كتب وبحوث

أسباب الإجمال: جمع ودراسة

اسم البحث: أسباب الإجمال .. جمع ودراسة.

إعداد: السعيد الصمدي.


مقدمة:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، فلقد أنزل الله القرآن الكريم بلسان عربي مبين، على رسول عربي، قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 192 – 195] ومن هنا فإن استجلاء الدلالة واكتساب المعنى من القرآن والسنة، متوقف على مدى الدراية والتمكن من اللغة العربية، في مستوياتها ومكوناتها؛ لذا عُنِي علماء الشريعة باللفظ العربي من حيث معانيه ودلالاته، عناية بالغة؛ لكونه العمدة في عملهم، ومناط الحُكم الشرعي ودليله، فوضعوا لنا القواعد التي تُعِين على فَهْم النص الشرعي فهمًا صحيحًا، وتضبط سبلَ استنباط الأحكام منه، ومن خلال استقراء النصوص الشرعية نجد منها ما هو واضح الدلالة ومنها غير واضح الدلال، ومن أقسام هذا الأخير المجمل، وله أسباب كثيرة، مبثوثة في كتب أصول الفقه، وقد قمت في هذا البحث بجمع ودراسة هذه الأسباب، وذلك تحت عنوان: (أسباب الإجمال: جمع ودراسة).

وقسمت هذا العرض إلى خمسة مباحث، وتحت كل مبحث مطالب، وتحث بعض المطالب فروع، وكل ذلك مسبوق بهذه المقدمة المنهجية، وتفصيل ذلك على النحو الآتي:

المبحث الأول: تعريف أسباب الإجمال.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: تعريف الأسباب لغة واصطلاحاً.
المطلب الثاني: تعريف الإجمال لغة واصطلاحاً.

المبحث الثاني: علاقة الإجمال بالقرآن والسنة.
وتحته أربعة مطالب:
المطلب الأول: هل يدخل الإجمال نصوص الشريعة؟.
المطلب الثاني: هل الإجمال يدخل الأقوال والأفعال؟.
المطلب الثالث: بقاء المجمل في القرآن بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
المطلب الرابع: مصادر تفسير المجمل في الشريعة الإسلامية.

المبحث الثالث: هل يندرج عمل تحت المجمل؟.
المطلب الأول: لا يجوز العمل بالمجمل إلا بقرينة مبينة.
المطلب الثاني: جواز العمل بالمجمل.

المبحث الرابع: أسباب الإجمال.
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: أسباب إجمال الأقوال.
ويندرج تحته ثلاثة فروع:
الفرع الأول: الأسباب النحوية.
الفرع الثاني: الأسباب البلاغية.
الفرع الثالث: الأسباب الراجعة إلى الوضع اللغوي.
المطلب الثاني: أسباب إجمال الأفعال.

المبحث الخامس: نماذج تطبيقية للمجمل في نصوص القرآن والسنة.
وتحته أربعة مطالب، وهي:
المطلب الأول: أمثلة ما يرجع إلى الأسباب النحوية.
وتحته فرعان:
الفرع الأول: مثال تعدد مرجع الضمير.
الفرع الثاني: التردد الحاصل في الإضافة.

المطلب الثاني: أمثلة ما يرجع إلى الأسباب البلاغية.
وتحته فرعان:
الفرع الأول: مثال التردد الحاصل من احتمال الحذف وتقدير المحذوف.
الفرع الثاني: التردد الحاصل من الإبهام.

المطلب الثالث: أمثلة ما يرجع إلى أسباب الوضع اللغوي.
وتحته ثلاثة فروع:
الفرع الأول: التردد الحاصل بسبب الاشتراك.
الفرع الثاني: التردد الحاصل من تغير الشكل.
الفرع الثالث: التردد بين كون الكلمة اسما أو فعلا.

المطلب الرابع: أمثلة ما يرجع إلى أسباب إجمال الأفعال.
وتحته أربعة فروع:
الفرع الأول: إجمال الفعل مطلقاً.
الفرع الثاني: تردد الفعل بين الفتيا والقضاء.
الفرع الثالث: إجمال التروك.

ثم خاتمة تعرضت فيها لأهم نتائج الدراسة.

واللهَ أسأل التوفيق والسداد، والإخلاص في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

———————-

المبحث الأول: تعريف أسباب الإجمال:

المطلب الأول: تعريف الأسباب لغة واصطلاحا:

الأسباب لغة جمع سبب، ويطلق في اللغة على عدة معان: فيأتي بمعنى “الحبل”[1] ومنه قوله تعالى: ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ﴾ [الحج: 15] [2] وبمعنى “الطريق”[3] ومنه قول تعالى: ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ [الكهف: 85] [4] وبمعنى “اعْتِلاقُ قَرابَةٍ”[5]ومنه حديث”كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ سَبَبِي وَنَسَبِي” وتسمى الوصل والمودات بين القوم سببا لأنهم بها يتواصلون في الدنيا[6] ومنه قوله تعالى: ﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166] [7] وبمعنى “الباب والناحية والمراقي”[8] ومنه قوله تعالى: ﴿ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ ﴾ [غافر: 37] ومنه قول زهير:
ومن هاب أسباب المنـايـا يَنَلـْنـَهُ ♦♦♦ ولو رامَ أسباب السـماء بِـسـُلَّمِ[9]

وخلاصة ما تقدم أن السبب هو كل ما يتوصل به ويتوسل إلى شيء، أو إلى موضع أو حاجة تريدها من أجل الوصول إلى المقصود.[10] وأما السبب في اصطلاح الأصول فله تعاريف كثيرة، نكتفي بذكر تعريف القرافي: “ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته”[11]

المطلب الثاني: تعريف الإجمال لغة واصطلاحا:
الإجمال في اللغة من أجملَ يُجمل إجمالاً، فهو مُجْمِل، والمفعول مُجْمَل. وقد ذكر ابن فارس لمادة (جمُل) أصلين قال:” الْجِيمُ وَالْمِيمُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا تَجَمُّعُ وَعِظَمُ الْخَلْقِ، وَالْآخَرُ حُسْنٌ.

فَالْأَوَّلُ قَوْلُكَ: أَجْمَلْتُ الشَّيْءَ، وَهَذِهِ جُمْلَةُ الشَّيْءِ. وَأَجْمَلْتُهُ حَصَّلْتُهُ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [12].

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمَلُ مِنْ هَذَا ; لِعِظَمِ خَلْقِهِ. وَالْجُمَّلُ: حَبْلٌ غَلِيظٌ، وَهُوَ مِنْ هَذَا أَيْضًا. وَيُقَالُ أَجْمَلَ الْقَوْمُ كَثُرَتْ جِمَالُهُمْ. وَالْجُمَالِيُّ: الرَّجُلُ الْعَظِيمُ الْخَلْقِ، كَأَنَّهُ شُبِّهَ بِالْجَمَلِ ; وَكَذَلِكَ نَاقَةٌ جُمَالِيَّةٌ.
وَالْأَصْلُ الْآخَرُ الْجَمَالُ، وَهُوَ ضِدُّ الْقُبْحِ. وَرَجُلٌ جَمِيلٌ وَجُمَالٌ”.[13] والأصل الأول هو المقصود هنا وهو المجموع من أجمل الحساب إذا جمع وجعل جملة واحدة.

وتجدر الإشارة هنا أن الأصوليين عند تعريفهم للمجمل لغة: فإنهم يعرفونه بقولهم: أجملت القول: إذا أبهمته ولا يوجد في معاجم اللغة المطبوعة من أشار إلى هذا المعنى، بتعريف الأجمال بالإبهام، وقد ذكر الدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة مخرجا لذلك فقال: ” ولعل لهم مستندا في ذلك”.[14]

أما المجمل في اصطلاح الأصوليين، فيختلف باختلاف مدارسهم سواء بسواء، وإن اتفقت كلمة الأصوليين- متكلمين وأحنافا-، على اعتبار المجمل من أقسام المبهم والخفي دلالته.

فالمجمل عند الأحناف أحد أربعة أقسام للمبهم، ولهم فيه تعاريف عدة، فعرفه البزدوي في أصوله بقوله:”ما ازدحمت فيه المعاني، واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة، بل بالرجوع إلى الاستفسار، ثم الطلب، ثم التأمل”.[15]

وعرفه السرخسي في أصوله فقال: “وأما المجمل فهو ضد المفسر، مأخوذ من الجملة، وهو لفظ لا يفهم المراد منه إلا باستفسار من المجمل، وبيان من جهته يعرف به المراد، وذلك إما لتوحش في معنى الاستعارة، أو في صيغة عربية مما يسميه أهل الأدب لغة غريبة”.[16]

ويتلخص مما سبق ما يلي: أن المجمل عند الأحناف:
1- هو ما ازدحمت حوله المعاني على وجه لا يدرك من نفس العبارة.
2- لبيان المجمل يتعين الرجوع إلى المجمِل.
3- إن السبيل لبيان الإجمال هو النقل.

وتجدر الإشارة إلى أن المجمل عند الأحناف هو: ما أمكن إدراك المراد منه بالنقل لا بالعقل، فإن أمكن إدراك المراد من اللفظ بالعقل فهو المشكل عندهم، أما إذا كان الخفاء راجعا لعارض غير اللفظ فهو الخفي، وإن لم يمكن إدراكه أصلا لا بالنقل ولا بالعقل، فهذا هو الذي يسمى عندهم بالمتشابه.

وأما المجمل عند المتكلمين فقد عرف بعدة تعريفات، وسوف أكتفي بذكر تعريف واحد من التعاريف التي سلمت من الاعتراضات، وهو تعريف السبكي تاج الدين، قال: “هو ما لم تتضح دلالته”. قال شارحه جلال الدين المحلي: ” من قول أو فعل وخرج المهمل؛ إذ لا دلالة له، والمبين لاتضاح دلالته”.[17]

المبحث الثاني: علاقة الإجمال بالقرآن والسنة:

المطلب الأول: هل يدخل الإجمال نصوص الشريعة؟

ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة وأدرجوه ضمن مباحثهم الأصولية، وأنكر ذلك داود الظاهري، يقول القرافي -رحمه الله-: ” يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – خلافاً لقوم، لنا أن آية الجمعة، وآية الزكاة مجملتان، وهما في كتاب الله تعالى” ثم شرع في إبطال قول من قال بالمنع وهو داود بن علي الظاهري.[18] ويقول يقول التاج السبكي: “والأصح وقوعه في الكتاب والسنة خلافا لداود الظاهري”[19]

ويتلخص مما سبق ما يلي: اتفاق العلماء على وقوع الإجمال في نصوص الكتاب والسنة، وإليه ذهب جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ولكن بالرغم من اتفاقهم على ذلك، فأنهم قد يختلفون في تطبيقها على الفروع الفقهية، فقد اختلفوا رحمهم الله تعالى في عد كثير من النصوص مجملة، بينما نفاه البعض الآخر كما يرى ذلك في كتب الفروع، ولاسيما اختلافهم في اعتبار القرائن ونفيها، وسيأتي ذلك في الأمثلة التطبيقية إن شاء الله تعالى.

المطلب الثاني: هل الإجمال يدخل الأقوال والأفعال؟

من المقرر عند جملة من الأصوليين أن الإجمال كما يكون في الأقوال، يكون في الأفعال، ومثال ذلك: أن فعل الرسول – عليه الصلاة والسلام – فيحتمل وجهين احتمالا متساويا مثل ما روى من جمعه في السفر، فإنه مجمل؛ لأنه يجوز أن يكون في سفر طويل أو في سفر قصير، فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، ومثله أيضا أن رجلاً افطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، فهو مجمل لاحتمال أن يكون الإفطار بالجماع أو بتناول الطعام، فلا يحمل أحدهما دون الآخر إلا بدليل.

يقول الإسنوي: ” المجمل قد يكون فعلا أيضا كما إذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من الركعة الثانية، فإنه يحتمل أن يكون عن تعمد، فيدل على جواز ترك التشهد الأول، ويحتمل أن يكون عن سهو، فلا يدل عليه “.[20]

المطلب الثالث: بقاء المجمل في القرآن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

اختلف العلماء في جواز بقاء المجمل في القرآن وفي السنة، بعد وفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم – على ثلاثة أقوال:
وقد لخص بدر الدين الزركشي مذاهب العلماء في المسألة بقوله: ” هل بقي في القرآن مجمل لا يعرف معناه بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم -؟ منعه بعضهم، لأن الله تعالى أكمل الدين. وقال آخرون بإمكانه، وفصل إمام الحرمين وابن القشيري فجوزاه فيما لا يكلف فيه، ومنعاه فيما فيه تكليف، خوفا من تكليف ما لا يطاق”.[21]

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: مقررا ذلك:” وقيل: إنه لم يبق مجمل في كتاب الله – تعالى- بعد موت – النبي صلى الله عليه وسلم- وقال إمام الحرمين: إن المختار أن ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه؛ لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال، وما لا يتعلق به تكليف؛ فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته – صلى الله عليه وسلم- “.[22]

المطلب الرابع: مصادر تفسير المجمل في الشريعة الإسلامية:

لقد اتفقت كلمة الأصوليين – متكلمين وأحنافاً- إلى أن بيان المجمل إنما يكون بالرجوع إلى المجمِل نفسه والآيات والأحاديث أكثر من أن تحصر، ويدخل في ذلك النصوص الدالة على وجوب طاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وامتثال أمره ونهيه وكونه مبينا ومبلغاً عن الله تعالى.

يقول فتحي الدريني في ذلك: “كان طبيعيا أن يتولى القرآن الكريم نفسه تفسير ما أجمله، لكن الواقع أن القرآن الكريم قد انتهج أسلوب الإجمال في التشريع، مما استلزم بالتالي إلقاء عبء التفسير والتفصيل على السنة؛ لذا كان من أولى وظائف السنة تفسير وتفصيل ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ مجملة، فالرسول – عليه الصلاة والسلام -ليس مبلغاً فقط، بل هو مشرع أيضا، لأن التبيين الذي أمره به، إنما تلقاه وحيا فعبر عنه بكلمات من عنده، ليسهل عليه مهمة التفسير، والتفصيل، والإفهام، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾[23]

فإذا وصفه الله تعالى بأنه مبلغ: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [24] فقد وصفه أيضا بأنه مبين، قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [25] والتفسير نوع من البيان.
وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [26] وكلمة (ما) عامة، تشمل كل ما أمر به ونهى عنه مما يتعلق بالأحكام التكليفية، فهو واجب الإتباع ولا نقصد بالتشريع إلا هذا.
وهكذا تبين بأن القرآن والسنة هما المصدران الأساسيان في تفسير المجمل مادام لا يدرك معناه إلا من المشرع نفسه”[27].

المبحث الثالث: هل يندرج عمل تحت المجمل؟:

ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم المجمل التوقف، مع وجوب اعتقاد أحقيته فيما أريد به ويجب التوقف في العمل به إلى أن يتبين المراد منه بطرق البيان، كما بينها الأصوليون وعلى رأسها الرجوع إلى المجمل (بالكسر) وعلى المجتهد الاستفسار وطلب البيان كما أشار إليه الأحناف ولا يجوز العمل به إلا بدليل خارجي صحيح فهو محتاج إلى بيان وخالف في ذلك بعض الأئمة، وتفصيل ذلك في المطلبين الآتيين:

المطلب الأول: لا يجوز العمل بالمجمل إلا بقرينة مبينة:

قال ابن السبكي:” لا يعمل به إلا بقرينة مبينة”.[28]

ويقول الزركشي – رحمه الله- في مسألة حكم المجمل:
” وحكمه: التوقف فيه إلى أن يرد تفسيره، ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع. قاله الأستاذ أبو إسحاق. وقال المازري: إن كان الاحتمال من جهة الاشتراك واقترن به تنبيه، أخذ به، وإن تجرد عن تنبيه واقترن به عرف عمل به، وإن تجرد عن تنبيه وعرف وجب الاجتهاد في المراد منها، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلا في المجمل لخفائه، وخارجا منه لإمكان استنباطه ” ثم قال: ” وقد يحمل المجمل على جميع معانيه غير المتنافية نظير العام، ولم يتعرضوا لذلك فيه، ومن أمثلته قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ﴾ [29].

فإن السلطان مجمل، يحتمل الحجة والدية والقود، ويحتمل الجميع، لا جرم أن الشافعي يخير بين القتل وغيره، لأن الكل بالإضافة إلى اللفظ سواء. قاله إلكيا الطبري في ” أحكام القرآن”.[30] وإلى هذا المعنى ذهب الإمام الجصاص الحنفي(ت 370هـ) في أحكام القرآن.

حيث قال -رحمه الله- عند تعرضه لتفسير آية الوضوء من سورة المائدة: “فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمتى ورد فيه من البيان عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى، وقد ورد البيان عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – غسل رجليه في الوضوء…” الخ.[31]

♦ حكم المجمل عند الشاطبي:
وقد عقد الشاطبي فصلا كاملا في كلامه عن المجمل وحكمه مع بيان أسبابه في كتابه الماتع الموافقات حيث قال:
“والبيان أن المجمل لا يتعلق به تكليف إن كان موجودا؛ لأنه إما أن يقع بيانه بالقرآن الصريح أو بالحديث الصحيح، أو بالإجماع القاطع”.[32]

ورجح – رحمه الله – بيان حال التوقف ثم قال: “فإن وجد في الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم فلا يصح أن يكلف بمقتضاه لأنه تكليف بالمحال، وطلب ما لا ينال، وإنما يظهر هذا الإجمال في المتشابه الذي قال الله تعالى فيه: وآخر متشابهات”[33].[34]

ثم قال: “إن جاء في القرآن مجمل، فلابد من خروج معناه عن تعلق التكليف به، وكذلك ما جاء منه في الحديث النبوي وهو المطلوب”.[35]

وممن أفاض الكلام حول هذه المسألة الشافعي في الرسالة وابن قدامة في روضة الناظر وابن النجار في شرح الكوكب المنير والشنقيطي في أضواء البيان. وقال محمد بكر إسماعيل:
“ينبغي التوقف في العمل بالمجمل إلا إذا ورد من الشارع ما يزيل إجماله ويكشف معناه.
وقد وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة ألفاظ كثيرة مجملة في مواضع، مبينة في مواضع أخرى بياناً وافياً، ووردت ألفاظ أخرى مجملة مبينة بعض البيان، فكانت هذه الألفاظ من قبيل المشكل الذي يحتاج إلى نظر وتأمل، لإزالة إشكاله، ومعرفة المقصود منه.

من النادر جدا أن تجد ألفاظاً في القرآن الكريم غير واضحة الدلالة على المعنى على وجه من الوجوه المعقولة، بل ذلك مفقود فيه، لأن القرآن الكريم قد نزل هداية للخلق، ومنهجاً للحياة، فجاء من أجل ذلك مبينا في معانيه ومراميه.

وقد أمرنا الله تعالى بتدبر آياته فكان مقتضى ذلك الأمر، أن تكون معانيه في مستوى إدراكنا على وجه مقبول شرعاً وعقلا، حتى الأشياء التي اختص الله بعلمها لم يخف الله جل شأنه –عنا دلالتها على المعنى الذي يمكننا تصوره، على نحو يناسب عقولنا.[36]

لكن تجدر الإشارة إلى أن اللفظ المجمل إذا ورد في النصوص بيانه سقط عنه حكم الإجمال ووجب العمل بيانه وارتفع عنه حكم الإبهام.

وفي ذلك يقول محمد أبو زهرة: “إذا جاء البيان لا يعد بالإجماع، اللفظ المجمل من قبيل المبهم لأنه بإضافة البيان إليه يخرج من الإبهام، ولكن قد يحدث أن يجهل بعض الباحثين المبين، فيكون الإبهام في المجمل بالنسبة لهم، ولا يعد إبهاما في ذاته، فقد زال الإبهام بالبيان”.

المطلب الثاني: جواز العمل بالمجمل:

وذهب بعض الأئمة إلى جواز العمل بالمجمل، وإن قبل بيانه، واستدلوا بأدلة، وإلى هذا ذهب السمعاني في قواطع الأدلة في الأصول، قال- رحمه الله-:” فإن قال قائل ما حكم المجمل قبل ورود البيان؟ قد قالوا: أن التزام المجمل قبل بيانه واجب والدليل عليه أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما بعث معاذا إلى اليمن قال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن فى أموالهم حقا يؤخذ من أغنيائهم ويرد فى فقرائهم” فقد أوجب عليهم التزامها قبل بيانها”[37].

وممن أجاز الخطاب بالمجمل قبل البيان الغزالي والماوردي والروياني يقول الشوكاني فيما نقله عنهم في الإرشاد:
“يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – بعث معاذا إلى اليمن (الحديث السابق) وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها، قال: وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد أمرين:
الأول: أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يعقبه من البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها.

والثاني: أن الله تعالى جعل من الأحكام: جلياً وجعل منها خفياً، يتفاضل الناس في العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها، فلذلك جعل منها مفسرا جليا وجعل منها مجملا خفيا ” [38]

ويقرر هذا المعنى الغزالي بقوله: يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما،لأن قول الله تعالى: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141] يعرف منه وجوب الإيتاء، وأنه حق في المال، فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له، ولو عزم على تركه عصى، وكذلك مطلق الأمر إذا ورد، ولم يتبين أنه الإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للمرة أو للتكرار أفاد على علم الاعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين، وكذلك قوله تعالى: ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 237] يعرف إن كان سقوط المهر بين الزوج والولي فلا يخلو عن أصل الفائدة، وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر، بل واقع في الشريعة والعادة بخلاف قول المخالف”[39].

المبحث الرابع: أسباب الإجمال:

للإجمال أسباب كثيرة، يصعب استقصاؤها، لأن هذا المبحث تناولته علوم عديدة، كعلم اللغة، والتفسير، وأصول الفقه وغيرها، وكل يذكر أسباب الإجمال من جهته، وقد قمت بتلخيص هذه الأسباب من كتاب (أسباب الإجمال في الكتاب والسنة) للدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة.[40] فأقول الإجمال يرد في الأقوال والأفعال والتروك كما تقرر من قبل، وسوف أتعرض لكل واحد منها في مطلب وتحت كل مطلب فروع، فإلى المطلب الأول.

المطلب الأول: أسباب إجمال الأقوال:

الفرع الأول: الأسباب النحوية:

وهي كثيرة، ذكر منها الدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة اثني عشر سببا، وهي، تعدد مرجع الضمير، تعدد مرجع الصفة، تعدد مرجع الإشارة، تعدد صاحب الحال، تعدد متعلق الجار والمجرور، تعدد متعلق الظرف، التردد الحاصل من الإضافة، التردد بين الصفة والحال، التردد بين المفعول المطلق والحال، التردد بين الفاعل والمفعول، تردد اسم الفاعل والمفعول بين الماضي والحال والمستقبل، تعدد فاعل المفعول المطلق.

الفرع الثاني: الأسباب البلاغية

وهي ستة أسباب: التردد الحاصل من احتمال الحذف وتقدير المحذوف، التردد الحاصل من الإبهام، التردد بين التقديم والتأخير، التردد الحاصل من إرادة فرد معين من أفراد الحقيقة الواحدة، التعدد الحاصل من تعذر الحقيقة وتساوي المجازات، التردد بين المجاز والإضمار.

الفرع الثالث: الأسباب الراجعة إلى الوضع اللغوي:

وفيه خمسة أسباب: التردد الحاصل من تغير الشكل، التردد الحاصل من تغير النقط، التردد الحاصل من الإفراد والتركيب، التردد بين كون الكلمة اسما أو فعلا، التردد بسبب الاشتراك.

المطلب الثاني: أسباب إجمال الأفعال

ومعناه أن الفعل إذا كان لا يدل بمجرده على جهة وقوعه، فورد على هيئة تتضمن احتمالات متساوية، فلا يمكن معها ادعاء العموم؛ إذ العموم يعني الشمول، أي: وقوع الفعل على كل هذه الاحتمالات، والفعل لا يقع إلا على وجه معين، فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه، فلما كان هذا وصفه كان مجملا.

وينقسم إلى خمسة أنواع، وهي: إجمال الفعل مطلقا، إجمال الفعل لاحتمال الخصوصية، تردد الفعل بين الفتيا والقضاء، التردد فيما تدل عليه أقضيته – صلى الله عليه وسلم -، إجمال التروك:

المبحث الخامس: نماذج تطبيقية للمجمل في نصوص القرآن والسنة:[41]

وبعد هذه النظرة المفصلة للمجمل وأقسامه وأسبابه ومذاهب العلماء فيه سنتناول إن شاء الله – تعالى – نماذج تطبيقية للمجمل، في نصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، وذلك في المطالب الآتية:

المطلب الأول: أمثلة ما يرجع إلى الأسباب النحوية

قلنا في المبحث السابق إن الأسباب التي ترجع إلى الأسباب النحوية هي اثني عشر سببا، وسوف أذكر هنا بعض النماذج التطبيقية لبعض تلك الأسباب:
الفرع الأول مثال تعدد مرجع الضمير:

المثال الأول: قوله تعالى: ﴿فلم تجدوا ماء فتيمموا﴾[42] فإن الضمير في قوله: ﴿ فَتَيَمَّمُوا ﴾[النساء: 43] يصح أن يرجع إلى:
أولا: الحاضرون والمسافرون جميعا، فعلى ذلك إذا لم يجد الحاضر الماء تيمم وهو قول الأئمة الأربعة.
ثانيا: المسافرون وحدهم، وعليه فإن الحاضر إذا فقد الماء لم يجزه التيمم، وبه قال صاحبا أبي حنيفة.

المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره».[43]

والشاهد من الحديث الضمير في «جداره» فإنه يمكن أن يعود الى:

أولا: الغارز، أي: لا يمنعه جاره أن يفعل ذلك في جدار نفسه، وعليه فلا يجب تمكين الجار، إذا طلب من جاره أن يضع خشبة على جدار المطلوب منه، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة ومالك.

ثانيا: أن يعود إلى قوله «الجار» فعليه إذا كان الجدار لواحد وله جار فأراد أن يضع جذعه عليه جاز مطلقا سواء أذن المالك أم لا. وهو مذهب أحمد، وأحد قولي الشافعي، وهو قول ابن حبيب من المالكية.

الفرع الثاني: التردد الحاصل في الإضافة:
مثاله: حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع».[44]

والشاهد من الحديث قوله: «كل» فإن إضافة الأكل إليه يحتمل:
أولا: أن تكون من الإضافة إلى المفعول، فعليه يكون أكل السباع حرام.
ثانيا: أن تكون مضافة إلى الفاعل، وعليه يكون مأكول كل ذي ناب من السباع حرام، فيكون الحديث مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ﴾ [المائدة: 3][45]  
المطلب الثاني: أمثلة ما يرجع إلى الأسباب البلاغية:

سبق وأن قلنا أن الأسباب البلاغية للإجمال ستة أسباب، وسنمثل لبعض منها في الفرعين الآتيين:
الفرع الأول: مثال التردد الحاصل من احتمال الحذف وتقدير المحذوف:
مثاله: قوله تعالى: ﴿ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ﴾ [المائدة: 6][46] ففيه احتمالان:
الأول: تقدير الحذف تقديره “محدثين” أو “من النوم” وعليه فلا يجب التيمم ولا الوضوء لكل صلاة، إلا بسبب الحدث، أو النوم، ويكفي تيمم واحد لعدة صلوات وإليه ذهب أبو حنيفة.

الثاني: ألا محذوف في الآية، فيقتضي ظاهر الآية وجوب الوضوء، أو التيمم، لكل صلاة، لكن خصصت السنة من ذلك الوضوء، فبقي التيمم على أصله، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي.

الفرع الثاني: التردد الحاصل من الإبهام:
وضابطه ما اشتمل من اللفظ على إبهام، يحتمل أكثر من تقدير، يختلف به المعنى:
مثاله: قوله تعالى: ﴿ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ ﴾ [النساء: 24] [47]

والشاهد من الآية قوله تعالى: ﴿ مُحْصِنِينَ ﴾ [النساء: 24] فإنه يحتمل احتمالات:
الأول: متزوجين، وعليه يكون المعنى اطلبوا منافع البضع بأموالكم على وجه النكاح لا على وجه السفاح فتكون الآية عامة من هذا الوجه.
الثاني: عاقدين التزويج.
الثالث: متعففين غير زانين، أي: تزوجوهن على شرط الإحصان فيهن، وعليه يحرم نكاح المسافحات.

المطلب الثالث: أمثلة ما يرجع إلى أسباب الوضع اللغوي:

تقرر فيما سبق أنه خمسة أسباب وسنذكر أمثلة تطبيقية لعض منها فيما يلي:
الفرع الأول: التردد الحاصل بسبب الاشتراك:
وحقيقته: وضع اللفظ لحقائق متعددة بأوضاع مختلفة، مع عدم القرينة التي تعين المراد، وهو نوعان:
الأول: في الإفراد، ويشمل الاسم، والفعل، والحرف.
ومثال الاشتراك في الاسم قوله تعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228][48]

والشاهد من الآية قوله: ﴿ قُرُوءٍ ﴾ [البقرة: 228] فإنه يحتمل أمرين:
الأول: الحيض وهو قول الحنفية والحنابلة.
الثاني: الطهر وهو قول المالكية والشافعية.
ومثال الاشتراك في الفعل قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ [التكوير: 17] [49] فإن لها احتمالات: أظلم، أو أقبل، أو ولى.
ومثال الاشتراك في الحرف قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [آل عمران: 7] [50]

والشاهد من الآية قوله: ﴿ وَالرَّاسِخُونَ ﴾ [آل عمران: 7] فإن الواو تحتمل أمرين:
الأول: أن تكون للعطف، فيكون الراسخون في العلم يعلمون المتشابه.
الثاني: للاستئناف، فيكون المتشابه مما استأثر الله به في علم الغيب عنده.
الثاني: الاشتراك في المركب الموصول مع صلته.

مثاله: قوله تعالى: ﴿ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ [البقرة: 237][51] فإن له تأويلات:
الأول: الزوج، وهو قول الحنفية، وأحمد، والشافعي في قوله الجديد.
الثاني: ولي الزوجة، وهو قول الشافعي في القديم، ومالك في رواية.
الثالث: والد البكر، وسيد الأمة، وهو قول مالك.

الفرع الثاني: التردد الحاصل من تغير الشكل:
وضابطه أن يتغير الشكل، بحيث يختلف المعنى، سواء كان التغير في بنية الكلمة، أو حركة الإعراب.
مثاله: قوله النبي صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه».[52]

والشاهد من الحديث قوله: « ذكاة أمه» فإنه يحتمل أمرين:
الأول: الرفع على الخبرية، وعليه تكون ذكاة الجنين واقعة بذكاة أمه، فيحل بذلك ولا يحتاج إلى تذكية مستقلة، وبه قال الجمهور على تفصيلهم في ذلك.
الثاني: النصب على نزع الخافض، والتقدير ذكاة الجنين كذكاة أمه، وعليه أنه لا يحل إلا بذكاة مستقلة، وبه قال أبو حنيفة.

الفرع الثالث: التردد بين كون الكلمة اسما أو فعلا:
مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم».[53]

والشاهد من الحديث قوله: «أهلكهم» ففيه روايتان:
الأولى: رفع الكاف فتكون اسما، وعليه يكون المعنى أشدهم هلاكا.
الثانية: بفتح الكاف، فتكون فعلا، وعليه يكون المعنى جعلهم هالكين، لا أنهم أهلكوا في الحقيقة.

المطلب الرابع: أمثلة ما يرجع إلى أسباب إجمال الأفعال

سبق أنها تنقسم إلى خمسة أنواع، وسوف نذكر أمثلة تطبيقية لبعض منها على النحو الآتي:
الفرع الأول: إجمال الفعل مطلقا:
مثاله: جلوسه – صلى الله عليه وسلم – جلسة الاستراحة، لحديث مالك بن الحويرث الليثي، أنه«رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا»[54] وهي كما في الحديث المذكور: ما تكون قبل النهوض إلى الوتر من الصلاة.

فالحديث يحتمل أمرين:
الأمر الأول: أن يكون من هيئات الصلاة وأفعالها وعليه فيقتضي ذلك مشروعيته من كل أحد في كل صلاة، وهذا مذهب الشافعي، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.

الأمر الثاني: أن يكون ذلك من الرخص التي تباح للحاجة، من مرض أو ضعف، أو ثقل، وعليه لا تشرع جلسة الاستراحة إلا بالحاجة إليها، وهو مذهب الشافعي، والإمام أحمد في رواية، وأبو إسحاق المروزي من الشافعية، واحتجوا بحديث المسيء صلاته وغيره.

الفرع الثاني: تردد الفعل بين الفتيا والقضاء:
مثاله: تمليك الموات بالإحياء، لحديث جابر بن عبد الله: «من أحيا أرضا ميتة فهي له»[55]

فالحديث يحتمل أمرين:

الأول: أنه شرع عام لكل أحد؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قاله باعتباره رسولا ومبلغا، وسواء أذن فيه الإمام أم لم يأذن.
وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وصاحبا أبي حنيفة، ولكن مالكا فرق بين ما يتشاح فيه الناس، وما لا يتشاح فيه، فاعتبر إذن الإمام في الأول دون الثاني.

الثاني: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قاله باعتباره إماما، وعليه فيحتاج تملك الموات إلى إذن حاكم الوقت، اقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم -.
وهو قول أبي حنيفة.

الفرع الثالث: إجمال التروك:

وضابطه ألا يصرح بعلة المتروك، وأمكن تعليله بأكثر من علة.
مثاله: تركه – صلى الله عليه وسلم – أكل الضب لحديث ابن عباس، يقول: «أهدت خالتي أم حفيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمنا وأقطا وأضبا، فأكل من السمن والأقط، وترك الضب تقذرا، وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حراما، ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم»[56]

في الحديث احتمالان:

الأول: أن يكون ذلك للكراهة النفسية، وعليه فلا يؤثر ذلك في جواز أكله، فيكون حلالا غير مكروه.
وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد.
الثاني: أن يكون ذلك للكراهة الشرعية، فيكون مكروها.
وهو قول أصحاب أبي حنيفة.

خاتمة:

بعد حولتنا في رياض علم أصول الفقه في هذا العرض توصلنا إلى ما يلي:
• بالرغم من اختلاف الأصوليين في تعريف المجمل، إلا أنهم متفقون على كونه من أقسام المبهم، الخفي الدلالة.
• المجمل لا عمل تحته، فحكمه التوقف حتى يبين.
لا يزول الإجمال من النصوص الشرعية إلا بالرجوع إلى المجمل (بالكسر)، وهو القرآن نفسه، أو السنة النبوية.
• أسباب الإجمال كثيرة ومتعددة، يصعب استقصاؤها؛ لأنه تناولته علوم عديدة، فكل يذكر أسباب الإجمال بحسب تخصصه وجهته.
• نستنتج من خلال عرضنا لبعض النصوص التطبيقية أنه بالرغم من اتفاق الأصوليين على وقوع المجمل، ودخوله نصوص الشريعة الإسلامية،إلا أنه لا يعني أساسا اتفاقهم على تطبيقات هذه القاعدة الأصولية، في الفروع الفقهية،كما هو واضح من تصرفاتهم العملية، ولا سيما في استنباط الأحكام الشرعية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
 
لائحة المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.
2- الإبهاج في شرح المنهاج، لتقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي السبكي وولده تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب، ط: دار الكتب العلمية –بيروت، سنة: 1416هـ – 1995 م، عدد الأجزاء: 3.
3- أحكام القرآن، للجصاص الحنفي، ت: محمد صادق القمحاوي، ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت، سنة: 1405 هـ.
4- إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، ت: الشيخ أحمد عزو عناية، دمشق ط: دار الكتاب العربي، سنة: 1419هـ – 1999م، عدد الأجزاء: 2.
5- أسباب الإجمال في الكتاب والسنة، للدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة، ط: دار الفتح، سنة: 1991م.
6- أصول السرخسي، للسرخسي، ط: دار المعرفة – بيروت عدد الأجزاء: 2.
7- البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، ط: دار الكتبي، سنة: 1414هـ – 1994م.
8- تاج اللغة وصحيح العربية، للجوهري، ت: أحمد عبد الغفور عطار، ط: دار العلم للملايين – بيروت- ط: 4.
9- الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه، للبخاري، ت: محمد زهير بن ناصر الناصر، ط: دار طوق النجاة، سنة: 1422هـ، عدد الأجزاء: 9.
10- حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، للعطار الشافعي (المتوفى: 1250هـ) ط: دار الكتب العلمية، عدد الأجزاء: 2.
11- دراسات في علوم القرآن، لمحمد بكر إسماعيل، ط: دار المنار، سنة: 1419هـ-1999م، عدد الأجزاء: 1.
12- سنن الترمذي، ت: أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)، ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5) ط: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر سنة: 1395 هـ – 1975 م، عدد الأجزاء: 5.
13- شرح المعلقات السبع، للزَّوْزَني، ط: دار احياء التراث العربي، ط: 1423هـ – 2002م، عدد الأجزاء: 1.
14- شرح تنقيح الفصول، للقرافي المالكي، ت: طه عبد الرؤوف سعد، ط: شركة الطباعة الفنية المتحدة سنة: الأولى، 1393 هـ – 1973 م، عدد الأجزاء: 1.
15- قواطع الأدلة في الأصول، للسمعاني، ت: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي، ط: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة: 1418هـ/ 1999م، عدد الأجزاء: 2
16- المستصفى من علم الأصول، للغزالي ت: محمد بن سليمان الأشقر، ط:مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان سنة: 1417هـ/ 1997م.
17- المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمسلم بن الحجاج، ت: محمد فؤاد عبد الباقي، ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت، عدد الأجزاء: 5.
18- مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، ط: دار إحياء التراث العربي – بيروت، سنة: 1420 هـ.
19- المفردات في القرآن، للراغب الأصفهاني، للراغب الأصفهاني، ت: صفوان عدنان الداودي، ط: دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت، سنة: 1412 هـ.
20- مقاييس اللغة، ف لا بن فارس، ت:: عبد السلام محمد هارون، ط: دار الفكر النشر: 1399هـ – 1979م.عدد: 6.
21- المناهج الأصولية، لفتحي الدريني،ط: الرسالة، سنة: 2013م.
22- الموافقات، للشاطبي، ت: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، ط: دار ابن عفان، سنة: 1417هـ/ 1997م، عدد الأجزاء: 7.
23- نهاية السول شرح منهاج الوصول، لإسنوي الشافعيّ، الناشر: دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، ط: الأولى 1420هـ- 1999م، عدد الأجزاء: 1.

—————————————————

[1] (تاج اللغة وصحيح العربية) للجوهري، مادة[سبب] (1/ 145).
[2] سورة: الحج، الآية: 15.
[3] (المفردات في القرآن) للراغب الأصفهاني مادة [سبب] (ص391).
[4] سورة الكهف، الآية: 85.
[5] (تاج اللغة وصحيح العربية) للجوهري، مادة[سبب] (1/ 145).
[6] (مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي (4/ 181).
[7] سورة البقرة، الآية: 166.
[8] (تاج اللغة وصحيح العربية للجوهري) مادة[سبب] (1/ 145).
[9] (شرح المعلقات السبع) للزَّوْزَني، أبو عبد الله (ص 150)
[10] – (مفاتيح الغيب) لفخر الدين الرازي (4/ 181).
[11] (شرح تنقيح الفصول) للقرافي المالكي (1/ 81).
[12] سورة الفرقان، الآية: 32.
[13] مقاييس اللغة، لابن فارس، مادة [جمل] (1/ 481).
[14](أسباب الإجمال في الكتاب والسنة ) للدكتور أسامة محمد عبد العظيم (ص30).
[15] أصول البزدوي، (1/ 54).
[16] أصول السرخسي (1/ 168).
[17] (حاشية العطار شرح المحلي على جمع الجوامع) (2/ 93).
[18] (شرح تنقيح الفصول) للقرافي المالكي، (ص280).
[19] (حاشية العطار شرح المحلي على جمع الجوامع) (2/ 97(.
[20] (نهاية السول شرح منهاج الأصول) للإسنوي (ص 226 (.
[21] (البحر المحيط في أصول الفقه) (2/ 203).
[22] (إرشاد الفحول) للشوكاني (2/ 14).
[23] الفجر، الآية: 3.
[24] المائدة، الآية: 67.
[25] النحل، الآية: 44.
[26] الحشر الآية: 7.
[27] (المناهج الأصولية) لفتحي الدريني، بتصرف ( ص99).
[28] الإبهاج شرح المنهاج (1/ 325).
[29] الإسراء: 33
[30] (البحر المحيط) للزركشي (5/ 62-63).
[31] (أحكام القرآن) للجصاص (3/ 350).
[32] (الموافقات) للشاطبي (3/ 328).
[33] الموافقات (4/ 137).
[34] آل عمران: 7.
[35] (الموافقات) (4/ 140).
[36] (دراسات في علوم القرآن) لمحمد بكر إسماعيل (237) .
[37] (قواطع الأدلة في الأصول) للسمعاني (1/ 264) .
[38] (إرشاد الفحول) للشوكاني(168).
[39] (المستصفى) للغزالي(1/ 168).
[40] (أسباب الإجمال في القرآن والسنة وأثرها في الاستنباط) للدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة (ص: 17) وما بعدها.
[41] قمت بتلخيص وترتيب وتهذيب هذه الأمثلة التطبيقية من كتاب: (أسباب الإجمال في القرآن والسنة وأثرها في الاستنباط) للدكتور أسامة محمد عبد العظيم حمزة (ص: 17) وما بعدها.
[42] النساء: 43.
[43] رواه البخاري في (صحيحه) ” باب: لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره” (3/ 132).
[44] انظر (صحيح البخاري) “باب أكل كل ذي ناب من السباع” (7/ 96).
[45] المائدة: 3.
[46]- المائدة: 6.
[47] سورة النساء: 24.
[48] البقرة: 228.
[49] التكوير، 17.
[50] آل عمران: 7.
[51] البقرة: 237.
[52] أخرجه الترمذي في (سننه) ” باب ما جاء في ذكاة الجنين” (4/ 72).
[53] خرجه مسلم في (صحيحه) ” باب النهي عن قول هلك الناس” (4/ 2024).
[54] خرجه البخاري في (صحيحه) “باب من استوى قاعدا في وتر من صلاته ثم نهض” (1/ 164).
[55] رواه الترمذي في (سننه) باب “ما ذكر في إحياء أرض الموات) (3/ 655).
[56] أخرجه مسلم في (صحيحه) “باب إباحة الضب) (3/ 1544).

(شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى