مقالاتمقالات مختارة

موقف الإسلام من جرائم البعثات الدبلوماسية

موقف الإسلام من جرائم البعثات الدبلوماسية

بقلم عصام تليمة

عقد الأمان

يتعامل الفقه الإسلامي مع البعثات الدبلوماسية، أنها تدخل في ما يسمى في الفقه في باب: (الأمان)، أي من يدخل بلدا بعقد أمان، وهو ما يسمى بلغة العصر: (تأشيرة / الفيزا)، وخاشقجي هنا دخل تركيا بتأشيرة سياحية أو إقامة، والبعثات الدبلوماسية تعيش في أي بلد بتأشيرة إقامة دبلوماسية، وقد تم الاتفاق بينها وبين الدولة المضيفة، على الالتزام بعدم إحداث جرائم، سواء تم النص على ذلك، أم تم الاتفاق عليه ضمنيا، كعرف دولي. كما أن وظيفة البعثة الدبلوماسية هي تمثيل شعبها وبلادها، ورعاية مصالحها.

فإذا ما قامت بعثة دبلوماسية، أو أحد أفرادها، بفعل ما يخالف وظيفتها، بتعطيل مصلحة الشعب، أو فعل جريمة مع أحد رعاياها، فهنا تكون قد قامت بغدر وخيانة أمانة وظيفتها، وقامت بجرم في حق الدولة المضيفة، وحق المواطن، وحق الشعب الذي وكلهم في إنهاء مصالحهم، فهم أجراء عند الشعب، كما قال أحد التابعين لمعاوية بن أبي سفيان: السلام عليك أيها الأجير، ولما عاتبه البعض وطلب أن يناديه بالأمير لا الأجير، قال معاوية: دعوه فإن أبا حازم يعرف ما يقول، أي إن وظيفة الحكام وأعوانهم أنهم أجراء عند الأمة، فمن فرط في حقوقهم ـ فضلا عن الإجرام ـ فقد خان واستحق العقوبة حسب جريمته.

التشريع يسري على الجميع

 

 التشريع الجنائي في الإسلام لا يعفي الحاكم من الجريمة، ولا يعفي البعثات الدبلوماسية، فما يسري على الأفراد يسري على الأنظمة، ورؤسائها، وبعثاتها الدبلوماسية، فكل نصوص العقاب على الجرائم في القرآن والسنة، لا تستثني أحدا، وهو ما أعلنه صلى الله عليه وسلم عندما سرقت المخزومية، وأراد أسامة بن زيد أن يشفع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: “والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”.

وعندما ضرب ابن عمرو بن العاص – أمير مصر – شابا قبطيا، وشكاه القبطي لعمر بن الخطاب أمير المؤمنين، مكَّن القبطيَّ من عقاب ابن الحاكم، بل أن يعاقب الحاكم نفسه، وقال له: إنما استذلك بسلطان أبيه، ثم قال قولته الشهيرة: “متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!!” هذه الكلمة التي قالها عمر على السليقة، صارت فيما بعد هي منطوق المادة الأولى من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.

وطبقها عمر مع أبي موسى الأشعري عندما لطم جنديا، فمكنه من القصاص منه، وعندما أسلم أحد ملوك العرب، وهو جبلة بن الأيهم.. فبينما هو يطوف حول الكعبة، داس أحد الأعراب بالخطأ على ملابس الإحرام، فلطمه جبلة، فشكاه الأعرابي، فقال عمر بن الخطاب: لقد سوى الإسلام بينكما، ولا بد من عقابك على التعدي عليه، فاحتال جبلة بن الأيهم، ثم هرب، وتنصر، هربا من عقاب الإسلام.

فالتشريع الإسلامي لا يفرق هنا بين حاكم، وبين بعثة دبلوماسية وفق (نظرية المساواة في العقوبة)، فكل جرم يتم من أي شخص كائنا من كان، فعقوبته لا يعفى عنها، سواء في حق الأفراد أو المجتمع، وهو ما كتبه كثير من الفقهاء المعاصرين، حيث إن أحكام البعثات الدبلوماسية مستحدثة وجديدة، ومن أول من تناول الموضوع القاضي العالم الكبير الأستاذ عبد القادر عودة في كتابه “التشريع الجنائي الإسلامي”، حيث يقول:

“وليس في أخذ رجال السلك السياسي بجرائمهم ما يعيب الشريعة، ما دامت الشريعة تسوي بينهم وبين غيرهم من رعايا الدولة، وتجعل حكمهم حكم رئيس الدولة، ولكن العيب في التفرقة التي تأخذ بها القوانين الوضعية بحجة حمايتهم وتمكينهم من أداء وظائفهم؛ لأن الممثل السياسي الذي يرتكب الجرائم لا يستحق الحماية، ولا يصلح لأداء وظيفته، ولأنه لا يحمي الممثل شئ مثل ابتعاده عن الشبهات والمحرمات، وإذا خيف من اتخاذ الاتهام ذريعة للضغط على الممثل فهو خوف في غير محله؛ لأن هناك من وسائل الضغط ما هو أسهل وأسرع وأجدى من الاتهام، فمنع محاكمة الممثل السياسي لا يمنع من الضغط عليه والتأثير فيه، والحجج التي يبررون بها منع المحاكمة لا تبرر المنع بحال من الأحوال”.

وقد تناول أحكام البعثات الدبلوماسية معظم من كتبوا عن العلاقات الدبلوماسية في الإسلام، وأحكامها، وواجبات هذه البعثات، ومعظم ما تناولوه عن جرائم البعثات مع أهل البلد التي يقيمون فيها، ولم يرد على ذهن كثير من الفقهاء أن يأتي يوم نبحث ونتكلم عن جرائم البعثات مع أبناء شعبها!!

(المصدر: عربي21 “بتصرف”)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى