كتب وبحوث

أوهام “راند” لنشر إسلام ليبرالي وبناء الاعتدال الديني (2من2)

أوهام “راند” لنشر إسلام ليبرالي وبناء الاعتدال الديني (2من2)

قراءة بلال التليدي

الكتاب: بناء شبكات الاعتدال الإسلامي
الكاتب: شيريل بينارد-انجيل بارباسا-نويل شوارتز-بيتر سيكل
سلسلة تقارير مؤسسة راند
الناشر: تنوير للنشر والإعلام السلسلة
عدد الصفحات 240

يواصل الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي في الجزء الثاني وهو الأخير من عرضه لكتاب “شبكات الاعتدال الإسلامي” الصادر ضمن سلسلة تقارير مؤسسة “راند” الأمريكية، قراءة وجهة النظر الأمريكية في التعاطي مع حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، وأثر ذلك على مسار الانتقال الديمقراطي الذي جاءت ثورات الربيع العربي كتعبير واقعي عنه.

الرهان على تنشئة حلفاء جدد لمواجهة التيار الأصولي

ترى ورقة مؤسسة “راند” أنه يمكن الاستفادة من دروس الحرب البادرة لتوفير شروط إعادة تجربة بناء الشبكات المعتدلة، إذ اعتبرت الورقة أن أهم دروس الحرب البادرة تكمن في:

4 ـ الاستراتيجية التي تم اعتمادها، والتي تضمنت ـ حسب الورقة ـ كل جوانب القوة القومية، ما عدا الحرب، بما في ذلك المكونات السياسية والاقتصادية والمعلوماتية والدبلوماسية.

ح‌ – التسلل إلى الحركات والمنظمات التي كانت موجودة بالفعل في أوروبا الغربية. وكانت مساعدة الحكومة مكملا مهما في تغذية هذه الحركة.

خ ـ الإجماع السياسي العريض داخل الولايات المتحدة وبعض الدول الحليفة، وبخاصة بريطانيا العظمى، على الحاجة إلى مكافحة الشيوعية في النواحي السياسية والإيديولوجية بالإضافة إلى الناحية العسكرية.

د ـ إحداث نوع من التوازن بين دعم هذه الجماعات والحفاظ لها على قدر من الاستقلالية، بالشكل الذي تتلاقى فيه أهدافها على المدى البعيد مع الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة.

تنطلق أطروحة الورقة إذن، من قراءة هذا التاريخ، واستلهام دروسه، وتبرير جدوى إعادة التجربة نفسها في فضاء آخر مغاير (هو العالم الإسلامي) بالرهان على فاعلين آخرين مغايرين (الاتجاه الحداثي العربي الإسلامي) في بيئة ثقافية وحضارية مغايرة (البيئة العربية الإسلامية)  ضد عدو مغاير (الاتجاه الأصولي المتطرف) بأدوات مشابهة تقريبا (بناء شبكات معتدلة وتقوية آليات الدعم والمساعدة).

ولا تنسى الورقة أن تقدم تقييما لجهود الولايات المتحدة الأمريكية في بناء شبكات الاعتدال في العالم، واستعراض البرامج والمبادرات والآليات ومنظومات الدعم كافة، التي تبنتها من أجل إحداث التغييرات المطلوبة، سواء في زمن الحرب الباردة أو بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).

وتتوقف الورقة بشكل مفصل عند مفهوم الاعتدال، وتنتقد بشدة المقاربات التي قصرته على نبذ العنف، وترى أن للاعتدال مضمونا ثقافيا ليبراليا، يتجسد في تبني منظومة حقوق الإنسان الدولية، وفي مقدمتها الحريات الدينية، وحقوق المرأة وحقوق الأقليات، ورفض المرجعية القانونية والدستورية للشريعة، واعتبار ذلك مسوغا للشمولية والدولة الدينية، وأنه لهذا الاعتبار، لا يدخل ضمن مشموله إلا الاتجاهات الحداثية العلمانية التي تتقاسم الولايات المتحدة الأمريكية الثقافة الليبرالية نفسها. أما الاتجاهات التقليدية الإصلاحية أو المحافظة، وما يسمى بالإسلاميين، فإنهم لا يشكلون نواة الشبكات المعتدلة، وإنما يمكن الاستفادة منهم في تقوية مواقع الاتجاه الحداثي وإضعاف الاتجاه الأصولي التقليدي.

وتفصل بقية الورقة في تحديد الخيارات المتاحة لبناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي، والاتجاهات التي ينبغي دعمها وتقويتها، والوسائل التي ينبغي الرهان عليها، وغيرها مما يتكرر أو يتكامل مع ما ورد في ورقة “الإسلام المدني الديمقراطي”.

ملاحظات نقدية:

يبرز العطب الرئيسي لهذه الورقة في النموذج الحاكم لها ومحدودية المعرفة بشروط إنتاج الظاهرة الإرهابية من جهة، والإمكان المتوفر في الثقافة العربية الإسلامية لمواجهتها من جهة ثانية، والأثر المترتب عن السياسات الأمريكية في دعم الظاهرة الإرهابية من جهة ثالثة، والمخاطر الناجمة عن استلهام المقترحات الواردة في هذه الاستراتيجية من جهة رابعة.

أولا، محدودية المعرفة بإنتاج الظاهرة الإرهابية: لا تقدم الخبرة التاريخية للحرب الباردة التي استعانت بها هذه الورقة أي جواب عن شروط إنتاج الظاهرة الإرهابية، كما أنها لم تسع إلى المقابلة بين شروط إنتاج الفكر الشيوعي، وشروط إنتاج الفكر الإرهابي، إذ تبنت الورقة بشكل سريع ودون اختبار الأطروحة الثقافية التي تختزل الظاهرة الإرهابية في وجود فكر ديني متزمت، يبرر العنف، ويسوغ إراقة الدماء وقتل الأبرياء، واستهداف المصالح الأجنبية. والواقع، أن سؤال شروط إنتاج الفكر الشيوعي، وأيضا الفكر الإرهابي كان ضروريا، إذ لا يمكن أن نضمن النجاعة في محاربة فكر ما،  دون أن تكون لدى الجهة المعنية بالمكافحة معرفة علمية عن شروط تكوُّن هذا الفكر وتشكله وتطوره وتناميه.

وإذا كانت الخبرة التاريخية والفلسفية تؤكد بأن الفكر الماركسي ولد في رحم أزمة الرأسمالية، أي ولد نتيجة لتناقضاتها، فإن السؤال نفسه يطرح على ظروف نشأة الظاهرة الإرهابية وملابساتها، وهل نشأت بفعل بروز تفسيرات دينية داخل الثقافة الإسلامية؟ أم نشأت ضمن ديناميات السياسة، كنتيجة   لتناقضات السياسات الخارجية الأمريكية في المنطقة، وأن الدين، لم يكن إلا الملاذ الذي يلجأ إليه المتطرفون لتسويغ آرائهم ومعتقداتهم المتطرفة؟

تقفز الورقة على هذه الأسئلة، ولا تقدم أي تبرير لاختيارها الطرح الثقافي في تفسير شروط نشأة الظاهرة الإرهابية، لأن ما يهمها ليس هو الفهم؛ لأن ذلك حتما سيجعلها في عمق مناقشة السياسات الأمريكية في المنطقة وتقييمها. وإنما ما يهمها بدرجة أولى، هو فرز خارطة الاتجاهات، وتعيين أقربها إلى خدمة مواقع الاعتدال، كما تتصورها الرؤية الأمريكية، والأفكار المقترحة لتقوية هذا الاتجاه، وإضعاف ذاك.

والمشكلة أن الورقة أشارت إلى بعض المفارقات في السياسة الخارجية الأمريكية، التي تريد تحقيق التحول السياسي، لكنها لا تتحمل كلفة نتائج إحداث تحول يقود إلى تغيير النظم الاستبدادية التي تراهن عليها الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، كما تطرح من جهة هم المحافظة على مصداقيتها، لكنها في المقابل، لا ترى بأسا في أن تختار دعم الشمولية، إن  قدرت أن نتائج الديمقراطية تعرض مصالحها الاستراتيجية أو مصالح حلفائها إلى التهديد.

ـ ثانيا، تبخيس الإمكان الذي توفره الثقافة العربية الإسلامية في مكافحة الواجهة الفكرية والدينية للإرهاب، إذ واضح من خارطة الاتجاهات والخيارات  المقترحة، أن الرهان الأكبر هو على مخرجات الاتجاه الحداثي، إذ استندت الورقة في ذلك على اعتبارين اثنين لدعم خيارها:

الأول، هو نجاح الرهان على القوى الحداثية في نشر الحرية الثقافية وهزم العدو الشيوعي في الحرب  الباردة، والثاني، هو تبرير ضعف ومحدودية وهامشية الاتجاه الحداثي في الواقع العربي والإسلامي وتفسيره، إذ اعتبرت الورقة أن هذا الضعف والهامشية لا ترجع إلى أطروحته الفكرية المتساوقة مع الثقافة الليبرالية الأمريكية، وإنما إلى ضعف موارده، ومحدودية الدعم المقدم له، وأن  الأمر لا يتطلب سوى إعادة النظر في منظومة الدعم، وتقوية هذا الاتجاه، ومده بالأسباب التي تنهض به، وتجعله في مستوى القيام بالمهمة الموكولة إليه.

والواقع، أن هذا الاعتقاد، بقدر ما فيه من ابتسار المعرفة بالمجتمع العربي، بقدر ما فيه من تبخيس النتائج والخلاصات التي انتهت إليها مؤسسات بحثية غربية معنية بتجميع المعطيات عن الحياة الدينية والتمثلات الثقافية للمجتمع العربي الإسلامي، إذ تقرر غير واحدة من هذه المؤسسات المتخصصة في المسوح الاجتماعية محدودية  المفردات الثقافية الليبرالية في التمثلات الدينية للمجتمع، بما في ذلك المفاهيم التي نشطت وتكثفت برامج الدعم الأمريكي لترويجها وفرضها كاختيار ضروري في السياسات  العمومية (الجندر مثلا)، فبالأحرى المفاهيم المرتبطة بتمثل المجتمع العربي الإسلامي بمرجعية الشريعة القانونية والدستورية، وتحفظاته على بعض الجوانب في منظومة حقوق الإنسان الدولية.

ولعل مرجع العطب في هذا النموذج الحاكم، أنه يعتبر أن جذور الظاهرة الإرهابية توجد في النص الديني، وأن معالجتها يتم من خارجه، أي بالثقافة الليبرالية الأمريكية المشفوعة بانتقاء لبعض التأويلات الحداثية للدين، أي إن النص الديني لا يحارب الإرهاب إلا إذا تم تأويله بما يتساوق مع الثقافة الليبرالية الأمريكية.

التفكير في خيار دعم التحول الديمقراطي في العالم العربي، إنما تم اللجوء إليه خوفا من تنامي الخطر الإرهابي، في حين لا يظهر أدنى اهتمام بأثر السياسات الأمريكية في حالة فشل الاتجاهات الحداثية في تقلد السلطة، أي في حالة عدم ضمان نتائج الديمقراطية، وهل سيدعم ذلك تنامي الظاهرة الإرهابية وتناسلها أم لا؟

والنتيجة، تبعا لهذا التحليل، أن دور الثقافة الليبرالية الأمريكية لا يتوقف عند حدود محاربة الإرهاب، بل يمتد لتأويل الدين بما يتساوق مع مفرداتها، وتأهيله لكي يكون في مستوى مواجهة الخطر الإرهابي (تتقاسم الورقة نفس تحليل ورقة الإسلام المدني الديمقراطي على هذا المستوى).

وذلك جانب آخر من أزمة النموذج المعرفي الحاكم لهذه الورقة، الذي ينطلق من مركزية ومحورية الثقافة الغربية، حيث تتحول هذه الثقافة طبقا لذلك، إلى معيار حاكم يقاس إليه كل شيء، بما في ذلك الدين الذي يشكل الوجدان والضمير والذاكرة والتاريخ والحضارة بالنسبة للشعوب العربية الإسلامية.

ـ ثالثا، وهم مقولة “الاستقرار هو لازمة خدمة المصالح الأمريكية، وأن الأنظمة الاستبدادية لم تعد قادرة على تأمين هذا الاستقرار، وأن دعم التحول السياسي هو الخيار الأفضل لتأمينه، وأن تعطيل مسار الدمقرطة وتشجيع الأنظمة السلطوية يساعد على تنامي نزعات التطرف وتناسل المنظمات الراديكالية، لكن في الوقت نفسه، تميل إلى العودة لأطروحتها التقليدية في دعم الأنظمة الاستبدادية في حالة فشل خيارها في ضمان وصول الحداثيين لمقاليد السلطة، بسبب خوفها من دفع تكلفة تحمل نتائج الديمقراطية في العالم العربي.

هذا الارتباك في السياسة الأمريكية، الذي يبرره التأرجح بين رفع الدعم عن أنظمة الاستبداد وتشجيع حراك الشعوب في اتجاه الحرية، وبين العودة إلى دعم الأنظمة نفسها، أو نسخ جديدة منها، في حالة ما إذا كانت نتائج الديمقراطية غير مأمونة بالمنظور الأمريكي، أي في الحالة التي لا تضمن فوز الاتجاهات الحداثية التي تراهن عليها لقيادة شبكات الاعتدال في العالم.

وتظهر المفارقة بشكل جلي، حين يعلم أن التفكير في خيار دعم التحول الديمقراطي في العالم العربي، إنما تم اللجوء إليه خوفا من تنامي الخطر الإرهابي، في حين لا يظهر أدنى اهتمام بأثر السياسات  الأمريكية في حالة فشل الاتجاهات الحداثية في تقلد السلطة، أي في حالة عدم ضمان نتائج الديمقراطية، وهل سيدعم ذلك تنامي الظاهرة الإرهابية وتناسلها أم لا؟

ـ رابعا، المخاطر الناجمة عن استلهام المقترحات الواردة في هذه الاستراتيجية، لاسيما أن صلب هذه المقترحات يتوجه إلى عملية تدخل في الدين، وخلق دين ليبرالي جديد، ينافي طبيعته كما هي في الواقع، ويقترب من النموذج الثقافي الليبرالي. وهي مهمة تكتنفها العديد من المخاطر، وفي مقدمتها خلق ممانعة عنيفة، قد تستثمر بشكل معاكس في تنمية نزعات التطرف، وتفضي إلى رفض المفردات الوسطية الأصيلة في الدين، فبالأحرى التأويلات المفروضة عليه من خارج مرجعيته.

تختصر ملامح هذا العطب في النموذج المعرفي الحاكم لهذه الدراسة، في كونه يتعامل مع الفهم الديني ومع الدعم الشعبي لهذا الفهم، بناء على القاعدة المادية لهذا التيار أو ذاك. فهذه الجهة، تمتلك قاعدة شعبية واسعة وكبيرة، لكونها تمتلك المواد ومصادر الدعم، بينما تحرم الأخرى من هذه الشعبية الممتدة، لأنها لا تمتلك الرصيد نفسه من الإمكانيات والموارد، وأن المطلوب ليس أكثر من قلب المعادلة، وتمكين الجهة التي تمتلك تفسيرا حداثيا للدين من وسائل الدعم، وإضعاف الجهة المقابلة، دونما مراعاة لطبيعة الثقافة الدينية، ومصادرها، ومرجعياتها، وأنماط تمثلاتها في المجتمع العربي، ودور الامتدادات التاريخية والحضارية في تشكيل المعرفة والشعور والوجدان الديني والذاكرة الدينية للمجتمع.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى