
إذا زنى الحاكم على الهواء
اطلع علينا رجال جهال أفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
أو معهم علم لكنهم شرعوا من رؤوسهم ما جعلوه هو الحق والسنة والمنهج وضللوا غيره وبدعوه
بل وصل بهم الضلال إلى قول أحدهم إن رأيتم ولي الأمر يزني على الهواء فلا تنكر عليه وراء ظهره
وهذا والله لم يقل به قائل ولم ينطق به ناطق من علماء الإسلام ولا يدل عليه حرف من كتاب ولا سنة صحيحة ولا ضعيفة بل ولا مكذوبة فلم يتجرأ الكذابون أن يضعوا حديثا مثل هذا
ولا يثبت فيه قول صحابي ولا تابع ولا عالم عبر قرون الإسلام الأربعة عشر
وما وسوس إبليس لجنوده بأسوأ من هذا الضلال والعار والشنار.
الذي هدم أصول الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي طفحت بها عموم نصوص الشريعة المطهرة
فيا للعجب من هؤلاء النعاق الجهلة الأبواق.
ولو كان المتكلم عالما محتجا بكتاب وسنة لرددنا عليه
لكنا هنا ننبه على جهله وصفاقته حتى لا يغتر به أحد
وقد غرر بأتباعهم من الطائفة النابتة الأبعام المتجرئين النوكى الذين آذوا المسلمين وما تركوا عالما ولا فرقة ولا شيخا إلا وآذوه.
وقد بينت في كتابي المقدمة في فقه العصر في فقه الدولة في المعارضة السياسية وأحكامها وشروطها
ما تنشرح به الصدور من الدلائل البينات والعمومات والكليات الواضحات وعمل الصحابة فراجعه
ثم استدل المتكلم
بحديث ولو جلد ظهرك
وهذه الزيادة من الشواذ المنكرة أوردها مسلم في رواية آخر الباب بعد الروايات الصحيحة لبيان علتها
وقد بينت ذلك في مبحث في كتابي خارطة النظر تحت الطبع
واستدل كذلك أن القول بخلق القرآن كفر وهو أشد من الزنا على الهواء ولم ينكروا
وهذا كذب على العلماء فإن أحمد أنكر القول بذلك علنا على رؤس الاشهاد وجلد بذلك
فهناك فرق بين الخروج بالسيف والانكار.
وأما قوله أن خلق القرآن أعظم من الزنا فالزنا قطعي منصوص وأما خلق القرآن فخلافي بين أهل الإسلام
وقد قال الشوكاني حيث قال: «إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول» (1/ 39):
«مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه، وإن طالت ذيولها، وتفرق الناس فيها فرقا، وامتحن بها من امتحن، من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين، ليس لها “كبير”* فائدة، بل هي من فضول العلم، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم عن التكلم فيها.»
والحاصل أن إنكار المنكر على هذا الزاني على الهواء فرض على الأمة.
وكذلك لو فشت المظالم من الظالم أنكر عليه جهرا بكل وسيلة
إن لم يمكن إلا بذلك وكان المنكر قادرا على ذلك ولم تحصل فتنة أعظم من هذا الانكار.
والدليل على ذلك :
قوله تعالى (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) (النساء:148).
ولا شك أن المنكرات العامة من الدولة والنافذين مظالم عامة
وهي مخالفة لمقتضى العقد الممنوح لهم
ومن خالف العقد فللمعقود له وهو الشعب أن يصدح بالاعتراض والإنكار لأنه ظلم.
وهذا النص استثنى فيه ربنا رفع الصوت بالمظلمة.
والاستثناء من العموم نص في الخصوص صريح الدلالة على المراد.
ويدل لذلك عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا مخصص لها من حاكم أو غيره
ومن ادعى أن الحاكم مخصص من ذلك فعليه الدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة وأنى له ذلك
بل ورد خلافه فثبت أن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
وسمعت قبل عشرين عاما من أتباع المخابرات المدخلية
من قال إن (عند) تقتضي أن يكون عنده في قصره وهذا سر
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون: لا كلام مع هؤلاء ولولا تغريرهم ونشر باطلهم لكان السكوت عنهم من الفضل.
والله تعالى يقول: «{إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}»
فهل بر الوالدين يقتضي أن يكون سرا داخل الغرف المغلقة أيها المغلق العقل
وقال سبحانه: ﵟوَلَمَّا جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ ﵞ [البقرة: 101] فهل نزل محمد من السماء وكان عند الله أم هو وحي أوحاه إليه.
فإلى الله المشتكى من هؤلاء .
كما دل على ذلك إجماع الصحابة فقد كانوا ينكرون على الخلفاء الراشدين والأمراء بما يرونه جهارا نهارا على رؤس الاشهاد.
بل أمروا بذلك كما ثبت بالاسانيد الصحيحة والطرق المتكاثرة عن أبي بكر الصديق كما : أخرجه ابن إسحاق بسند صحيح قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري، قال: حدثني أنس بن مالك، «سيرة ابن هشام – ت السقا» (2/ 661)
قال في خطبته « فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،» قلت هذا سند عال صحيح متصل
.» وهو في الزهد لأبي داود بسند حسن صحيح. «الزهد لأبي داود» (ص56)
لذلك قال ابن كثير بعد إيراده «السيرة النبوية من البداية والنهاية – ت عبد الواحد» (4/ 493):
«وهذا إسناد صحيح
والحاصل أن هذه الدعاوى الفاترة ليست من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا تابع
بل هي خلاف نصوص الكتاب والسنة والاجماع من الصحابة والخلفاء وغيرهم
وأما حديث إلا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا
فهذا واضح في تحريم الانقلاب المسلح على الحاكم لمجرد معصيته
وليس فيه أن لا تنكروا عليه
ثم إن الكفر البواح مأخوذ من الإباحية وهو الجهر والإعلان بالمنكر
فلو زنى علنا على الهواء كما يقول هذا المجنون لوجب الرجم إلى الموت وهذا أعظم من عزله.
فإن كان غير متزوج جلد وجوبا وهذا أعظم النهى عن المنكر.
ولأنه داع بفعله إلى الزنى مشجع له تارك للمعروف
مستخف بالشرع وبطاعة الله فهذا أعظم من زناه فقط لأنه معلن باستهتاره بالدين وكتاب الله وشرعه
ولأنه دعى إلى ذلك وحث عليه وشجع وأسقط أوامر الله ورسوله وخالف مقصود عقد الولاية.
فهذه ليس معصية مجردة عادية بل إعلان بتحديه لشرع الله ودينه معلن للناس الإباحية والمنكر
وانظر إلى قول العلماء في أن الكفر البواح يشمل المعاصي القاطعة على رؤس الاشهاد
حتى قال النووي: «شرح النووي على مسلم» (12/ 229):
«والمراد بالكفر هنا المعاصي ومعنى عندكم من الله فيه برهان أي تعلمونه من دين الله تعالى ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم»
بل في مسند أحمد بسند صحيح «مسند أحمد» (37/ 404 ط الرسالة):
«قال: ” ما لم يأمروك بإثم بواحا “»
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 8 ط السلفية):
وقد بين العلماء جواز إنكار المعصية لأنه لا منازعة في الولاية بمجرد الانكار في المعاصي.
قال ابن حجر: «فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا، والله أعلم.»
وفي «فتح الباري» لابن حجر (13/ 6 ط السلفية):«وفي حديث عمر في مسنده للإسماعيلي من طريق أبي مسلم الخولاني، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن عمر رفعه قال: أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتتنة من بعدك. فقلت: من أين؟ قال: من قبل أمرائهم وقرائهم، يمنع الأمراء الناس الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون، ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون. قلت: فكيف يسلم من سلم منهم؟ قال: بالكف والصبر؛ إن أعطوا الذي لهم أخذوه، وإن منعوه تركوه.»
أقول: ونصوص السنة في إنكار المنكر لا تكاد تحصى على ا الرؤساء والأمراء والملوك والسلاطين وغيرهم
لكل قادر على ذلك ولم يعدها الشرع خروجا ولا منازعة
حتى جاء هؤلاء الذين لا يفقهون كتابا ولا سنة فقيدوا الشرع بأقوالهم
وكذبوا على السلف والخلف وسأورد عليك طائفة منها:
1_ ففي الحديث الصحيح عن عبدالله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له انك أنت ظالم فقد تودع منهم».
دل الحديث على وجوب قول الأمة للظالم قد ظلمت وفعلت كذا ولم يقل سرا وراء جدر ولا في خيمته ومجلسه.
فجاءت هذه النابتة الخبيثة لتحرف دلالات كتاب الله وسنة رسوله بما في رؤسهم
فضلوا وأضلوا بل أضلوا الحكام وحملوهم على الجرأة على الدين وأغروهم بالسطوة على العلماء المنكرين
ورموهم بجرائم تبيح الدم كذبا وزورا
فهم يتحملون هذه المظالم قبل الظالم وهؤلاء تبرأ منهم رسول الله في قوله
في الحديث الصحيح عند أحمد: «إنها ستكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ويعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض».
فهذا الحديث متحقق في هذه النابتة الضالة
.2_ و أخرج الإمام مسلم برقم 4906 من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع». قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال «لا ما صلوا».
فهذا نص على الإنكار فأين ما قالته هذه الفرقة المخابراتية وإنما النهي عن القتال
3- وأخرجه مسلم في الصحيح برقم 186 عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».
فهذا أنكر على رؤس الاشهاد وأقره الصحابة. واستدل له بالنص المذكور.
والأوامر بالستر على المسلم منزل على معصية شخصية استتر صاحبها عن الناس فمن ستره ستره الله مع أمره ونصحه عن المعصية.
لا كقتل بل يجب الشهادة على القاتل؛ لأنها مظلمة واقعة على الغير فوجب دفعها بما بين الشرع وتجب الشهادة فيها عند اقتضاء لزومها.
فإن كانت المعصية متعلقة بمظالم العامة جاز إنكارها على رؤوس العامة
لأنها من المستثنى في الآية (إلا من ظلم،)
ولقوله تعالى: (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) (الشورى:40).
فأساء بمجاهرته بالظلم فقوبل بالجهر بالانكار عليه .
وما قررناه هنا وفي غير هذا الموضع مقصوده الرد على من حرم الإنكار العلني ومنعه وجعله خروجا
وليس فيه المنع من البدء بالمناصحة سرا إن قدر لأنها أفضل
لكن من جاهر أمام الخلق بعصيان الله مستهينا بذلك وجب مناصحته بالذهاب إليه
فإن أبى كرر له الأمر حتى تقام عليه الحجة، فإن استعصى شُهِرَ دَفْعُ المظلمة ليكون أدفع له وأزجر، ولأن المفاسد إن لم تدفع إلا بهذه الوسائل وجبت في الجملة؛ لأنها وسيلة لواجب.
وأحاديث النهي عن الخروج كلها دائرة على المعنى المسلح لأدائها إلى ما في النص من المحذور وهو «يقتل برها وفاجرها ولا يتحاشى عن مؤمنها»( ). وهذه عادة الفتنة المسلحة لعدم إمكان الانتقائية والتحاشي، فيعم الفساد، وهذا منكر.
والإنكار للمنكر غير الفرح به، فلا يجوز الفرح بالمنكر ولو نكاية بظالم؛ لأن الفرح بالمنكر منكر.
والواجب هو الإنكار، وهو غير الفرح به.
أ.د. فضل بن عبد الله مراد
رئيس منصة الإفتاء اليمنية
أستاذ الفقه والقضايا المعاصرة