رسالة إلى الفقهاء

رسالة إلى الفقهاء

بقلم د. عادل حسن يوسف الحمد

الفقه في الدين من أشرف العلوم الشرعية، لإحاطته بجميع شؤون حياة الناس: الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتربوية، والتعليمية، وغيرها. وهو يتعامل مع كل مراحل الإنسان من قبل ولادته إلى ما بعد مماته. وهذا يعني أن الفقه يلامس حياة الناس الواقعية، ويعالج مشاكلهم التي يعانون منها، ويرسم لهم خارطة الطريق التي تعينهم على تحصيل منافع الدنيا والآخرة. ولا عجب في ذلك وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((منْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)). رواه البخاري.

ومن عظمة الفقه في الدين أن أصحاب الفنون الأخرى إنما ينهلون ويصدرون عن الفقهاء وأحكامهم؛ إن كانوا في المجال الاجتماعي، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي التعليمي أو غيرهم. وهنا مكمن الخطر.

هذا الخطر إما أن يأتي من ذات الفقيه أو من خارجه. أما ما كان من ذات الفقيه، فيكمن في تضييق معنى الفقه في الدين، بأن يجعله مقتصرًا على فقه الفرد في الشعائر التعبدية، دون أحوال الفرد في المجتمع ومعترك الحياة.

أو يقتصر في الحديث عن الفقه على الصور التطبيقية القديمة دون التعرض للصور الحديثة في شتى مجالات الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها.

وأشدها خطرًا أن يتصور الفقيه أن الفقه لا علاقة له بالإصلاح في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقضايا التربية والتعليم. مع أن هذه القضايا لها أبواب كبيرة في كتب الفقه، وقد يكون الفقيه ممن يُدرسها في المحاضن التعليمية.

هذا التضييق لمفهوم الفقه في الدين يبعد الفقيه عن الواقع وعن الناس، فيلجأ الناس إلى غير الفقهاء لحل مشاكلهم، ولتغيير واقعهم، ولرفع الظلم عنهم، وهذا يدفعهم لتبني المناهج المنحرفة المستوردة من الشرق أو الغرب.

أيها السادة الفقهاء الأكارم،

إن الله جل في علاه حملكم مسؤولية حماية هذا الدين من تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وجعلكم ورثة الأنبياء في تبليغ الشريعة المنزلة للناس؛ وهذه المهمة العظيمة تحتاج منكم إلى جهد كبير في معرفة أولويات الأمور التي تتحدثون عنها أو تتركونها، وهنا مكمن الفقه الحقيقي، قال ابن تيمية رحمه الله: ((لَيْسَ الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ الْخَيْرَ مِنْ الشَّرِّ وَإِنَّمَا الْعَاقِلُ الَّذِي يَعْلَمُ خَيْرَ الْخَيْرَيْنِ وَشَرَّ الشَّرَّيْنِ)). (مجموع الفتاوى 20/ 54)

لكن أعداء الإسلام والحاقدين عليه من أبناء المسلمين قد يريدون منكم غير ذلك، فقد حددوا للفقيه اليوم المجال الذي يتحدث فيه، والموضوعات التي يتناولها، وحرموا عليه الخوض في غيرها. حددوا له الحديث عن علاقة الفرد بربه وتذكيره بالجنة. وحرموا عليه الخوض في قضايا الناس ومشكلاتهم الحقيقية وما يتعرضون له من مظالم؛ لأن هذا تدخل في شؤون الدولة. وحرموا عليه إنكار المنكر، لأن المجتمع يقوم على الحرية الشخصية. ومنعوه من الكلام في السياسة؛ لأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. وجرَّموه إذا نصر أخاه ظالما أو مظلوما، لأن الناس في علاقتهم بالآخرين إنما هي تبع لسياسة السلطان، فيحبون من أحب، ويبغضون من أبغض. وأنكروا عليه أن يبني فتاواه على أساس من الولاء والبراء الشرعي، لأن هذا خلط بين السياسي والاجتماعي والديني.

فإما أن تستجيبوا لهم، فتخرجوا للناس صورة مشوهة لهذا الدين، وتكونوا من المقربين، وإما أن تخالفوهم وتبينوا الحق للناس، وتنالوا رضى رب العالمين.

أيها السادة الفقهاء الأكارم،

إننا اليوم نعيش في واقع أظهرت فيه كثير من الحكومات التي تحكم بلاد المسلمين العداوة والبغضاء لهذا الدين ولحملته من العلماء والدعاة؛ فَسَجنت العلماء، ولاحقت الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وجَرَّمتهم، وضيقت على المناشط الإسلامية بجميع صورها. وفي المقابل فتحت أبواب الشر في المجتمعات على مصراعيها؛ فالإعلام مفتوح لكل من يريد أن يشكك الناس في دينهم، والترفيه لا يحلو لهم إلا باختلاط النساء المتبرجات بالرجال.

فما هو دوركم أيها الفقهاء؟ وهل استسلمتم لمراد عدوكم؟

إننا أيها السادة الفقهاء الأكارم لا نطالبكم بأكثر مما تستطيعون، لأن الله قال في محكم تنزيله: ]لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[ [البقرة: 286] ، ونعتقد أن بوسعكم قول الحق، والصدع به، ولا تنقصكم الحيلة في اختيار الألفاظ التي توصلون بها الحق للناس، ولا تجعلون للظلمة عليكم من سلطان.

نعتقد أن بوسعكم السكوت عن قول الباطل ونصرة الباطل وتأييد الباطل.

نعتقد أن بوسعكم أن تبتعدوا عن الظلمة الذين ظهر ظلمهم للقاصي والداني، فلا تؤازروهم ولا تثنوا عليهم، ويسعكم ما وسع من قبلكم من العلماء عبر التاريخ في تعاملهم مع الظلمة.

نعتقد أن بوسعكم أن تضحوا بمصالح الدنيا ومناصبها من أجل ما عند الله والدار الآخرة، فلا يمنعكم ما أنتم فيه من قول كلمة الحق.

وإننا لنرجو أن يكون منكم من يقول الحق ويثبت عليه كما ثبت الإمام مالك، والإمام أحمد، والأوزاعي، وغيرهم ممن تشرفوا بقول الحق والدعوة إليه والصبر على ما يأتيهم من ظلم الناس بسببه.

ويؤسفنا جدا، أن نرى من الفقهاء من هو في واد، والأمة الإسلامية وجراحاتها في واد آخر، وكأنَّ الأمر لا يعنيه من قريبٍ أو من بعيدٍ، وكأنَّ العلم الذي تعلمه لم يحرك قلبه لنصرة هذا الدين ونصرة المظلومين.

سدد الله خطاكم للحق أيها السادة الفقهاء.

(المصدر: موقع المنهل)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى