مقالاتمقالات مختارة

أثر القواعد الأصولية في اختلاف الإسلاميين

بقلم وائل البتيري

لنقل إن بين أيدينا نصاً بذلنا جهداً في إثبات صحة نسبته إلى الشريعة، ورجّحنا معنى معيّناً مما يحتمله، واستوعبنا جيداً جميع تفاصيل الواقعة التي نريد أن نسقط عليها هذا النص، واتفقنا مع المخالف على كل ما سبق.. ومع ذلك وقع الخلاف بيننا وبينه على حكم الشرع في هذه الواقعة، فنحن نقول بالندب، وهو يقول بالوجوب، أو العكس، فما سبب ذلك؟

جمهور الأصوليين يقولون إن الأمر المجرد عن القرائن يفيد الوجوب، والنظر في هذه القرائن واستنباطها أمر دقيق لا يجيده أيُّ أحد، ولدقته تختلف آراء الفقهاء فيه بحسب مقدار قناعتهم بسلامة هذه القرينة من النقض.

خذ مثلاً قوله تعالى: {لا جُناح عليكم إنْ طَلّقتُم النساءَ ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتِّعوهنّ على الموسع قَدْرُه وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} (البقرة: 236)، وقوله: {وللمطلقات متاعٌ بالمعروف حقاً على المتقين} (البقرة: 241).

هاتان الآيتان تفرضان على من يطلق امرأته -التي لم يُفرَض لها مهرٌ- قبل الدخول فيها؛ أن يعوّضها بما تتمتّع به من مال أو ما شابه ذلك.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره:

“قوله تعالى: {ومَتّعوهُنّ} معناه أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهن.

وحَمَلَه ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب.

وحَمَله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب.

تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر.

وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} و{عَلَى الْمُتَّقِينِ}، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.

والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله: {ومتّعوهنّ}، وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} أظهرُ في الوجوب منه في الندب” انتهى كلامه.

فأنت ترى أن الذين حملوا الأمر على الندب؛ صرفوه بقرينة {حقاً على المحسنين} و{حقاً على المتّقين} بحجة أنه لو كان واجباً لجَعَلَه حقاً على جميع الخلق، لا على المتقين والمحسنين فحسب. بينما رأى الآخرون أن هذه القرينة لا تنهض لصرف الأمر من الوجوب إلى الندب..

بل إن الإمام القرطبي رحمه الله دعم القائلين بالوجوب بالقرينة ذاتها التي اتكأ عليه القائلون بالندب، فقال: “وقوله: {عَلَى الْمُتَّقِينِ} تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}”.

أما الفقيه الكبير ابن حزم الأندلسي رحمه الله؛ فلا يعتدّ بالقرائن الصارفة، وإنما يشترط في صرف الأمر من الوجوب إلى غيره؛ أن يكون ذلك بنص آخر، أو بإجماع معتبر.

ولذلك؛ فقد خالف ابن حزم الجمهورَ في كثير من المسائل الفقهية، فهو يقول مثلاً بوجوب الكتابة والإشهاد على الدَّين؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: 282)، بينما يحمل جمهور الفقهاء الأمر في الآية على الندب.

ويرى ابن حزم أيضاً أن التسمية عند الأكل للوجوب، بينما يقول الجمهور بالندب.

ويرى أن النكاح لمن كان مستطيعاً فرضٌ حتى وإنْ لم يخشَ على نفسه من الزنى، بينما يرى الجمهور أنه مندوب إلا إذا كان هناك ما يمنع منه، أو ما يوجبه كخوف الوقوع في الفاحشة.

وغير ذلك من الأمثلة التي سردها الدكتور مصطفى سعيد الخن في كتابه “أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء”، وهو كتاب جامعٌ لأمثلة تطبيقية على ما نحن بصدده، والرجوع إليه يغني عن التطويل المملّ، فانظره يا رعاك الله.

إذن؛ الاختلاف في القواعد الأصولية يؤدي بداهة إلى تعدد الأقوال في المسألة الواحدة، وهذا الاختلاف راجعٌ إلى طبيعة النصوص بالدرجة الأولى، فما أكثر هذه القواعد إلا استنباطات من النصوص نفسها.

وكما يقع الاختلاف في الأقوال باختلاف القواعد الأصولية؛ فكذا يقع باختلاف القول بحجية الأدلة المختلف فيها، كالقياس والمصلحة المرسلة والاستحسان وقول الصحابي وغيرها، ففي الموقف من هذه الأدلة مجالٌ رحب لوقوع الاختلاف في التطبيق الفقهي، وإني أنصح جميع الدعاة والعاملين للإسلام؛ أن يخصصوا من أوقاتهم ما يطالعون فيه كتب أصول الفقه، فقراءتها تفتح الآفاق لمعرفة فقه الخلاف وكيفية التعامل معه.

إننا حين نتحدث عن فقه الخلاف؛ لا نسعى البتة إلى إلغائه، فهذا لم يكن ولن يكون إلى قيام الساعة، وإنما غاية ما نصبو إليه؛ أن نعي أسباب وقوع هذا الخلاف، وندرّب أنفسنا على الطريقة السليمة في التعامل معه حين يقع

وإننا حين نتحدث عن فقه الخلاف؛ لا نسعى البتة إلى إلغائه، فهذا لم يكن ولن يكون إلى قيام الساعة، وإنما غاية ما نصبو إليه؛ أن نعي أسباب وقوع هذا الخلاف، وندرّب أنفسنا على الطريقة السليمة في التعامل معه حين يقع، وننبّه إلى فقه الإعذار الذي يكون منطلقه التواضع واتهام النفس أولاً، من منطلق القاعدة الجليلة التي وضعها إمامنا الشافعي رحمه الله: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، ونؤكد أن آراء الإسلاميين إن اختلفت؛ فإنه لا يجوز بحال أن يكون ذلك سبباً لاختلاف قلوبهم، وتنازعهم المفضي إلى الفشل.

وإن مما يحزن القلب ويفطّره؛ أن يتطاول الأصاغر على الأكابر، وكذا الأكابر على الأكابر، بحجة أن هذا القول غير موافق للكتاب والسنة، مع أنه قول مُحْتَمَل، وصاحبه – إنْ أخطأ فيه – مأجور، ولا أدري كيف يستسيغ امرؤ وَصْفَ إمام مجتهد بالمبتدع أو الضال لمجرد أن اجتهاده يخالف اجتهاده، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران. وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر”، فهو مأجورٌ عند الله باجتهاده الذي أخطأ فيه، مبتدعٌ عند مضلِّله بالاجتهاد ذاته.. فيا لله العجب!

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى