الحاشية فهموا من كلامه الأخوة في النسب اعتُبر كلامه كذباً ظاهراً، لأنه شابه الكذب في الظاهر؛ لكنه صدق في الحقيقة.
  • إنَّ إبراهيم – عليه السّلام – نبيّ، وإن الله هو الذي يوحي إليه ويوجهه، فالله هو الذي أمره بإرسالها وتسليمها، وعليه أن يطمئن، ولا يقلق فستكون عند الملك في رعاية الله وحفظه، ولن ينال الملك منها شيئاً وكان إبراهيم – عليه السّلام – واثقاً بوعد الله مسلّماً أمره إليه.
  • عصم الله سارة من فجور الملك، وقدّم لها كرامة بارزة، وقدّم لذلك الفاجر الجبار آية على قوة الله وقدرته وعلى عجز ذلك الجبار، فلما مدّ يده لها أول مرة قبضها الله وعطّلها، فعجز الملك عن تحريكها أو التحكم فيها، فتعجب واستغرب لأنّها أول مرة تحصل معه، وطلب من سارة أن تدعو ربّها ليطلق يده ولن يؤذيها، ولما فعلت ذلك عاود الملك الكرّة مرة ثانية ثم مرة ثالثة، عند ذلك علم الملك أنه ممنوع من الوصول إليها وأيقن بعجزه عن مسّها، وأن هناك قوة أخرى تحفظها وتعصمها وتحميها منه، وهذا هو المراد من الحادثة وهذه هي الحكمة.
  • أراد الملك إكرام هذه المرأة المحفوظة العفيفة، فقدم لها إحدى النساء؛ لتكون خادمة لها وجارية عندها وهي هاجر، وأعادها إلى إبراهيم – عليه السّلام – معززة مكرّمة عفيفة مصونة.
  • كان إبراهيم – عليه السّلام – أثناء غياب امرأته عند الملك ملتجئاً إلى الله يُصلي له ويدعوه ويستنصره، ويطلب منه حفظ وعصمة امرأته، وعادت إليه سارة وهو يصلي، وقد كان هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا أحزنه أمر أو وقع في ضيق، يفزع إلى الصلاة. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/380].
  • كان من دعاء سارة – عليها السلام – وهي في طريقها إلى الجبار: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلّا على زوجي، فلا تسلط عليّ الكافر، فقد استجاب الله لها.
  • فرح إبراهيم – عليه السّلام – بعودة سارة، وهو متلهّف متسرّع ليعرف ماذا جرى لها، ولهذا لم ينتظر حتى يفرغ من الصلاة، بل أومأ بيده أثناء الصلاة متسائلاً: مَهْيا؟ ومعنى: “مًهْيا” ما الخبر؟ ولم يتكلم بلسانه لأنه كان في الصلاة وإنما كانت إشارة يده توحي بهذا الاستفهام.
  • يتجلى من جواب سارة – عليها السلام – قوة إيمانها بالله، فقد أسندت الحفظ والرعاية إلى الله، وأعادت الفضل إلى مانحه سبحانه وتعالى، وذلك قولها: ردّ الله كيد الفاجر في نحره، وأخدمَ هاجر.
  • قدم أبو هريرة راوي الحديث رضي الله عنه على الحادثة تعقيباً ذكياً لطيفاً وذلك في قوله: “فتلك أمكم يا بني ماء السماء”، وهو بهذا يخاطب الصحابة ويقول لهم: هاجر المصرية القبطية هي أمكم؛ لأن إبراهيم جعلها “سرّيته” فيما بعد، وأنجبت له إسماعيل وبما أنكم أبناء إسماعيل فهاجر أمكم.
  • معنى قوله “يا بني السماء”: أن العرب في بلادهم يعتمدون على ماء السماء – وهو المطر- في الزراعة والكلأ والعشب والرعي، ولذلك كأنهم صاروا أبناء المطر ماء السماء، وهذه بعض الفوائد والدلالات السريعة التي نخرج بها من هذا الحديث الصحيح.
  • يجب الحذر وبيان بطلان ما تدعيه توراة اليهود أن سبب هجرة إبراهيم – عليه السّلام – إلى مصر كانت الأسباب معيشية، حيث إن أرض الشام كانت في ذلك الوقت تتمتع بالخصوبة، والصحيح أن هجرته – عليه السّلام – إلى مصر كانت لأسباب دينية كالدعوة إلى توحيد الله وإفراد العبادة له، كما أن الحالة الدينية في مصر في زمن هجرة الخليل – عليه السّلام – كانت مهيأة لنشر دعوة إبراهيم – عليه السّلام – بين الناس.
  • إن ما ورد في أسفار اليهود حول قصة إبراهيم وسارة مع ملك مصر متناقضة مع ما ورد في الروايات الإسلامية حول تلك القصة، ويجب الحذر مما ألصق اليهود في أسفارهم بإبراهيم – عليه السّلام – من صفات قبيحة وأعمالاً دنيئة يندى لها الجبين، ويقشعر منها البدن مثل الكذب، والخوف على حياته من الموت والدياثة والتكسب بالمال عن طريق المتاجرة بشرف زوجته، والمخاطرة بالعرض والشرف.. إلخ، وإن غرض اليهود من إلصاق هذه التهم بإبراهيم – عليه السّلام – بهدف أن يبيحوا لأنفسهم التخلق بهذه الصفات القبيحة وممارسة الأفعال الدنيئة، وأن ذلك لا حرج عليهم لأنهم يقتدون في أخلاقهم وسلوكهم بإبراهيم – عليه السّلام -. [إبراهيم عليه السلام في أسفار اليهود “عرض ونقد”، فاطمة بنت خالد ردمان، ص154].

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “إبراهيم – عليه السلام – أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب: ” القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث”، للدكتور صلاح الخالدي.

المراجع:

  1. القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق – الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه، 1998م.
  2. إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
  3. إبراهيم عليه السلام في أسفار اليهود “عرض ونقد”، فاطمة بنت خالد ردمان، رسالة ماجستير، كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، السعودية، 1421ه، 2001م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى