كتب وبحوث

أسباب النّزول وازدِواجيَّة التوظيفِ الحداثيّ

أسباب النّزول وازدِواجيَّة التوظيفِ الحداثيّ

 

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

 

تمهيد:

علومُ القرآن علومٌ منضبِطة ومخدومة في القديم والحديث، ولا يمكن استغلالها وتوظيفُها للطَّعن في القرآن أو لإلغائه والحدِّ من حاكميّته؛ لأنَّ ذلك مخالفٌ لغرَضها الأصليّ الذي أُنشِئت من أَجله، ومَن رام ذلك فهو غير مدركٍ لحقيقتها، أو لا يعي حجمَ قصدِه وبُعده، لكن الجنون فنونٌ، وبعضُ المقاصد مَقاتل لأصحابها.

ومن هذه المقاصد الغريبةِ محاولةُ توظيف بعض علوم القرآن توظيفًا مزدوجًا، فأحيانا للطَّعن فيه، وأحيانا لكسب مصداقيَّة في تفسيره والتخفيف من حدَّة التصادم بينه وبين بعض الآراء الغريبة في تفسيره، وللتَّيار الحداثيِّ حظُّ الأنثيَين من كلِّ محاولة غريبة في رفض القرآن أو الطعن فيه؛ حتى صار ذلك علَمًا عليه في عصرنا الحديث، وقد اتَّجهت سِهامهم التي يسمُّونها دراساتٍ إلى القرآن خصوصًا للنيل منه، ومحاولة كسب مصداقيَّة من خلاله أو الحدِّ من سلطته، فكلا الأمرين مقصَد إن تحقَّق، وقد كانت علوم القرآن رادعًا حقيقيًّا لكلِّ محاولةٍ غير جادَّة في التعامل مع القرآن، فغصَّت بها حلوق القومِ، وشرَّقوا وغرَّبوا، ونوَّعوا العبارةَ في محاولة تجاوُزها أو التصالح معها تصالحًا يخدم الفكرةَ، ولا يُظهر الشرخَ العلميَّ بينها وبين علوم القرآن التي هي عقبةٌ حقيقية تضَع الشخصَ أمام الحقيقةِ المؤلمة وهي سؤال المصداقيَّة واختبار الأدوات المعرفية، وهنا يكمن الخلَل، فالأدوات المستخدمَة عند الحداثيِّين أدواتٌ أجنبيَّة على العلوم الشرعية، وعلى علوم القرآن خصوصًا.

ومن بين العلوم التي استغلَّها الحداثيّون استغلالا مزدوجًا أسبابُ النزول، فهم ينطلقون في فهمهم لأسباب النزول من منظورٍ اجتماعي بحت، فيعتنون بدراسة الظواهر الاجتماعية التي كانت سببًا مباشرًا أو مؤثِّرا أحيانا في نشوء الأفكار، وهذه النظرة أدَّت بهم إلى رؤية أسباب النزول من زوايا مختلفة، فأحيانًا يوظِّفونها لإثبات تاريخيَّة القرآن، وأنه محصور في حيِّز زماني محدَّد لا يتجاوزه، وأحيانًا يرون أنَّ علم أسباب النزول هو من إنتاج الفقهاء من أجل تسويغ آراء معيَّنة من طرف الفقهاء، وهذه النظرة في جميع تجلِّياتها لا يشكُّ مسلم في أنها تتنافى مع الشرع، ولها آثار خطيرة، ومن هنا لزم نقاشها نقاشًا علميًّا هادئًا، يهدي الله به من أراد الخير، ويقيم الحجة على المعاند، وسوف نناقشها في ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: مفهوم أسباب النزول بين علماء القرآن والحداثيّين:

مفهوم أسباب النزول عند علماء القرآن:

اختلف أهل الفنِّ في تحديد مصطَلحٍ جامع لأسباب النزول، وهذا الاختلاف مردُّه إلى نشأة المصطلح، فهو متأخِّر زمنيًّا عن جيل الصحابة؛ مما جعل التعاريفَ والاستخدامات تأخُذ مناحيَ عِدَّة في تحديد المفهوم تحديدًا يجمع بين استخدامات المتقدِّمين واصطلاحات المتأخِّرين.

وبالنسبة للصَّحابة والتابعين لم يكن هذا المصطلَح شائعًا عندهم بلفظه ولا بمعناه الاصطلاحيِّ، وإنما كانوا يستخدِمونه بمعناه اللغويّ، فيكون وجهًا من أوجه التفسير أو إبداء المناسبة، فينصُّ الصحابيّ أو التابعيّ على أنَّ الآية نزلت في كذا ويكون هذا محتملا لكونه سببًا ومحتملا لكونه داخلا في معناها، يقول الزركشي رحمه الله: “قد عُرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدَهم إذا قال: نزلت هذه الآيةُ في كذا، فإنه يريد بذلك أنَّ هذه الآية تتضمَّن هذا الحكمَ، لا أنَّ هذا كان السببَ في نزولها، وجماعةٌ من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسنَد كما في قول ابن عمر في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} [البقرة: 223]، وأما الإمام أحمد فلم يُدخله في المسند، وكذلك مسلم وغيره، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل، فهو من جنس الاستدلال بالآية على الحكم، لا من جنسِ النقل لما وقع”([1]).

وقد فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المصطلح عند السلف في محاولةٍ منه للجمع بين تعدُّد أسباب النزول مع أن النازلَ واحدٌ فقال: “وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا يرادُ به تارةً أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخلٌ في الآية وإن لم يكن السببَ كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا، هل يجري مجرى المسنَد كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسنَد؟ فالبخاري يُدخله في المسنَد، وغيره لا يُدخله في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره؛ بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقبَه، فإنهم كلّهم يدخِلون مثلَ هذا في المسند. وإذا عُرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببًا فقد يمكن صدقُهما بأن تكون نزلَت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرَّتين: مرة لهذا السبب، ومرة لهذا السبب. وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير -تارة لتنوُّع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمَّى وأقسامه كالتمثيلات- هما الغالبُ في تفسير سلف الأمَّة الذي يُظَنّ أنه مختلِف”([2]).

أمَّا من تأخَّر عن السَّلف وجعل المصطلح لقبًا لعِلم من علوم القرآن فقد عرَّفه بعدة تعريفات، ترجع في مجملها إلى كلِّ ما يتَّصل بالآية من القضايا والحوادث، سواء كان علة نزلت الآية لأجلها، أو قضيَّة ارتبطت بها ارتباطًا من ناحية الظروف الزمانية أو المكانية أو التشابه([3])، وأشملُها تعريفُ السيوطي رحمه الله فقد قال: “والذي يتحرَّر في سبب النزول أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه؛ ليخرج ما ذكره الواحديّ في تفسيره في سورة الفيل من أن سببَها قصَّة قدوم الحبشَة، فإن ذلك ليس من أسبابِ النزول في شيءٍ، بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية”([4]). فبحث الأسباب على هذه الحالة منحصر في “ما نزلت الآية أو الآيات بسببه متضمِّنة له أو مجيبة عنه أو مبينة لحكمه زمنَ وقوعِه”([5]).

طرق معرفة أسباب النزول:

لا يخفى أنه حين يربط سبَب النزول بالواقعة والملابسات وقتَ النزول أو قبله بزمن يسير فإن ذلك يستَدعي بطبيعَة الحال تحديدَ إجراء عمليٍّ لحصر طرقِ معرفة أسباب النزول، فليس كلّ دعوى أسباب النزول مقبولَة؛ لأنه حين يُدَّعى أنَّ حادثةً كانت سببًا في النزول فهذا يعني دخولها في الحكم قطعًا، وأحيانا التخصيص بها أو الترجيح، وكلّ هذا يدعو إلى الحذر في تبني موقفٍ قاطع بسبب النزول، ومن ثم نصَّ العلماء على الطرق التي يُعرف بها سبب النزول فقالوا: “لا يحلُّ القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع مِمَّنْ شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها، وجدُّوا في الطلب”([6]).

وقد كان السلف يتحرَّجون في ذلك، ويطلبون التثبت في الرواية، قال محمد بن سيرين: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: “اتَّق الله وقُل سدادًا، ذهَب الذين يعلَمون فيما أنزل الله من القرآن”([7]). ومن ثم فإنَّ لمعرفة سبب النزول طريقًا واحدًا، وهو السند الصحيح المتَّصل إلى الصحابيّ، وبعض أهل العلم تسامَح في التابعيّ الثقة كمجاهد وعكرمَة وسعيد بن جبير؛ بشرط وجود عاضد له([8]).

علاقة أسباب النزول بالتفسير:

نصَّ العلماء على أهمية أسبابِ النزول في التفسير؛ لأنه مرتبطٌ بها ارتباطَ الكلّ ببعضه، وهذا يخصُّ ما له سبب نزول من القرآن، وتظهر علاقته بالتفسير وأهميته لأن به ينكشف الغموض الذي يكتنف بعضَ الألفاظ والسياقات، فتأتي معرفة أسبابِ النزول كاشفةً لذلك المعنى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ومعرفةُ سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسَّبب يورث العلم بالمسبّب؛ ولهذا كان أصحّ قولي الفقهاء أنّه إذا لم يعرف ما نواه الحالِف رجَع إلى سبَب يمينه وما هيَّجها وأثارها”([9])، وقال الزركشي رحمه الله: “وأخطأ من زعم أنه لا طائلَ تحته؛ لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائدُ، منها: وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرةَ بخصوص السبب، ومنها: الوقوف على المعنى… ومنها: أنه قد يكون اللفظ عامًّا ويقوم الدليل على التخصيص، فإن محلَّ السبب لا يجوز إخراجه بالاجتهاد والإجماع… لأن دخول السبب قطعيٌّ، ونقل بعضهم الاتفاق على أن لتقدُّم السبب على ورود العموم أثرًا”([10]).

ولم تختلف كلمتُهم في أهمية معرفة أسباب النزول من أجل القدرة على التفسير، ومعرفة أسباب النزول هي سرّ تقديمهم على غيرهم؛ لأنَّ مشاهدتهم للتنزيل وقرائنِ الأحوال المكتنِفة لنزول الوحي كانت تعطي المعنى المرادَ دون حاجةٍ إلى كبير عناء، وهو ما خصَّهم الله به، ولم يشاركهم فيه أحد.

تأثير أسباب النزول في الألفاظ:

لا شكَّ أنَّ معرفة سبب النزول تُعين على تعميم اللفظ أو تخصيصه، ومن ثم لم يفصلها العلماء عن دلالة الألفاظ، فقد جعلوا السببَ مثالا وليس حصرًا، “وقد جاءت آيات في مواضعَ اتَّفقوا على تعديَتها إلى غير أسبابها، كنزول آية الظهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية، ونزول حدِّ القذف في رماة عائشة رضي الله عنها، ثم تعدَّى إلى غيرهم”([11]).

ويمكن إظهار أهمية علاقة السبب بالألفاظ من خلال الآتي:

أولًا: تعيين المعنى الصحيح، ودفع الوهم الوارد فيها، مثاله قوله تعالى: {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيم} [البقرة: 115]، فظاهر الآية جواز الصلاة إلى أيّ جهة سواء بعذر أو بغير عذر، والآية لا تعيّن وجوب القبلة من غيرها في الصلاة، فقراءة الآية بعيدًا عن سبب النزول يعمّق الإشكال ولا يحلّه، وهو قد يؤدِّي إلى التعارض الذي لا سبيلَ إلى رفعه إلا بالقول بالنسخ، والقول بالنسخ لا سبيل إليه؛ لأنه مدفوع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا اللّجوء إلى سبب النزول، وهو يحصر معنى الآية في السّفر، وحكم الاجتهاد في القبلة، وحكم من اجتهد وأخطأ في القبلة([12]).

ثانيًا: رفع توهّم الحصر الذي يفيده ظاهر النصّ، مثاله قوله تعالى: {قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيم} [الأنعام: 145]. فقد نظر الشافعي رحمه الله إلى سبب النزول، ورأى أنه رافعٌ للحصر، فقال: “إنَّ الكفار لما حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادَّة والمحادَّة، جاءت الآية مناقِضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال إلا ما حرَّمتموه، ولا حرام إلا ما أحللتموه؛ نازلا منزلةَ من يقول: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة، والغرض المضادَّة لا النفي والإثبات على الحقيقة، فكأنه قال: لا حرام إلا ما حلَّلتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله به، ولم يقصد حلّ ما وراءه؛ إذ القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل”([13]).

ثالثًا: معرفة من نزلت فيه الآية، فيتعين الوعيد فيه قطعًا، كما هو الحال في حادثة الإفك، فليست حادثةً مسجلة ضدَّ مجهول في القرآن([14]).

رابعًا: علاقة السبَب بالعموم، وقد اختلف في ذلك الأصوليّون على قولين: من يرى أنه يخصّص، ومن يرى أنه لا يخصّص، وهناك صورة هي محلّ اتفاق وهي: أنه إذا اتَّفقت الآية مع سبب نزولها في العموم أو في الخصوص فلا إشكال، لكن إذا كان اللفظ عامًّا والسبب خاصّ فهنا يقع الإشكال، فذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، قال السبكي رحمه الله حاكيًا للخلاف في المسألة ومرجِّحا لأحد وجهيه: “فالصحيح الذي عليه الجمهور وبه جزم في الكتاب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وخالف في ذلك مالك والمزنيّ وأبو ثور، فقالوا: إن خصوص السبب يكون مخصِّصًا لعموم اللفظ”([15]).

والعبرة كما قال العلماء بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فآية الطلاق واللعان وحدّ القتل كلها وردت على أسباب خاصة، لكنها متعدّية إلى غيرها باللفظ، وما الأسباب إلا عِلل جعلها مناسبةً لنزول الحكم وتشريعه للناس؛ ولهذا قال أسيد بن الحضير: “ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر”([16])؛ وذلك أن سبب نزول التيمّم متعلّق بعائشة رضي الله عنما.

ومن قال بأن العبرة بخصوص السبب فهو لم يلغِ معنى النصِّ، ولم يعطِّله، وإنما أعمل القياسَ، فتكون النتيجة واحدةً.

أسباب النزول في المفهوم الحداثي([17]):

ينطلق الحداثيّون من أنَّ كلَّ آياتِ القرآن لها أسبابٌ تتعلَّق بها، وليس هناك ما ليس له سبب نزول، وبعضهم قد يستثني آياتٍ محدودةً يقول محمد سعيد العشماوي: “إنَّ كلَّ آيات القرآن وشريعته نزلت على أسباب، أي: لأسباب تقتضيها، سواء تضمَّنت حكمًا شرعيًّا أم قاعدة أصولية أم نظمًا أخلاقية”([18]). ويصل العشماوي من خلال هذه الدعوى إلى نتيجةٍ فيقول: “بعد وفاةِ النبيِّ انتهى التنزيل ووقف الحديثُ الصحيح، فسكنت بذلك السلطة التشريعيّة التي آمن بها المؤمنون، والتي كانت الأساسَ في قبولهم لتشريع والرضوخ لأحكامه”([19]).

ولا ينفكّ الحديث عن أسباب النزول عند هذا التيار من الإلحاح على قضية علاقة النصِّ بالواقع وارتباطه به، وإعطاء الأولوية للواقع في فهم النصّ، يقول حسن حنفي متحدِّثا عن أسباب النزول أنها: “تعني: أولوية الفكر على الواقع”([20]). ويرى أن الوحيَ لا يضيف تشريعًا في النزول، وإنما يتبنَّى مقترحاتٍ من البشر هي أسباب النزول، فيقول: “فهو ليس عطاءً من الوحي بقدر ما هو فرضٌ من الواقع وتأييد الوحي، وهذا هو معنى أسباب النزول”([21]).

وخلاصة الأمر: أن الحداثيين لم يسعَوا إلى موافقة العلماء في تعريفهم لأسباب النزول، ومن وافقهم في التعريف ظاهرًا فقد قيَّده بما يخرجه عن مفهومه عند العلماء، فنجد حسن حنفي حين يقترب من تعريفِ العلماء لأسباب النزول يأبى إلا أن يضيفَ صبغةً ماركسية؛ ليبقى التعريف مسجَّلًا وحصريًّا لصالح مدرسته، فقد عرَّف أسباب النزول بقوله: “الظرف أو الحداثة أو البيئة التي نزلت فيها الآية”([22]).

لكن سرعان ما تخون العبارة حسن حنفي، ويسبق عليه الكتاب، فيأتي بالعلامة الفارقة وهي لحن القول، فيقول: “إذا كان لفظ النزول يعني الهبوط من أعلى لأسفل، فلفظ السبب إنما يعني الصعود من أسفل لأعلى، ولما كانت الآية لا تنزل دون سبب كانت الأدنى شرطًا للأعلى”([23]).

وهذا التعريفُ لأسباب النزولِ ليس مناقضًا لكلام العلماء فحَسب، بل هو مناقضٌ للإيمان؛ لأنَّ القرآنَ كلام الله، وهو تشريعٌ وليس استجابةً لظروفٍ وأحوال بشرية أو اجتماعية كما هو تفسير الماركسية للأديان كلها.

ويرى آخرون أنَّ أسباب النزول ليست سوى سياقٍ اجتماعيّ للنصوص([24]).

ويرى آخرون أنَّ أسباب النزول هي الأسئلة الصريحة أو الضمنية التي وجِّهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتطلَّب الجواب عليها تشريعًا([25]).

وهو يريد من خلال اختزال أسباب النزول في الأسئلة أن يصلَ إلى تاريخيّة النص؛ لأنه لا يمكن أن تتكرَّر أسئلة الماضي في الحاضر، ولا أن تتكرَّر الأجوبة عليها كذلك مع تطوّر المستجدات وحدوث النوازل، وهذا ما صرَّح به([26]).

ويمكن ملاحظة عدَّة فروق بين أسباب النزول عند العلماء وعند الحداثيين، وهي:

أولا: التعريف: فالعلماء يعرفون أسبابَ النزول بما يتناسب مع علاقتها بالوحي، بينما يميِّع الآخرون التعريف حتى يصِلوا به إلى مصطلحاتٍ قانونية لا توحي بأي قداسةٍ، فالعشماوي يرى أن أسبابَ النزول متقاربةٌ من ناحية المعنى مع ما يُعرف بالأعمال التحضيرية في القوانين، أي: هي بمثابة المقترحات الأولية التي تصنع فيما بعد صيغة القانون([27]). وهذا متقارِب مع التعريف الذي مرَّ معنا لبعضهم من أنَّ الوحي ليس تشريعًا جديدًا، وإنما هو اختيار مقترح أو ترجيحه.

ثانيا: طرق معرفة أسباب النزول: فعند العلماء هي متوقفة على الرواية وصحَّتها عمن شهِد التنزيل، ولا مجال للاجتهاد فيها إلا بالترجيح عند تعدّد الروايات واختلافها، بينما يذهب الحداثيون إلى أبعد من ذلك، فالمقصود عندهم من أسباب النزول هو ارتباط الفكر بالواقع، وليس ذلك مرتبطًا بالرواية، بل يمكن استنباط النزول عقلا ودون النظر في الروايات والرجوع إليها، يقول حسن حنفي: “لا يهمّ معرفة سبب آية كسبب تاريخي في حدِّ ذاته، بل الدلالة العامة لأسباب النزول، فقد يختلف فيها الرواة، ولا يهمّ تعدد الأسباب، بل السبب أي ارتباط الفكر بالواقع”([28]).

ثالثا: ربط بعض أسباب النزول بالأساطير والإسرائيليات وجعلها أسباب متخيلة، فبعضهم يرى أن مروياتِ كعب الأحبار ووهب بن منبِّه هي أسباب نزول لقصص الأنبياء، وهذا يعني أن السببَ عندهم ليس مرتبطًا بوقت النزول ولا حدوثه، على خلاف ما عليه التعريف عند العلماء([29]). وليت شعري! ما مستنده في هذا الربط غير الخيال الواسع والمريض؟!

رابعا: تعدّي أسباب النزول إلى السياق التاريخي يجعل دراسة أسباب النزول تنظر إلى الوحي من منظور زمني، وهو نزوله في القرن السابع الميلادي، وما يصاحب هذه الفترة من أعراف وعادات وتقاليد عند الأمم، ومن ثم يتمّ فتح نافذة جديدة للتخلُّص من الوحي وتشريعاته؛ باعتبارها نتاجًا لفترة زمنية لا تتناسب مع القرن العشرين وما بعده، يندرج في ذلك الموقف من الحجاب والقوامة وقضايا المعتقد والحدود وغيرها، كلّها يتمّ التخلّص منها تحت هذا الاعتبار.

المبحث الثاني: التوظيف الحداثيّ لأسباب النزول:

لقد عمد الحداثيون إلى أسباب النزول، واهتموا بها، وليس غرض اهتمامهم تحقيقَها ولا التحقُّق منها، وإنما هو اهتمام مؤدلج لتأكيد مواقفَ مسبقة؛ ولذا فإن تسميةَ ممارستهم العلمية في التعرف على أسباب النزول توظيفًا هي الوصف الدقيق لما يقومون به، وقد وظَّفوا أسباب النزول للوصول إلى عدة نتائج أهمها:

أولا: ربطُ القرآن بالظروف التاريخية وجعلها مؤثِّرة في تشريعاته وحصرُه فيها: وهذا أحد أغراض البحثِ في أسباب النزول عند التيار الحداثيّ، فيكون ما تضمَّنه القرآن من الأوامر والنواهي ما هو إلا تشريعات محدودة الصلاحية، وليست طويلة المدة، فلا تصلح إلا لتلك الظروف التي نزل فيها النصّ.

ويكمن خَطر هذا التوظيف للحصول على هذه النتيجة في أن القول به يؤدِّي حتمًا إلى تاريخيته في الآتي: تاريخية تشكُّله، تاريخية تكوينه، تاريخية دلالته، وتاريخية فهمه ومصدره ونفي كونه من الله تعالى، ومن ثم فإنَّ الوسيلة الأهمَّ والتي تحقِّق المقصدَ هي أسباب النزول، يقول حنفي: “النصوص الدينية ذاتها نصوصٌ تاريخية، نشأت في ظروف اجتماعيةٍ خاصّة، عرفت باسم: أسباب النزول”([30]).

ويذهب الذهن السيَّال بأحدهم بعيدًا، فيرى أنَّ المفسِّرين أنفسَهم يوافقونه في الفكرة وهي تاريخية القرآن، ودليلُه على ذلك بحثُهم في أسباب النزول([31]). وحتى لا يقَع هذا الكاتب في ورطة إثباتِ ما يقول ادَّعي أنَّ المفسرين مارسوا العمليَّة دونَ وعيٍ منهم ولم يسمُّوها بنفس الاسم، فيقول: “إنَّ المفسرين القُدامى مارسوا القراءةَ التاريخية له -أي: الوحي- دون أن يقولوا ذلك، فهم نَسوا ذلك أو تناسوه على حدِّ تعبير أركون”([32]).

ويرى العشماوي أنه ينبغي معرفةُ الظروف التاريخية التي نشأ فيها القرآن، وأسباب النزول التي أدت إلى وجود الآيات؛ من أجل إثبات تاريخيته، فيرى أن المنهجَ السديد هو: “الذي يفسّر الآيات وفقًا لظروفها التاريخية وتبعًا لأسباب تنزيلها”([33]).

وقد أكَّد العشماوي القاعدةَ بالمثال، فرأى أن القاعدة يمكن التخلُّص من خلالها من حاكمية الشريعة فآية: {وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُون} [المائدة: 44]، لا تعني الحكومات المسلمة؛ لأنها نزلت في يهود المدينة([34]).

والأداة التي يمكن تبني محدودية صلاحية النصوص من خلالها هي أسباب النزول، يقول خليل عبد الكريم: “نحن نؤمن بتاريخية النصوص، وبربطها بأسباب ورودها، وبالفترة الزمنية التي ظهرت فيها”([35]).

ولكي يثبتوا هذه القضيةَ عمدوا إلى نزول القرآن منجَّمًا، واستغلّوا ذلك للقول بتاريخيته، فنزوله منجَّمًا دليل على أنه كان تفاعلا مع سياق اجتماعي معيَّن، وإجابةً على تساؤلاته، وحلًّا لمشكلاته، ولا يمكن تجاوزه لذلك([36]).

ثانيا: توظيف أسباب النزول للقول ببشرية القرآن: والقول ببشرية القرآن يعني نفي كونه من عند الله عز وجل كلًّا أو بعضا، بغضِّ النظر عن تحديد الجهة المؤلِّفة هل هي النبي صلى الله عليه وسلم أو التاريخ أو مجموعة مؤلفين، وإذا توصَّل الشخص إلى هذه النتيجة فإنه سوف يتعامل مع القرآن على أنه مجرَّد نصٍّ لغوي يخضع لمعايير تحليل النصوص، والتي تختلف من ثقافة إلى ثقافة.

ومع كثرة المراوغة في الخطاب الحداثي إلا أنه يمكن تلمُّس هذا الجانب عنده بوضوح، فهذا أركون ينظر إلى الوحي من نفس النافذة التي تحدِّثنا عنها فيقول: “ما كان قد قبل وعلم وفسر وعيش عليه بصفته الوحي في السياقات اليهودية والمسيحية والإسلامية ينبغي أن يدرس ويقارب منهجيًّا بصفته تركيبة اجتماعية لغوية مدعَّمة من قبل العصبيات التاريخية المشتركة والإحساس بالانتماء إلى تاريخ النجاة المشترك”([37]).

ويؤكِّد آخر نفس المعنى، فيرى أن القرآن مجرَّد منتَج ثقافيّ؛ لأنه تشكَّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عاما([38]).

ويصرح حسن حنفي بالتسوية بين الوحي وغيره فيقول: “النص في النهاية نصّ، لا فرق بين النصّ الديني والنص الأدبي والنص التاريخي والنص القانوني والنص الفلسفيّ، فالكل إبداع، ولا اختلاف بين النصوص من حيث تكوّنها وتشكيلها إلا في الدرجة، أما في النوع فلا اختلاف، فالمسافة بين النص الديني والنص الأدبي ليست بعيدة”([39]). وينسب الشرفي إلى حسن حنفي أنه حاول “الانطلاق من أسباب النزول ليبيِّن أن القرآن ليس وحيًا عن الله، ولكنه وحي عن الإنسان، وأنه يعبر عن تجربة محمد البشرية”([40]).

وهكذا فعل علي حرب حين رأى أن القرآن خطاب عربيّ فضلا عن أن حيثياته -أي: أسباب نزوله- تحيل إلى ممارسات تقع بين الفينة والأخرى، ومن هذه الحيثية هو إنساني وزماني([41]).

ثالثا: توظيف أسباب النزول لنفي ثبات أحكامه: ثبات الأحكام ميزة في الوحي لا تخفى على أحد، وإن كان هذا الثبات لا ينافي النسخ ومراعاة أحوال المكلفين، فهذه مجالات احتاطت النصوص الشرعية في مراعاتها، ولم تترك مدخلا لطاعن فيها، لكن الحداثيين لا يريدون للنصّ إلا أن يكون متحركًا ومائعًا وذا دلالة مسالمة لكل مفهوم يطرأ على البشرية، فسعوا إلى نفي التعالي المطلق للنصوص، وثبات مرجعيتها في كل وقت، وهم في ذلك بين مصرِّح ولاحن بالقول، فبعضهم يرى أن القرآنَ كان مجرَّدَ حلٍّ لمشكلات وقتية محكومة بسلطة الزمان والمكان، وأنها -هذه الحلول- في الأصل مقترحة ممن شهدوا التنزيل، وعليه فهي تخصّهم وتعنيهم([42]).

ويرى نصر أبو زيد أنه بالرجوع إلى أسباب التنزيل والسياق التاريخي يمكن التمييز في مجالات الأحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه لها السلف([43]).

وهذه النتيجة الإبداعية التي يطمح إليها نصر أبو زيد هي القول بأن الدلالة الجزئية للنصوص -التشريعات- يمكن إسقاطها من خلال تطور الواقع الاجتماعي، وتبقى هي مجرد وقائع تاريخية ودلالات([44]).

ويرى حسين أحمد أمين أن علاقة أسباب النزول بالتشريعات هي علاقة العلة بمعلولها، ومن ثمَّ فإنه ينبغي اطِّراحها؛ لأنها زالت بزوال أصحابها، ولم تعد لها صفة الدوام([45]).

ويأتي العشماوي فيؤكِّد على أن التشريعات لم تنزل مرة واحدة، وإنما كانت تنزل متى ما وجدت أسبابها، ويستغلّ فكرة النسخ ويربطها بأسباب النزول، بمعنى أن النسخ ناتج عن تبدّل الوقائع وتغيرها؛ ليلغي بذلك صلاحية الأحكام لكل زمن([46]).

المبحث الثالث: تعليق على التوظيف الحداثي لأسباب النزول:

لا يفتأ الحداثيون يتحدَّثون عن الموضوعية والعقلانية في التعامل مع النصوص الشرعية، ولكن الاختبارات العمليَّة عادة لا تكون لصالحهم، فالكاتب الحداثي يثبِت الشيء ونقيضَه، ويقرر القول ويتبني نتيجة تخالف تقريره؛ مما يجعل القارئ يتساءَل عن سلامة عقل المفكِّر وصحَّته النفسية قبل سلامة أدواته المعرفية وقدرتها على تحقيق مقصدِه وغايته، فهذا حسن حنفي يقول الشيء ونقيضَه، يقرِّر الحداثة ويدافع عن السلفية، وكلامه يردّ بعضه بعضًا؛ حتى أهل مدرسته فطنوا لهذا التناقض الفجّ، والذي يمارسه صاحبه بدون وعيٍ، فهذا جورج طرابيشي يرى أن حسن حنفي أتقن رقصَة المتناقضات، وليست هذه المتناقضات بين أطوار الفكر، ولا بين الكتب، بل هي في الكتاب الواحد، فوحدة الأضداد هي المناخ العام الذي تسبح فيه كتب حسن حنفي([47]).

وهكذا الأمر مع جمال البنا والشحرور وسائر أهل المدرسة، فالتناقض ميزة لا تخطئها العين، مع ضعف الأدوات، وقلة البضاعة العلمية، وعدم بلوغها نصاب المشاركة، فضلا عن التخصّص والنقد، ويمكن إظهار ذلك من خلال تعاملهم مع أسباب النزول، ويمكن إدراك ذلك من خلال الآتي:

أولا: فكرة النسخ، فهم مضطربون فيها اضطرابا شديدًا، وهي فكرة مرتبطة ارتباطا عضويًّا بأسباب النزول، وقد سبق بيان أنهم يرون أن الأحكامَ تتبدَّل بسبب تغير الواقع، فتنسخ، وهذا استخدام مزدوج لفكرة أسباب النزول وللنسخ، وغفل هؤلاء أنَّ لازم القول بالنسخ أنَّ ما لم ينسخ من الأحكام فهو باقٍ وصالح لكل زمان ومكان، هذا هو الطبيعي.

ثانيا: مع تمسّكهم بأسباب النزول وجعلها وسيلةً لإثبات وقتية الشريعة، فهم مع ذلك يشكِّكون في كثير من أسباب النزول، ويدَّعون اختلاقها من طرف الفقهاء والمحدثين، فمحمد شحرور ينفي العلاقةَ مطلقا بين القرآن وأسباب النزول([48])، وعبد المجيد الشرفي نفسه يشكِّك في المرويات في أسباب النزول([49])، ومحمد أركون يرى أن أسباب النزول أتت نتاج جدل في القرن الأول الهجري أدى إلى وضعها بعد تشكُّل المصحف وكتابته كتابةً يحوي فيها الناسخ والمنسوخ([50]).

ثالثا: فرحُهم بأسباب النزول في بعض المواطن هو متناقض مع منهجيتهم في ردِّ السنة وتبنيها، فمن المعلوم أن أسباب النزول منقولة بالرواية، ولا مجال للعقل فيها أو الاجتهاد، وقد ضخَّم القوم موضوعها وفرحوا به وشرَّقوا وغربوا، وهي في النهاية تبقى روايات تخضع لمعايير المحدثين في النقل، فما معيار الحداثيين في قبولها وردها؟ لا تجد جوابا على ذلك من ألسنة القوم، ولكن تجدهم بالاستقراء أنَّ ما وافق ما يطمحون إليه يفرحون به ويشيدون ولو كان ضعيفَ السند، وما سوى ذلك يردّونه ولو كان متواترا.

رابعا: نجد الحداثيين يتعاملون مع الثقافةِ وأطروحات المستشرقين تعاملا بنيويًّا، ويرون أنها ثقافة متعالية على التاريخ وعلى المؤثرات، وموضوعية جدًّا، في حين يتعاملون مع الوحي بالنقيض تماما، مع أن الأُولى لا خلاف في بشريتها، وأنها لم تكن وليدةَ عامل واحد، بينما الوحي منسوبٌ إلى رب العالمين، وهو متعال على الخلق وعلى حاجاتهم.

أما ما ادَّعوه من وقتية الشريعة فهو لا ينهض، ولا يمكن قبوله؛ لأن النصوص تردّه، والعقل يرفضُه، ويمكن ملاحظَة ذلك من خلال التشريعات العامّة، سواء في العبادات كالصلاة والصيام والحج، أو في المعاملات وقواعدها، أو في العقود كالأنكحة، وتمسك المسلمين بهذه العبادات والشعائر منذ ختم الرسالة إلى يومنا هذا.

والشريعة وإن نزلت على البشر وخاطبتهم وراعت مصالحهم “فإن وضع الشريعة إذا سلم أنها لمصالح العباد فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحدّ الذي حدَّه، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم؛ ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلة على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحدّ المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض”([51]).

وخلاصة الأمر: أن أسباب النزول عصيَّة على المحاولات التي يحاول الحداثيون استغلالها من خلالها استغلالا مزدوجًا، فهذا مخالف لغرض البحث فيها، ولطبيعتها أيضا، وقد كانت أسباب النزول عند المفسرين أحد العلوم المعينة على فهم الوحي وإبداء المناسبات بشرط إخضاعها للضوابط العلمية في التفسير ومناهج المفسرين، وحين يعدل بها عن ذلك فإنها تصير أجنبية على موضوعها، وأداة فاسدة في يد مستعملها، وهو ما وقع للحداثيين حين نظروا إلى علوم القرآن بازدراء، ولم يقنعوا بكمالها وقوتها في نفسها، وكونها عصية على التحريف، فراموا ما لا سبيل إليه، فتضاربت أقوالهم بحسب أهوائهم، وتنافرت كلماتهم، وجاءت نتائجهم ضعيفة، لا تصمد أمام المساءلة العلمية الجادَّة.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) البرهان في علوم القرآن (1/ 31-32).

([2]) مجموع الفتاوى (13/ 340).

([3]) ينظر: تاريخ القرآن الكريم لعبد الصبور شاهين (ص: 30).

([4]) الإتقان (1/ 31).

([5]) مباحث في علوم القرآن لصبحي صالح (ص: 132).

([6]) أسباب النزول للواقدي (1/ 4).

([7]) الإتقان (1/ 115).

([8]) ينظر: الإتقان (1/ 116).

([9]) مجموع الفتاوى (13/ 339).

([10]) البرهان (1/ 22-23).

([11]) البرهان (1/ 24).

([12]) ينظر: تفسير الماوردي (1/ 157).

([13]) ينظر: البرهان (1/ 23).

([14]) ينظر: تفسير القرطبي (10/ 150).

([15]) الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 158).

([16]) رواه البخاري (336).

([17]) تنبيه: لا بأس أن نسجِّل ملاحظةً، وهي أن عدمَ انضباط أصول الحداثيّين جعل نسبة الأقوال إليهم هي على سبيل الغلبة، وذلك راجع للاضطراب داخل المذهب، بل أحيانا يضطرب الشخص الواحد في أقواله، وعليه فهُم مختلفون في أسباب النزول وجودًا وعدمًا، وممن أنكرها منهم محمد شحرور؛ بناء على تفريقه بين القرآن والكتاب، فنفى وجود أسباب نزول للقرآن، وأثبتها للكتاب، وجمال البنا ينفي جدوائية أسباب النزول على خلاف ما عند قومه. ينظر: الكتاب والقرآن (ص: 62)، وفقه جديد (ص: 167 وما بعدها).

([18]) جوهر الإسلام (ص: 197).

([19]) أصول الشريعة (ص: 65).

([20]) اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية (ص: 37).

([21]) التراث والتجديد (ص: 135-136).

([22]) هموم الفكر والوطن (1/ 20).

([23]) هموم الفكر والوطن (1/ 20).

([24]) ينظر: نقد الخطاب الديني (ص: 200).

([25]) في شرعية الاختلاف لعلي أومليل (ص: 49).

([26]) في شرعية الاختلاف (ص: 54).

([27]) أصول الشريعة (ص: 68).

([28]) من النقل إلى العقل -الجزء الأول- (ص: 73).

([29]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، لمحمد أركون (ص: 30).

([30]) هموم الفكر والوطن (1/ 73).

([31]) ينظر: نقد النص، لعلي حرب (ص: 68).

([32]) نقد النص (ص: 79).

([33]) حقيقة الحجاب وحجية الحديث (ص: 48).

([34]) حقيقة الحجاب وحجية الحديث (ص: 48).

([35]) الأسس الفكرية لليسار الإسلامي ضمن الأعمال الكاملة (ص: 108).

([36]) الإسلام والعصر تحديات وآفاق (ص: 108).

([37]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 21).

([38]) مفهوم النص دراسة في علوم القرآن (ص: 27).

([39]) حوار الأجيال (ص: 412).

([40]) الإسلام والحداثة (ص: 89).

([41]) نقد النص (ص: 77).

([42]) التراث والتجديد، لحسن حنفي (ص: 135).

([43]) دوائر الخوف في خطاب المرأة (ص: 11).

([44]) نقد الخطاب الديني (ص: 210).

([45]) حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة (ص: 75).

([46]) الشريعة الإسلامية والقانون المصري (ص: 41).

([47]) ازدواجية العقل دراسة تحليلية لكتابات حسن حنفي (ص: 10).

([48]) الكتاب والقرآن (ص: 92).

([49]) الإسلام بين الرسالة والتاريخ (ص: 48).

([50]) من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي (ص: 74).

([51]) الموفقات للشاطبي (2/ 295).

(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى