تقارير وإضاءات

العالم والسفاح.. ابن خلدون في مواجهة تيمورلنك!

العالم والسفاح.. ابن خلدون في مواجهة تيمورلنك!

بقلم عز الدين عمر

لا تبدو العلاقة بين المثقف والمستبد علاقة عابرة أو وليدة العصر الحاضر فقط؛ إنها علاقة قديمة قِدم المنظومات السياسية الاستبدادية التي قسّمت الناس والمجتمعات على أسس طبقية، أو تلك التي قامت على الدماء والأشلاء رغبة في التوسّع والطمع على حساب الإنسان.

وكم كان المثقفون والعلماء على مر التاريخ بين مؤيد لإجرام المستبد، يُزيّن له سفك الدماء، وانتهاك الحرمات، ويؤيده بما أوتي من العلم، وبين معارض مدافع عن حق الضعفاء والمنكسرين أمام هذا الإجرام حتى وإن ساقته كلمة الحق إلى حتفه وموته. وكان من اللافت أن يواجه العلّامة ابن خلدون تيمورلنك ذلك الطاغية الجبار الذي غزا العراق وسورية والأناضول فضلا عن مناطق آسيا الوسطى وإيران، فارتكب الجرائم المروّعة، التي لم يكن لنا أن نصدقها لولا تواترها في كتب التواريخ المعاصرة له، بل لبشاعة سيرة هذا الرجل كتب المؤرخ الدمشقي أحمد بن محمد بن عربشاه “عجائب المقدور في نوائب تيمور” وهو كتاب يسرد سيرة تيمور الإجرامية في حق الناس والحضارة.

لم يكن تيمورلنك مجرد سلطان همجي يقتل ويبيد الكبار والصغار، ويجعل المدن العظيمة كبغداد ودمشق وحلب وبورصة وغيرها تركع أمامه، وتخر لقوته فلا تقدر على مقاومة فضلا عن ردع، لقد كان بحق داهية، يُقرّب العلماء، ويسمع منهم، ويستفيد من تجارب التاريخ، ويُسخّر العلم لخدمة الإجرام وديمومته.

 تيمورلنك (مواقع التواصل)

وكان من حظ ابن خلدون العثر أن يقع بين يدي تيمور الذي أُعجب بفصاحته وعلمه ونبوغه، وقد استغل وجوده ليأمر بتأليف كتاب في خدمة أهدافه وتوسّعاته التي كان يُخطط لها في منطقة الشرق الأوسط، وقد امتثل ابن خلدون أمره مجبرا مقهورا كما سنرى. لكن من هو ابن خلدون؟ وكيف سارت حياته مذ نشأ في بيئة علمية وسياسية في آن؟ وكيف أخذته الظروف والأقدار من المغرب إلى المشرق ثم في نهاية المطاف ليكون وجها لوجه أمام سفّاح ذلك العصر تيمورلنك أو تيمور الأعرج؟!

ابن خلدون وسنوات الارتحال في المغرب

وُلد ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمـد بن محمد، في مدينة تونس في شهور سنة 732هـ/ 1332م في بيت علم وأدب وقضاء، فحفظ القرآن الكريم، وعرّج على علوم الحديث، وتلقّى علوم الأدب العربي على والده محمـد بن خلدون، ثم على غيره من كبار علماء تونس حينذاك مثل قاضي القضاة محمـد بن عبد السلام والرئيس أبي محمـد الحضرمي والعلامة الآبُلي، وحين بلغ العشرين من عُمره، كان قد بلغ نبوغا اشتهر به في آفاق تونس.

لذا قرر الرجل الانطلاق في بلاد المغرب العربي والأندلس، فانخرط في ميادين العلوم والسياسة على السواء، وحُبس بسبب هذا الانخراط، وقبلته الساسة بين الحب والبغض لا سيما في الدولة المرينية في المغرب الأقصى، والحفصيين في المغرب الأوسط، وبني الأحمر في الأندلس، لكن كان عند الجميع مرموق الجانب من الناحية العلمية والأدبية، فهو المؤرخ والأديب والسياسي على السواء.

ابن خلدون (مواقع التواصل)

على أن ابن خلدون حين ملّ من السياسة ومؤامراتها في عقد الكهولة، قرر العودة من الأندلس إلى المغرب الأوسط (الجزائر)، وهناك قرر المكوث لكتابة أعظم ما أنتجته الحضارة الإسلامية من معارف في العصر الوسيط، وهي مقدمته الشهيرة التي كانت الأساس لعلمي الاجتماع وفلسفة التاريخ على السواء.

حين انتهى ابن خلدون من كتابة “المقدمة” وبعضا من أجزاء تاريخه “العِبَر” قرر العودة إلى موطنه تونس في عام 780هـ/1378م، فراسل صاحب تونس أبا العباس الحفصي الذي سعد بذلك، وحرّضه على الإسراع في العودة، وحين حطّ رحاله في وطنه وترابه، ما لبث السلطان التونسي يُقربه من حضرته، ويجعله من حاشيته وبطانته.

في تونس المؤامرات من جديد!

حين علم السلطان أن ابن خلدون يعكف على إتمام تاريخه شجّعه على ذلك، وأمدّه بالعون والمؤونة، وفي تلك الأثناء شعر ابن خلدون بالدسائس والحِيل السياسية التي كانت تُوقع بينه وبين السلطان، بسبب قربه ومكانته وشهرته التي كانت آخذة في التوسّع، وكان خصمُه هذه المرة شيخ الإفتاء في تونس الفقيه ابن عرفة، ويُعطي لنا ابن خلدون لمحة عن سبب هذا العداء، وهو أن ابن عرفة كان ناقما على ابن خلدون بسبب نبوغه وتفوّقه في المجالس العلمية، وأن تلامذة ابن عرفة هرعوا إليه يتلّقون عليه علومه، لذا أخذ يسعى مع رجال البطانة في حقّه لدى السلطان لكنها لم تؤتِ ثمرتها في البداية[1].

وبحلول عام 783هـ استطاع ابن خلدون الانتهاء من نسخته الأولى من تاريخه عن أخبار الدولة المغربية حتى عصره، خاصة استرجاع السلطان أبي العباس الحفصي لمنطقة توزر، ورفع ابن خلدون النسخة إلى السلطان يهديه إياها، على الجانب الآخر كان السلطان قد أجبره على الخروج معه لفتح توزر، وكان ابن خلدون قد كره السياسة والانخراط بها، وحين أراد العودة للخروج مرة أخرى في حملة عسكرية جديدة، خطرت لابن خلدون فكرة علّها تُبعده عن هذه المسالك السياسية والعسكرية.

لقد طلب من السلطان أن يسمح له بالحج، وبعد تعنّت وأخذ وردّ قبل على كُره، فكانت الهجرة الأبدية لموطنه ولبلاد المغرب والأندلس، وركب سفينة من تونس صوب المشرق في منتصف شعبان سنة 784هـ/أكتوبر/تشرين الأول 1382م.

رست سفينة ابن خلدون في مدينة الإسكندرية المصرية في يوم عيد الفطر بعد رحلة بحرية شاقّة استمرت شهرا، وقد أخذ يستعد للحج، ويعمل جهده للّحاق بركبه، لكن لظروف خارجة طارئة لم يتح له يومئذ أن يحقق هذه الغاية، فقرر الذهاب صوب القاهرة التي سمع عنها كثيرا ولم يرها من قبل، وكان دخوله مصر وهو في الثانية والخمسين من عمره، لكنه كان وافر القوة والنشاط، يتطلع دائما إلى مراتب النفوذ والمكانة والسيادة، طموحا لم يتوقف طموحه يوما على عتبة السن أو الظروف، وقد كانت القاهرة يومذاك عاصمة المماليك العظام، ولبلاطها شهرة واسعة في نشر العلوم والمعارف، واستقبال العلماء والنبهاء، وبالفعل دخل القاهرة في أول ذي القعدة سنة 784هـ/نوفمبر/تشرين الثاني 1382م وسلطان مصر الظاهر سيف الدين برقوق.

عظمة القاهرة في عين ابن خلدون

سحرت القاهرة ابن خلدون للوهلة الأولى وأخذت بلبّه، لم تكن تلك المدينة الصحراوية التي كانت نمط مدن المغرب الأقصى، كما أنها كانت أعظم في البنيان والعمارة من مدن الأندلس البديعة، كانت مدينة تجمع بين العظمة السياسية والعسكرية والعلمية على السواء، فضلا عن عُمرانها الذي لم يره ابن خلدون من قبل!

يقول عند دخوله الأول إلى القاهرة، وانبهاره بها: “رأيتُ حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكُرسي الملكِ، تلوح القصورُ والأواوين في جوّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتُضيء البدورُ والكواكب مِن علمائه، قد مثل بشاطئ النيل نهر الجنّة ومدفع مياه السماء، يسقيهم العلل والنّهل سيحه، ويجني إليهم الثمرات والخيرات ثجّه، ومررتُ في سكك المدينة تغصّ بزحام المارة، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نتحدّث بهذا البلد، وبُعد مداه في العمران، واتساع الأحوال، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم في الحديث عنه، سألتُ صاحبنا كبير الجماعة بفاس، وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري مقدمه من الحج سنة أربعين وسبعمائة فقلت له: كيف هذه القاهرة؟ فقال: من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام”[2].

كان ابن خلدون وهو يقترب من أعوام الشيخوخة قد بلغ الآفاق شهرة بعلومه وتجاربه، وما لبث أن حطَّ رِحاله في القاهرة إلا وانثال عليه طلبة العلم يتلقفون علومه ومعارفه، فجلس للتدريس والإقراء في الجامع الأزهر، وعرف سلطان المماليك الظاهر برقوق مقامه فأجزل له العطاء، وعيّن له راتبا يكفيه معاناة الغربة، وجُعلت منزلتُه في مصر ترتفع أكثر وأكثر.

يقول المؤرخ شمس الدين السخاوي: “تلقّاه أهلها (أهل مصر)، وأكرموه، وأكثروا ملازمته والتردُّد عليه، بل تصدّر للإقراء بالجامع الأزهر مدّة”، وكان جلوسه لإقراء الحديث والفقه المالكي، كما همّ في شرح نظريته الجديدة في العمران البشري وعلم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، وكان من تلاميذه علماء كثيرون، بلغوا الآفاق علما وشهرة، ولعل أعلاهم مقاما في علم التاريخ العلامة تقي الدين المقريزي.

كان ابن خلدون بشهادة علماء مصر في زمنه فصيحا مُفوها جميل الشكل مع شيخوخة وهيبة، يأخذ بلُبّ مستمعيه بجزالته وغزير علمه، ينقل السخاوي عن أحد معاصري ابن خلدون أنه كان “فصيحا مفوها جميل الصورة”، وعن آخر “أن محاضرته إليها المنتهى”[3]. ولنا أن نتخيل هذا العلم الفحل في علوم التاريخ والأدب كم كانت مجالسه ومحاضراته غاصّة بطلبة العلم والعلماء على السواء في بلد الأزهر والعلوم.

ابن خلدون قاضيا للقُضاة

عرف المصريون سُلطة وعلماء مقام ابن خلدون، فلم تكتف الدولة المملوكية أن يظل هذا الرجل في وظيفة التدريس العامة في الجامع الأزهر، فصدر قرار بجعله أحد الفقهاء الرسميين في مدرسة المالكية، فانتقل ابن خلدون إلى تلك الوظيفة في المدرسة القمحية المخصصة لعلوم المذهب المالكي بجوار جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة (الفسطاط)، وقد حفظ لنا ابن خلدون بشيء من الافتخار مراسم تقلّده هذه الوظيفة، وهو محاط بعلية القوم من الأمراء والفقهاء والأعيان ومن نابوا عن السلطان، وكيف ارتفعت منزلته بعد خطبة تقليده هذه الوظيفة[4]. ثم ما لبث أن ارتفع شأنه أكثر وأعظم حين أوكل إليه سلطان مصر وظيفة قاضي قضاة المالكية وهو رابع أربعة تعتبر من أهم مناصب الدولة في تلك العصور.

لم يقبل ابن خلدون هذا المنصب لخطورته وكثرة المتنافسين حوله، ولغضب السلطان وتقلّبه على أهون الأسباب، لكنه أُجبر عليه، وأخذه بحقه، وحارب الفساد القضائي الذي كان موجودا في زمنه، لم يقبل الشفاعات والوساطات عند الحكم بين المتخاصمين، ولم يأبه لقوي على قوة منصبه، ولم يحتقر ضعيفا أو يضيع حقه لضعف موقفه، فلما ثبت على هذا الموقف، كرهه علية القوم، ولم يأبه لقاصٍ ولا دانٍ، ولم تمض أشهر على هذه السياسة إلا وفقد حظوته التي تمتع بها، فطلب من السلطان عزله ليستريح من هذا الهم، ثم أصيب بنكبة أكبر حين غرق أهله وولده ومكتبته في البحر حين استدعاهم من تونس للقاهرة[5].

عاد ابن خلدون بعد عام واحد من ولاية القضاء إلى التدريس في المدرسة القمحية، لكن سرعان ما انتدبه السلطان لمدرسته البرقوقية الجديدة في حي بين القصرين وذلك سنة 787هـ/1385م، وظل يجمع وظيفة التدريس المالكي في المدرستين حتى عزم على الحج سنة 789هـ، وقد أدّاه بالفعل وعاد من العام التالي إلى القاهرة من جديد، فأكرم السلطان برقوق وفادته، وولّاه التدريس في مدرسة الأمير صرغتمش، لكنه في فتنة الصراع على العرش المملوكي في سنوات 791 و792هـ فقد وظائفه ولزم بيته.

ابن خلدون وتيمورلنك وجها لوجه

ثم عاد ابن خلدون من جديد إلى التدريس حين عاد السلطان برقوق إلى عرش مصر، حتى كانت وفاة الظاهرة برقوق سنة 801هـ/1398م وتولي ابنه فرج بن برقوق حكم مصر، وهو أسوأ من حكم البلاد، فقد غرقت مصر والشام في الفوضى والاضطرابات والفقر والحروب الأهلية بين المماليك، وفوق ذلك الغزو التيموري القادم من وسط آسيا إلى بلاد الشام التي سقطت في أيديهم، عندها انطلق فرج إلى نجدة بلاد الشام مصطحبا معه القضاة وكبار المشايخ ومنهم ابن خلدون، لكن المماليك اختلفوا على أنفسهم وعاد السلطان فرج إلى القاهرة خوفا على عرشه والانقلاب عليه، هنالك قرر ابن خلدون الانضمام إلى تيمورلنك، والالتحاق بمخيمه على مقربة من دمشق بعدما اتفق عدد من فقهاء وأعيان دمشق على تسليم مدينتهم لتيمورلنك مقابل الأمان على أنفسهم ومدينتهم وأموالهم.

كان ابن خلدون قبل مجيئه إلى مصر وبلاد الشام قد عرف بعض الأخبار عن تيمورلنك، وهي الأخبار التي كانت تزيده خوفا من هذا الطاغية السفّاك للدماء، والغريب أن هذه المعرفة كانت مُعتمدة على الرؤى وقراءة الأفلاك، يقول: “وكان المنجّمون المتكلّمون في قرانات العُلويّين يترقّبون القران العاشر في المثلّثة الهوائية (قراءة النجوم والطوالع)، وكان يترقّب عام ستة وستين من المائة السّابعة. فلقيتُ ذات يوم من عام أحد وستين وسبعمائة بجامع القرويين من فاس، الخطيب أبا عليّ بن باديس خطيب قسنطينة، وكان ماهرا في ذلك الفن، فسألتُه عن هذا القران المتوقّع، وما هي آثاره؟ فقال لي: يدلُّ على ثائر عظيم في الجانب الشّمالي الشرقي، من أمة بادية أهل خيام، تتغلّب على الممالك، وتقلب الدّول، وتستولي على أكثر المعمور فقلتُ: ومتى زمنه؟ فقال: عام أربعة وثمانين تنتشر أخباره”[6].

وبالفعل خرج تيمورلنك في تلك الأثناء، وانتشرت أخباره في المشرق والمغرب، وأصبح الجميع خائفا من زحفه وجيوشه الجرارة، وفي وقت كانت الأخبار تنتقل شفاها، والروايات تزيدها الأيام والتفاصيل رُعبا وفزعا وخوفا، فقد عرف ابن خلدون هو الآخر خطورة هذا السلطان الطاغية المُبيد.

وبالفعل التقى ابن خلدون بتيمورلنك في معسكره خارج أسوار دمشق في شهر رجب سنة 803هـ/1401م، وكانت شهرة ابن خلدون هذه المرة تسبقه أيضا، فقد عُرّف لتيمورلنك بالقاضي المالكي المغربي، وحين جالسه بدأ تيمورلنك يسأله عن بلاد المغرب وأهم مدنها، لكن إجابات ابن خلدون لم تُقنع تيمورلنك على ما يبدو، قائلا:

“لا يقنعني هذا، وأحبّ أن تكتب لي بلاد المغرب كلّها، أقاصيها وأدانيها وجباله وأنهاره وقراه وأمصاره، حتى كأني أشاهده. فقلت: يحصل ذلك بسعادتك، وكتبت له بعد انصرافي من المجلس لما طلب من ذلك، وأوعبت الغرض فيه في مختصر وجيز يكون قدر اثنتي عشرة من الكراريس المنضّفة القطع”[7].

وفي ذلك المقام، وابن خلدون بين يدي السلطان الأعظم في العالم حينذاك، ذلك الرجل الذي تمكّن من هزيمة العثمانيين وأسر السلطان بايزيد الأول، وهزيمة المماليك وانسحابهم من كامل بلاد الشام، كان ابن خلدون يدرك كل ذلك، فتنتابه مشاعر الخوف والوجل، ليس لهذه المعارك العظيمة، وتلك الأقاليم الفسيحة التي وقعت تحت حكم تيمورلنك وسطوته من بلاد ما وراء النهر على حدود الصين شرقا إلى البحر المتوسط غربا، وإنما لأن هذا الطاغية كان يسهل عليه قتل العلماء والفقهاء كما يقتل الساسة والعجائز على السواء، وقد فعل ذلك مع القاضي صدر الدين المناوي، فانتشر خبر مقتله في الآفاق.

كانت تلك المشاعر المختلطة بالخوف والفزع والرهبة تنتاب ابن خلدون وهو في شيخوخته التي قاربت السبعين من عُمره حينذاك، يقول: “فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنتُ فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه، ويأنس به مني، ففاتحته وقلت: أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار: وما سبب ذلك؟ فقلت: أمران، الأول أنك سلطان العالم، وملك الدّنيا، وما أعتقد أنه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك، ولستُ ممن يقولُ في الأمور بالجزاف، فإنّي من أهل العلم”[8]، ثم راح ابن خلدون يفصّل له من التاريخ والواقع لماذا كوّن هذا الرأي في تيمورلنك وجعله أعظم حاكم وسلطان في عصره، بل سلطان الدنيا.

في تلك الأثناء انطلت خدعة تيمورلنك على أهل دمشق، وظنوا أنه يؤمّنهم على دمائهم وأموالهم حقا، فسلّموا له المدينة، وفتحوا أبوابها، فدخلها وهو يضمر لها الحقد والغل، وسمح لجنوده أن يعيثوا في المدينة كما يشاؤون، فارتكبوا فيها ما دوّنه التاريخ لنا بمرارة، فقد كانت دمشق عاصمة كامل بلاد الشام، وبها موطن العلم والعُمران، فقتلوا الآلاف من أهلها، واغتصبوا نساءها وأبكارها، وأسروا البقية التي أراد تيمور بها تزيين عاصمته في سمرقند، يقول ابن عربشاه:

“وأخذ من دمشق أرباب الفضل وأهل الصنائع، وكل ماهر في فن من الفنون بارع، من النساجين والخياطين، والحجارين والنجارين، والأقباعية والبياطرة والخيمية، والنقاشين والقواسين والبازدارية، وفي الجملة أهل أي فن كان”[9].

كان ابن خلدون شاهدا على هذه المجازر المروّعة، وما كان منه إلا أن اختفى في أزقة المدينة، يقول: “أطلق أيدي النّهّابة على بيوت أهل المدينة، فاستوعبوا أناسيها، وأمتعتها، وأضرموا النّار فيما بقي من سقط الأقمشة والخرثيّ، فاتصلت النار بحيطان الدّور المدعمة بالخشب، فلم تزل تتوقّد إلى أن اتصلت بالجامع الأعظم، وارتفعت إلى سقفه، فسال رصاصه، وتهدّمت سقفه وحوائطه، وكان أمرا بلغ مبالغه في الشّناعة والقبح”[10].

وفي نهاية المطاف كان ابن خلدون ممن عاد في الاجتماع مع تيمورلنك، فأعطاه الكتاب الذي ألّفه عن تاريخ المغرب وجغرافيته وأهم مدنه، فتلقفه تيمور، وأمر حاشيته بترجمته إلى اللغة المغولية، وارتفع شأن ابن خلدون في عين تيمورلنك، وأمر به أن يخرج من دمشق ويلحق بمعسكره خارج المدينة، وهنالك ألحّ ابن خلدون في العودة إلى مصر، فرضي تيمورلنك بذلك، وفوق ذلك أعطاه مكتوب أمان على أرواح العلماء والفقهاء والقراء في مدينة دمشق، فكان صنيعا محمودا من ابن خلدون في نهاية المطاف.

النهاية

عاد ابن خلدون إلى مصر في شعبان سنة 803هـ/مايو/أيار 1401م وقد عيّنه السلطان فرج بن برقوق للمرة الثالثة في منصب قاضي قضاة المالكية وهو في الرابعة والسبعين من عُمره، فباشره على طريقته الأولى نفسها بالجد، والإعراض عن الأغراض، ثم عُزل وأُهين بسبب العزل، لكن سرعان ما عاد مرة أخرى سنة 805هـ وعُزل في العام التالي، وهكذا دخل ابن خلدون في صراع على المنصب حتى المرة السادسة في العام 808هـ، فلبث فيه بضعة أسابيع حتى وافاه الأجل في السادس والعشرين من رمضان سنة 808هـ/16 مارس/آذار 1406م، وهو في الثامنة والسبعين من عمره، ودُفن بمقبرة الصوفية خارج باب النصر شمالي القاهرة القديمة[11].

وهكذا عاش ابن خلدون حياة الترحال طلبا للعلم والمجد على السواء، لم يكن الرجل في أي وقت من الأوقات منخلعا عن السياسة كما بقية العلماء في عصره، حتى جاءت به الأقدار ليقف أمام تيمورلنك، ويقصّ لنا بعضا مما جرى معه، لنرى أن شخصية المستبد والطاغية ليست على الدوام تلك الشخصية التي تتسم بالغباء والبربرية، بل ثمة حكام مستبدون قتلة طالما أحبّوا أن يبقى في مجالسهم العلماء والمثقفون ليكونوا لهم عونا على مشاريعهم وأهدافهم، إما جبرا وإما اختيارا!

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى