تقارير وإضاءات

الجامية المدخلية في السعودية.. أداة مخابراتية لتدمير الخصوم

الجامية المدخلية في السعودية.. أداة مخابراتية لتدمير الخصوم

إعداد مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث

ليس بجديد أن تظهر شخصيات دينية موالية للحُكام والسلطة لتبرير القرارات والسياسات، لكن ما فعله “التيار الجامي المدخلي” أكثر من ذلك بكثير فهو أداة المخابرات لمراقبة وشيطنة التيارات الإسلامية وسلطة دينية تقدم نفسها كتأييد شعبي لقرارات الحاكم مستخدمة الفتاوى والآراء لحماية العرش وكرسي الحُكم لعائلة “آل سعود” الحاكمة في المملكة.

تقُدم الجامية المدخلية نفسها “كأنها الأساس الوحيد للسلفية”؛ وظهرت بمظهر “سيء” لتشويه الفتوى والآراء الدينية التي لا تتوافق مع أهواء السلطة ولا غضاضة عند هذه الفرقة أن يظهروا بمظهر المتناقض، مادام ذلك يخدم أغراض الأجهزة السلطوية؛ فبعد أن استمرت الجامية المدخلية عقوداً من الزمن تُحرم “الأغاني” بل و”مشاهدة التلفاز” و”الاختلاط” و”قيادة المرأة للسيارة” لكنها الآن أصبحت تحلل كل ذلك بعد رؤية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والانفتاح الجديد، لكن مواقفها من حرية التعبير والانتقاد وانتهاكات حقوق الانسان وعدم استقلالية القضاء يتماهى بالضبط مع موقف السلطة بل تزيد على ذلك بتبديع وتضليل من ينادي بهذه المطالب البديهية.

يركز هذا التقرير على الجامية المدخلية التي أظهرتها السلطة أبان حرب الخليج، والدور الذي لعبته في المملكة خلال تلك الفترة من حيث النشأة ومواجهة “تيار الصحوة” واستخدامه كأداة للسلطة لتبييض صورتها أمام المجتمع السعودي المتدين بطبيعته.

النشأة

منذ تأسيس المملكة أخذت التركيبة السياسية، شكلا واحدا من الناحية الدينية: العلماء (الذي ينتمون في الغالب للمذهب الحنبلي والدعوة الوهابية) ومن الناحية الدنيوية: أمراء أسرة محددة “آل سعود” الذين بيدهم الحكم،

 ومن المفترض إسلاميا أن العلماء يطبقون مضامين الدين في جميع النواحي، لكن ما حدث هو ان السياسيين (الحُكام) قاموا بتجيير “المجال الديني” للحصول على فتاوى دينية توافق أطروحاتهم، وتقدمها كإلزام إلهي للشعب في محاولات لتدجينه تحت شعار “طاعة وليّ الأمر” الذي تم جعله بمثابة ركن من أركان الإيمان. وأعطى السلطة الحق في المزج او الفصل بين “المجالين الديني والسياسي”، كما تمنع التفاعل بين المجالين خارج إطارها وسلطتها، لكن مع حلول التسعينات بدأت الأمور تأخذ منحاً جديدا في تعميق هيمنة السياسي على الديني.

وقبل الحديث عن نشأة الجامية المدخلية يجب المرور أولاً بظهور تيار الصحوة الذي جاءت الجامية المدخلية لمواجهته. وكان الغزو العراقي للكويت (1990) علامة فارقة في الإقليم ودول الخليج بالذات لكنه كان يشكل حالة خاصة في الحالة السعودية، حيث مثلت أخطاء السلطة في التعامل مع غزو الكويت على المستوى الشعبي السعودي فشلاً “عسكريا وأخلاقيا وسياسيا للنظام السعودي”.

حيث حدثت تطورات حرب الكويت بوتيرة متسارعة للغاية، على الرغم من التعتيم الإعلامي والسياسي الرسمي السعودي، الذي أدى إلى غضب المجتمع، واتخذت الأحداث في الكويت وتيرة متصاعدة خلال أشهر معدودة خارج سيطرة الدولة والمجتمع مع هول الصدمة التاريخية التي حدثت ولم تكن السلطات على مستوى التطورات، في مجتمع كان الوصول إلى الأحداث السياسية محدوداً، ففوجئ بكم كبير من الأخبار السياسية عن دولته ومنطقته في ظل صمت من السلطات.

 تشكل وعيّ التيار الإسلامي كجزء من تطورات البلاد العربية والمجتمع فتحركوا لمطالبة السلطة بالتوضيح والإصلاحات- مع أن التحركات المطالبة بالإصلاحات كانت قبل ذلك- لكن الدافعية الوطنية والخطاب الهوياتي المتصاعد دفع المجتمع مع الإسلاميين لمخاطبة السلطة والوقوف ضد خطر يتهدد الدولة والمجتمع. وفي مجتمع تعود على خطاب إعلامي واحد ورؤية واحدة للسلطة فقط شكل ذلك نقلة جديدة وسهل وجود “الكاسيت” في ذلك الوقت في تصاعد نوع من حرية الرأي والتعبير. ومع الصدمة من اندفاع المجتمع للفهم السياسي ارتبكت حسابات السلطة وأعاد تفكيرها مجددا في إحكام السيطرة على المجالين “السياسي” و”الديني”. وكان شباب ما عُرف لاحقاً ب”الصحوة” –ينشطون في نشر الوعي بالأحداث، إضافة إلى مساعدة النازحين الكويتيين والذهاب إلى الحدود والمخاطرة في انقاذ الأسر، وتحدثت صحف رسمية كثيرة عن ذلك بالكثير من الإشادة.

 وفي أغسطس/آب1990 استقطبت الخطبُ الحماسية عشرات الآلاف من السعوديين المتحمسين في أرجاء المملكة رفضاً للوجود الأمريكي والاستعانة به، وللأمانة لم يكن لـ”تيار الصحوة” أي تشدد في معارضة السلطات، بقدر ما كان نقداً مشفوعا بالشفقة على مصير البلاد، وتشير محاضرة الشيخ “سفر الحوالي” في مسجد الملك خالد تحت عنوان “ففروا إلى الله” إلى حوار هادئ حول الاختلاف بين العلماء، بينما قام الشيخ عوض القرني بإلقاء محاضرة في مدينة بيشة عن القوى الضالعة في أزمة الخليج، حيث وضع النقاط على الحروف في هذه الأزمة، مما أدى إلى اعتقاله في أبها، أعقب ذلك تحرك أول مظاهرة من نوعها في البلاد من طلاب الجامعة، واعتقلت السلطات عدداً منهم.

 وكان رفض المشاركة الأمريكية بالطرق السلمية ينحو هذا المنحى، إلا عند مجموعة من “الشباب الجهادي” الذين قاتلوا في أفغانستان، الذين حاولوا التعبير عن رفضهم باستعراض نوع من القوة.

انتهت الحرب لكن حراك المجتمع السياسي كان مستمراً مع زيادة الوعي السياسي حتى أصبح حملة شبه منظّمة حيث وقع بعض المثقفين وشيوخ الدين التماساً إلى السلطات للمطالبة بالإصلاحات فيما عُرف ب” مذكرة النصيحة” وكانت تلك الهزة الكبيرة للنظام للمرة الأولى بعد أن كان يقدم نفسه بالنظام المنيع غير الممكن اختراقه، وشعر بحجم الوعيّ الشعبي وقدرة الشارع على تجاوز تفكير السلطات. وبدأ التصعيد يدخل مرحلة جديدة بين السلطات وتيار “الصحوة” وكان التأثير الأبرز للتيار من الإسلاميين والمثقفين في أرجاء المملكة، التي مثلت الحركة الإسلامية روحها الوثابة التي نظمت المطالب رغم حملة القمع.

ولأجل مواجهة هذه الصحوة كان لابد من إظهار شيوخ ووعاظ تابعين للعائلة الحاكمة لمواجهة الحراك المتنامي، وتأصيل قرارات السلطات تأصيلاً دينياً وتحولت مواقف تلك الشيوخ في تلك الفترة إلى تيار عُرف ب”الجامية المدخلية”.

وتنسب الجامية المدخلية إلى شيخين هما ربيع بن هادي المدخلي (ولد في اليمن 1932)، ومحمد أمان الجامي (1931- 1996) الإثيوبي الأصل؛ وكلاهما حصلا على الجنسية السعودية كمكافأة حكومية، وقد تجمع حولهما عدد من الذين تلقوا العلم على أيديهم؛ ليصبحوا لاحقا تيارا يبرر للسلطة ويعادي كل ناشط إسلامي سواهم.

ويمكن القول بأن هذا التيار تمت رعايته رسميا، في الأساس لتبرير استعانة السعودية بالولايات المتحدة لإخراج القوات العراقية من الكويت، بعد أن رفضت معظم التيارات الإسلامية في المملكة ذلك جملة وتفصيلا.

ثم تسلسلت خدماتهم الأمنية، ليقوموا بمواجهة الصحوة، حيث تم تنشيطهم في هذا الاتجاه لتكون جهودهم منصبة على التشويش على مناشط الصحوة والتشكيك بها بما فيها حلقات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية والمحاضرات وخطب الجمعة، والكتب والمقالات. ومع أن هذا التيار لا يملك شعبية داخل المجتمع إلا أنه أحدث تشويشاً في حركة الصحوة لأن السلطة تبنته ودعمته ماديا ومعنويا. وكان شيوخ الجامية يقومون بمحاضرات في مناطق نفوذ ومساجد “الصحوة” ووصل في بعض الحالات إلى عراك بين التيارين، إضافة إلى كتابة التقارير الأمنية ضد العلماء والمشايخ المستهدفين من الدولة.

ثم إن التيار نشط تحديداً في الفترة التي أعقبت حرب الخليج إثر بروز دعاة الصحوة في السعودية مثل الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان العودة، الذين كانوا رموز الصحوة إلى جانب د.عوض القرني وعائض القرني وناصر العمر، والدكتور عبدالله التويجري والدكتور عبدالله الحامدي، والدكتور سعد الفقيه، وأخرين كُثر، ممن تصدروا المشهد السياسي والمطالب الإصلاحية من خلال الرسائل والبيانات والمنظمات واللجان التي شكلوها، وناقشوا هيئة كبار العلماء التي حاولت استهداف “المطالب الإصلاحية” ووصفها ب”التحزب وإثارة الفتنة” بإيعاز من الدولة.

انتشر التيار الجامي في معظم المُدن والمحافظات السعودية، وتم غرسهم في الجامعات والمساجد من قبل العائلة الحاكمة التي وجدت في “الجامية المدخلية” ضالتها، فجعلت على رأس هذا التيار أحد أخوة الملك وهو الأمير ممدوح بن عبد العزيز وفتحت لهم أبواب الجامعات والمؤسسات الدينية والتعليمية لموجهة التيارات والأفكار الإسلامية الأخرى الحركية، بنصوص شرعية وآراء مصبوغة صبغة دينية. وأصبح هذا التيار اليد الأمنية لكتابة التقارير المغرضة ضد التيارات الإسلامية الأخرى، وأداة للسلطة في الحصول على مداخل فقهية ودينية لتبرير قراراتهم وسياساتهم الداخلية والخارجية.

وانتشرت الجماعة فصار لها أتباع، ورموز في الخليج العربي واليمن ومصر والأردن والجزائر وليبيا، وكذلك لهم امتداد بين المسلمين في أوروبا، وتستخدمهم السلطات السعودية لإنفاذ سياستها الخارجية وتحسين صورتها.

منطلقات عمل “الجامية”

يأتي التيار المدخلي من خلفية سلفية “وهابية” ليكونوا رديفاً للسلطة وموالين لها، ضد المطالب الإصلاحية قبل 1990 وبعده، لكن لاحقاً مع تغول التيار “المدخلي الجامي” عبر سلطة الدولة؛ تخصص في أمرين ظاهرين هما، المديح والتزكية المطلقة للسلطة والعائلة الحاكمة، ومهاجمة دعاة الإصلاح السياسي والديني والاجتماعي والحقوقي في المملكة.

وتلقى التيار عونا واضحا من وزير الداخلية –آنذاك- الأمير نايف، ومن نائب رئيس المخابرات سعود بن فهد، وتم وضع موارد مادية ومالية كثيرة وكبيرة للتيار مما جعله يكسب وجوداً سريعاً وقوياً في المملكة، إذ اُعتبر التيار مصدراً للحصول على المال والنفوذ الاجتماعي والرسمي السريع، وخاصة من قبل الأشخاص الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مهمشين دون راعٍ.

ومن أبرز هؤلاء أسامة عطايا الفلسطيني والذي ساعده الانخراط في “التيار الجامي” في الحصول على موطئ قدم في الجامعة الإسلامية (1993) -على حساب آخرين تم فصلهم من الجامعة بسبب التحاقهم ب”التيار الصحوّي” وسلمت وظائفهم للجاميين- وأصبح لاحقاً أحد أبرز المنظرين والمدافعين عن النظام السعودي.

يرى ستيفان لاكروا في كتاب “زمن الصحوة” أن التيار المدخلي الجامي مبني على ركنين:

الأول، الولاء الكامل والمطلق ل”آل سعود”: ويقوم هذا الولاء على السمع والطاعة لولي الأمر وتحريم كل أشكال النقد أو الاحتجاج على الحاكم مستندين بذلك إلى أدبيات أهل الحديث. الذين يعتبرون “قلب” الجامية النابض- على حد تعبيرهم- ويرون أن الدفاع عن “آل سعود” واجب مطلق لا يقوم معه واجب أخر حتى لو كان تجاه المجتمع أو الدين، وقد أدى ذلك إلى تسميتهم “حزب الولاة” لهرولتهم الشديدة في الدفاع عن العائلة الملكية في السعودية. يذهب ذلك إلى ولاء سياسي مطلق لمؤسسات المملكة الرسمية –حتى الخدمية منها- حيث يحظرون أي رأي لانتقادهم ويعتبرونه “مدعاة للفتنة”!

من هذا المبدأ بدأت الجامية المدخلية بشن حربها على مختلف الجماعات الإسلامية، دون استثناءات، حيث أصدروا آلاف الأشرطة وعشرات الآلاف من المحاضرات، للتحذير من معارضي الحاكم، وشيطنة الحقوقيين والشرعيين الذين يطالبون بإيقاف الظلم والاضطهاد، وهو ما جعلهم يلجؤون إلى الهجوم على كل من خالفهم، ويُخرجون إليه الاتهامات المعلّبة، باسم العمالة تارة، والبدعة والفسق والخوارج تارات. واعتبرت كل شخص لا يقف مع “ولي الأمر” مبتدعة ضالون، لا يرضى عنهم الحاكم، وبالتالي فإنهم يخالفون منهج السلف، الأمر الذي وجّه غالبية سهام نقدهم ومعاركهم تجاه الإسلاميين، لا تجاه العلمانيين أو اللادينيين أو الحكام المستبدين، وهو ما جعل -كذلك- كل الإسلاميين خصوما لهم.

وفي ذلك يقول أحد أبرز شيوخهم (محمد بن هادي المدخلي):

 أما الملوك فهم آل السعود لهم … سمع وطاعتهم حتم بقرآن

ولا يحل لشخص خلع بيعتهم … ومن يخن فعليه إثم خـوان

أبا سعود أطال الله عـمركم … في نصرة الدين والملهوف والعاني

الثاني، العداء الكامل للمعارضين والمنتقدين: بالنظر إلى الأصل الأول لعمل “الجامية المدخلية” يُعرف العداء لتيار الصحوة وأدبياته، حيث يرون أن “الانشغال في السياسة ليس من الدين في شيء”، ويرى ستيفان لاكروا أن الجامية تعيش في قطيعة مع “المشاركة شعبية”  أو”الانتخابات” و”التمثيل البرلماني” و”حرية الرأي والتعبير”، ويعتبرونها نماذج غربية، ولا يذهب ذلك فقط إلى مواجهة الفكرة بل يذهبون إلى أبعد من ذلك باستهداف وتشويه الأشخاص –وهي طريقة مخابراتية في الغالب باستهداف شعبيتهم- ويستند هؤلاء في عملهم إلى علم “الجرح والتعديل” عند أهل الحديث، بطريقة خاطئة ومتجاوزة حدود العلم والأدب؛ حيث يرى الجامية المدخلية أن هذا العلم لا ينحصر فقط على رواه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بل إلى كل من يتحدث “عن الإسلام وباسمه” ونشر “ربيع المدخلي” ردوداً على الشيوخ “سفر الحوالي” و”سلمان العودة” و”ناصر العمر” و”سيد قطب” و”بكر أبو زيد” وعدد أخر من الدعاة والمصلحين الوسطيين حتى أن أتباعه يعتبرونه “رائد علم الجرح والتعديل في عصره”!

ووصل التصعيد ضد معارضي “الجامي” إلى حد تكفيرهم ما قاد إلى دعوة “منبرية” شهيرة لعبدالعزيز العسكر وسليمان أبا الخيل لقطع رؤوس “الحوالي والعودة والعمر” بعد أن تم وضعهم في السجن في فترة التسعينات. والفرح العلني بإعدام الشاب عبد الله الحُضيف.

يقول “المداخلة” إنهم يرفضون الأحزاب والتنظيمات والعمل السياسي، مع أنهم في الأصل تيار سياسي، إذ أن الطاعة الكاملة للحاكم وعدم مجادلته ورفض نصيحته أو معارضته هي في الأصل أفكاراً سياسية وتعبر عن تيار سياسي. ويوصفون ب”حزب التجريح اشتقاقًا من كلمة الجرح ومعناها: الطعن بالشخص.

وهم حزب نظرا لتكتلهم وانغلاقهم، وكل جماعة من الناس متكتلة لها انتماء فكري تسمّى في اللغة العربية حزبًا”.

وتحدث علماء سلفيون كُثر عن “المداخلة” ورفضوا أفكارهم بل وصل إلى أن تم وصفهم ب”الفئة الضالة” وغلاة الطاعة وحزب الولاة والخلوف والمرجفون في المدينة.

النفوذ والسيطرة

انتشر التيار المدخلي الجامي مع الحملة التي شنتها السلطات مستهدفة الصحوة، بالسيطرة على المنطلقات التي تتحرك فيها الصحوة، وإحلال “الجامية المدخلية” والموالون للسلطة بديلاً عنها، في محاولة لتغيير قوانين اللعبة التي نشأت في التسعينات بين السلطة السعودية وتيار الصحوة. بطريقة تجعل من النظام السياسي مهيمناً للغاية على تلك المنطلقات والمجالات.

هيكلة المؤسسة الدينية: نتيجة ما أحدثه علاقة السياسي بالديني في إحداث هزة النظام مع الدعم الأمريكي وتحول ذلك إلى تيار صحّوي ينادي بالإصلاحات، شهد “المجال الديني” أوسع حملة من قبل “آل سعود”، إذ شعرت العائلة الحاكمة أن مجال نفوذها في المجال “الديني” بدأ بالتراجع حيث ظلت هذه المؤسسة منذ (1971) تخضع للنفوذ شبه المباشر من العائلة الحاكمة، لكن مع التسعينات بدأ النفوذ يظهر بشكل كبير وواسع حيث أعلنت المملكة عن صدور أمر ملكي في 10 يوليو/تموز1993 بتأسيس وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، لتسحب “الدعوة والإرشاد” من الرئاسة العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، في سحب لجزء من استقالايتها واختصاصها، وجعلت من المواد الدعوية (المطبوعات والملفات الصوتية) بيد الوزارة لتبقى مهمة الرئاسة العامة هي الإفتاء، وهو ما اعتبرته السلطات نافذة كبيرة للتيار الصحوي للنفوذ، وشيئاً فشيئاً توسع التيار المدخلي الجامي كبديل ومسير للوزارة التي أصبحت كل شيء فيما يخص الخطاب الديني في المملكة والذي أصبح بيد “السياسيين”. كما أن مهمة الأوقاف جرى سحبها من وزارة “الحج والأوقاف” لتصبح فقط وزارة الحج، وبذلك تمكن التيار “الجامي المدخلي” من السيطرة على المساجد وعلى المحاضرات والخطب وعلى سياسة المطبوعات في المملكة.

ومن الواضح أن تأسيس وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف جعل من الوزارة أداة السلطة النافذة في المجتمع، وأصبحت أقرب إلى توجه “العائلة الحاكمة” و”ليس المؤسسة الدينية”؛ وفي الشهور الأولى لهذه الوزارة جرى تحويلها إلى أداة رقابة واسعة ففرضت رقابة على “المساجد والخطباء” عبر تأسيس المجلس الأعلى للأوقاف، وعملت على تأسيس مجلس لإدارة مراكز تحفيظ القرآن الكريم الخيرية، ومجلس ثالث للدعوة والإرشاد، وكلها بيد الوزير الذي يتم اختياره من العامة وليس من العائلة الحاكمة لإعطاء نظرة باستقلالية الوزارة عن العائلة! لكن ذلك لم يكف فقد جرى اكتمال السيطرة على “المجال الديني” بتأسيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (1994) وترأسه الأمير نايف وأمراء أخرون من الصف الأول، وكان هذا المجلس هو المسير للخطاب الديني والمؤسسة الدينية ككل في المملكة. وأثر ذلك بالفعل على العلماء المستقلين مع احتكار “الجامية المدخلية” بالسيطرة على الوزارة ومجالسها، وحملات الوزارة المنظمة لنشر الأفكار “الجامية المدخلية” لخطباء وأئمة المساجد عبر دورات مكثفة استمرت أعواماً لمكافحة الأفكار الإسلامية الواعية.

المجال الجامعي (النخبوي): ظهرت سياسة الهيمنة بشكلها الأكثر سوءاً في المجال الجامعي، فقد كانت الجامعات معقلاً من معاقل التيار الإسلامي الوسطي الشامل، وكان الأكاديميون والطلبة والعلماء في أوائل الموقعين على “عرائض” و”رسائل” الإصلاح وفي مقدمة تيار الصحوة، وظهر ذلك واضحاً في نوفمبر/تشرين الثاني 1993 عندما تم إقرار نظام جديد للجامعات السعودية تفرض السلطات بموجبه رقابة تامة على الوظائف الإدارية، بما يشمل الترقيات، وقد كانت الجامعات تختار موظفيها. وربط الملك –وفق القانون- تعيين مدراء الجامعات والرؤساء بتعيين من الملك حصراً، وسيكون على الجامعات تقديم المرشحين إلى وزارة التعليم العالي بما يشمل وظائف الجامعة ورئاسة الكليات ورؤساء الأقسام. في هدف يمنع العلماء والدعاة الواعين من التأثير والوصول. ولانسداد الأفق لدى السلطات بعد اهتزاز النظام عقب ظهور التيار الصحوي، حصل تأييد من قِبل معظم أعضاء العائلة الحاكمة على الإجراءات وحصل على مشاركة متحمسة من التيار الجامي المدخلي.

وكما حدث في “هيكلة المؤسسة الدينية السعودية” جرى في الجامعات التي كانت منارة الحراك السياسي في تلك الفترة وجرى تجريف نداءات الهوية الوطنية والحقوق والحريات بأفكار دينية يمثله “التيار المدخلي الجامي” الذي يشير إلى “طاعة ولي الأمر في المنشط والمكره..الخ”، وجرى حلّ الكثير من المنظمات والمجموعات الأدبية والسياسية كما جرى محاربة المجموعات الدينية التي لا تكون السلطة وراء إنشائها، إلى جانب محاربة الإصلاحيين على مدى العقود السابقة. حتى جرى منع والقضاء على جمع تبرعات للقضايا الإسلامية أو التضامن معها من خارج القنوات الرسمية التي بنتها السلطات.

وكانت “المدخلية الجامية” جاذبة للترقي الوظيفي لدى الحكومة، “ففي الجامعة الإسلامية بالمدينة على سبيل المثال، ثم استبدال العلماء المستقلين والذين تنبزهم السلطات باسم الصحويين مثل موسى القرني وعبد العزيز القارئ وجبران الجُبران بالجاميين تراحيب الدوسري وسليمان الرحلي وعبد السلام السحيمي.

القمع: تعرض التيار الإسلامي الوسطي “الصحوي” إلى حملة وصفت بحملة “سحق” للنداءات الإصلاحية بين عامي (1993-1994) شمل خطباء وأكاديميين ومثقفين معتبرين وعلماء، وبعكس الملوك السابقين للسعودية حيث كان هناك موائمة بين القمع والضغط مع المطالب الإصلاحية والشخصيات الاعتبارية السعودية إلا أن هذه الحملة كانت شنعاء بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وفيها ظهر التيار الجامي المدخلي كمبرر لهذه الحملة التي استهدفت أبناء الوطن الذين يمارسون حقهم في التعبير في ظلال النصوص الشرعية، ليبتكر التيار نصوصاً لتبرير هذا القمع.

العمل كجهاز مخابرات

تدعو فتاوى “الجامية المدخلية” إلى تعاون مفتوح مع الشرطة في كل شيء، لذلك كانت التقارير المخابراتية عن كل من يعارضونهم أو يتحدثون بالسياسة وسيلة لمواجهة معارضيهم وإفشاء من ينتقدون السلطة، وفق ما يرونه “تحفيز للسلطات على اتخاذ الإجراءات الضروريّة”.

ويظهر تقرير سري نشره بعض الجاميين تحت عنوان “التنظيم السرّي العالمي بين التخطيط والتطبيق في السعودية”، ويسرد التقرير الذي قُدم من قيادات الجامية إلى “الداخلية السعودية” حديثا مختلقا عن “تنظيم سري يسعى لقلب نظام الحكم في السعودية”! وعلى هذا الأساس جرى اعتقال الآلاف من السعوديين من الإسلاميين ومنظروهم ومعارضو النظام بناءً على تلك التقارير سواء منها ما نشر أو تلك التي يتبرع الجامية بالبلاغات السرية ضد كل من ليس منهم من الاسلاميين.

الخاتمة

تظهر الجامية المدخلية مع الأزمات التي تمر بها السلطات من أجل التبرير، وهو ما حدث بالفعل بعد وصول محمد بن سلمان إلى السلطة، الذي تزايدت أخطاؤه. وظهر واضحاً من خلال تبرير القتل البشع للصحافي “جمال خاشقجي”، وتلّون قادة هذا التيار مع تناقض الروايات؛ ويظهر كذلك في تبرير حملة الاعتقالات والتعذيب في السجون ضد المعارضين الذي تزايد مع وصول “ابن سلمان” إلى منصب ولي العهد.

مع ذلك فإن مستقبل هؤلاء أقترب من نهايته، فعلى الرغم من قيام “ابن سلمان” باستخدامهم كأداة إلا أنه يبذر لهم بذور الخديعة فالرجل الذي يبدو “مراهقاً” يرفض حتى الحديث عن الإسلام ويسعى ل”علّمنة” كاملة تلغي وجود المؤسسة الدينية بالكامل حتى لو كان وجودها شكلياً. حيث يشعر “ابن سلمان” أن “الجامية المدخلية” التي كانت أداة بيّد الأمير نايف وانتقلت إلى نجله الأمير محمد وبعد عزله، تمثل أداة بيّد غيره قد تستخدم ضده لذلك يبدو أنه سيبحث عن “دراويش” الصوفية التي استعانت بها الإمارات بدلاً من السلفية التقليدية للسعودية، قد يحتاج ذلك وقتاً لكنه بمجموع تصرفاته سيثير الكثير من السخط الشعبي والديني قد يؤدي إلى فناء النظام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع

كتاب: التيارات الدينية في السعودية، خالد المشوح

كتاب: السعودية سيرة دولة ومجتمع، عبدالعزيز الخضر

كتاب: زمن الصحوة الحركات الإسلامية المعاصرة في السعودية، ستيفن لاكرو

كتاب: [ السعودية الدولة والمجتمع ] محددات تكوّن الكيان السعودي لـ د.محمد بن صنيتان

(المصدر: مركز جزيرة العرب للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى