كتب وبحوث

قصور العلم المادي

قصور العلم المادي

قصور العلم المادي…
(من كتاب وهم الشيطان : الإلحاد ومزاعمه العلمية – ديفيد بيرلينسكي – ترجمة وتعليق عبد الله الشهري – مركز دلائل – الطبعة الأولى 1437هـ/2016م)

مقدمة الطبعة الأولى…
في مطلع كتابه رسالة إلى أمة مسيحية، يذكر سام هاريس أن أشد نقاده ضراوة وانزعاجاً ليسوا إلا مسيحيين «موغلين، وعلى نحو قاتل أيضاً، في التعصب ضد النقد». يبدو أن عدداً كبيراً من أولئك النقاد المتعصبين كانوا يبعثون لهاريس نصوصاً من الكتاب المقدس تؤيد تعصبهم. أما أنا فأعُد نفسي ضمن منتقصي هاريس الأكثر رفقاً.

حين يذكر هاريس أن التزامات المسيحيين والمسلمين الفكرية قد أصابته بالخرس، فإن هذا الوصف قد حاق بالرجل فعلاً. ولكن دونكم هذه الحقيقة المزعجة: أنا يهوديّ علماني، وتعليمي الديني لم يثمر كثيراً، إذ بالكاد أتذكر كلمة عبرية واحدة، ولا أستطيع الصلاة. لكني أمضيت في دراسة الرياضيات والكتابة عن العلوم أعواماً تطغى على اهتمامي بتذكّرها.

ومع ذلك فالكتاب الذي بين يديك هو باعتبارٍ ما دفاعٌ عن الفكر الديني وعاطفته، ولنصوص الكتاب المقدس من هذا الدفاع النَّصيب الأدنى. والحاجة ماسة إلى الدفاع لأنه لم يتقدم لذلك أحد. إذ قد تُرك نقاش هذا الأمر لأشخاص يزدرون المعتقد الديني بصبيانية، وقد انهالت كتبهم مؤخراً من مختلف دور النشر، ورغم تباينهم في الأسلوب، إلا أن رسالتهم تظل واحدة: بما أن النظريات العلمية صحيحة، فلا بد أن المعتقدات الدينية خاطئة(1). وقد عبر عن هذه النقطة هاريس حين عنون لإحدى مقالاته بعنوان «يجب على العلم أن يدمّر الدين»، ودعوته إلى الجهاد(2) التي لا يمكن تأجيلها طويلاً!

وإذا كان العلم يعارض الدين، فليس هذا عائداً إلى شيء تشتمل عليه مقدّمات أو نتائج النظريات العلمية الكبرى. إنها لا تنبس ببنت شفة عن الله(3). وكذلك لا تتعامل مع أي معتقد سوى المعتقد الذي تطلبه تلك النظريات لأنفسها. وهي لا تستلزم طقوساً غير الطقوس المعتادة في الحياة الأكاديمية، وهذه بدورها لا تقتضي أكثر من عبادة ما هو معبود على نطاق واسع. إن التقريرات الواثقة التي يُسِرُّ بها العلماء في غرفهم الخاصة ويزعمون فيها أنهم قد برهنوا على عدم وجود الله، لا علاقة لها بالعلم، فضلاً عن كونها أقل من أن تتعلق بقضية وجود الخالق ذاتها.

فكرتان مؤثرتان تعتملان في كل ما سبق. الأولى هي أن هناك شيئاً يتحدث باسم العلم، والثانية هي أن هذا الذي يتحدث باسم العلم يعرِضُ لأولي النهى من الرجال والنساء رؤيةً متماسكة للكون. إن الادعاء الثاني خاطئ إن كان الأول كذلك. والادعاء الأول خاطئ بالفعل. لا شيء يتحدث باسم العلم، ولا شيء يتوفر على منهج محدد يتجاوز الإملاءات العتيقة للحس العادي.

إن العلم (الطبيعي) لفظٌ استهلكتهُ أمثلته، مثله مثل لفظي الديمقراطية والعدل.
لقد أوتينا أربع نظريات علمية راسخة وقوية منذ انطلاق الثورة العلمية الكبرى في الغرب في القرن السابع عشر – ميكانيكا نيوتن، نظرية جيمس كلارك في المجال الكهرومغناطيسي، النظرية النسبية الخاصة والعامة، وميكانيكا الكم. إنها معجزات منعزلة، وذُرا جبلية شامخة محاطة بسلسلة من التلال الناتئة المنخفضة. إن النظريات التي بأيدينا «مهيبة، راسخة، صعبة، ودقيقة أحياناً على نحو مذهل»، كما لاحظ الرياضي البارز روجر بنروز؛ ولكنه يستدرك ويضيف أن هذه النظريات مشتملة على «صورة متنافرة للأشياء على نحو مرهق لفضولنا».

لقد تسببت هذه المنجزات البديعة للخيال البشري في جعل العالم أكثر غموضاً مما كان عليه. لقد تحسّن علمنا بما لم نكن نعلمه ونحيط به. لا نعلم كيف بدأ الكون، ولا نعلم لِم هُو موجود هناك. لقد تحدث تشارلز داروين عن الحياة وقدَّر أنها نشأت من «بركة صغيرة دافئة». لم يعد لهذه البركة وجود. لدينا فكرة ضئيلة عن كيفية ظهور الحياة، ولا نستطيع الجزم بما إن كان لظهورها بدايةٌ أصلاً. لا نستطيع أن نوفّق بين فهمنا للعقل وبين أية نظرية متواضعة عن الكيفية التي يعمل بها الدماغ. خلاف النظريات المتواضعة، لا نملك أي نظريات أخرى. لا نستطيع ذكر ما هو حقيق بالاهتمام عن الروح الإنسانية. نجهل ما الذي يدفعُنا للتصرّف الحسَن(4) ونجهل مكان العثور على مثال الخير.
دون هذه القضايا والعديد غيرها انحسرت نظريات العلم الكبرى. وكلما كانت النظريات أكثرَ تعقيداً، صارت أكثر عجزاً. وهذا سبب يجعلها أهلاً لحفاوتنا إذ زادت ولم تقلل من شعورنا بما هو رفيع.

لم يقع لنظرية علميّة أن تعرّضت للأسرار التي تعالجها التقاليد الدينية. حين يتساءل إنسان عن سبب قصر أيامه وامتلائها بالمعاناة فإنه في ابتغاء الجواب لا يميل بطبعه لنظرية الحقل الكمومي الجبري. إن الأجوبة التي قدّمها أساطين العلم الطبيعي ضحلة بشكل لافت(5). لقد حظيت الفرضية القائلة بأننا لسنا أكثر من صدفة كونية بقبول واسع في الأوساط العلمية. لقد قال بذلك أعلام من مثل برتراند رسل، جاك مونود، ستيفن واينبرج، وريتشارد دوكنز. إنها عقيدة إيمانية تدفعها ثقة بني الإنسان في قناعتهم بأن الطبيعة قد هيأتهم لمواجهة حقائق لا قِبَل لنا معاشر الباقين بالتفكّر فيها. لا يوجد أدنى سبب للاعتقاد بأن الأمر كذلك.

وفي مقابل عجز العلم عن الإدلاء بشيء ذي بال حول الأسئلة العظيمة والمؤلمة عن الحياة، والموت، والمعنى، توفر التقاليد الدينية لبني الإنسان مِعماراً فكريّاً متماسكاً حيال هذه القضية. إن تَوَقان الروح الإنسانية ليس عبثاً. هناك نظام اعتقادي يتسع لتعقيدات الخبرة. يوجد ثواب للمعاناة ويعتملُ في الكون مبدأٌ يتخطى معنى السفه. سيكون كل شيء على ما يرام. لا أعلم إن كان شيءٌ من هذا صحيحاً، ولكني على يقين أن المجتمع العلمي لا يعلم أنه خطأ. في غمرة انشغالهم بهمومهم الخاصة، يتملَّكُ طائفةً كبيرةً من الرجال والنساء إحساسٌ فاتر مكلوم حانق بأنهم ضحايا جَوْر العلوم الطبيعية، ويشعرون بالإحباط إزاء تباهٍ علمي لا ينتهي. بل إنهم ليشتبهون في كون المجتمع العلمي، من حيث هو مؤسسة، يعتبرهم محلّاً للازدراء، وتنتابهم كراهية غير يسيرة لمن يتحدثون باسمه. إنهم محقُّون في شعورهم هذا، ومن أجلهم صنّفتُ هذا الكتاب.
——————

المراجع:
(1) مغالطة ربط سببٍ ما بغير نتيجته أو العكس.
(2) لا يمانع سام هاريس من استئصال المسلمين بقنبلة نووية تخلص الكوكب منهم إلى الأبد. انظر: كتابه نهاية الإيمان The End of Faith، ص (129).
(3) هذا الإطلاق من بيرلنسكي فيه محاذير؛ أدناها أن دلالة العلم الطبيعي على الله ممكنة، ودليل ذلك الواقع. كثير من العلماء المرموقين صرّحوا بالتلازم بين اشتغالهم بالعلم الطبيعي وتعرفهم على الخالق. وهذا أشهر من أن نورد له الشواهد. اللهم إلا أن يريد بيرلنسكي صفة مخصوصة للعلم الطبيعي كما سيذكر لاحقاً، فهذا ممكن.
(4) عبّرتُ بـ «حسن» لموافقته المعهود من استعمال الحسن والقبح في المباحث الكلامية.
(5) في هذا المعنى يقول إروين شرودنجرErwin Schrödinger: «الصورة التي يقدمها العلم عن الواقع من حولي صورة ناقصة جدّاً…إنه (أي العلم الطبيعي) لا يتكلم ببنتِ شفة عن الأحمر والأزرق، المرّ والحلو، الألم واللذة، إنه لا يعرف شيئاً عن الجميل والقبيح، الحسن والسيئ، الله والخلود؛ يتظاهر العلم أحياناً بأنه يجيب على أسئلة في هذه المجالات، ولكن غالباً ما تكون إجاباته سخيفة للغاية إلى درجة أننا لا نميل إلى أخذها على محمل الجد».
انظر: Schrodinger, Erwin (2001) Why Not Talk Physics? In Wilber, Ken (Ed.) Quantum Questions: Mystical Writings of the World’s Greatest Physicists, p.83.

(المصدر: مركز دلائل)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى