كتابات

موقف المسلم من حكومات العالم الإسلامي

بقلم د. جعفر شيـخ إدريـس

يمكن أن نقسم الحكومات تقسيماً أولياً إلى قسمين: حكومات تحكم المسلمين وحكومات تحكم غير المسلمين وقد يكون فيهم أقليات مسلمة وقد لا يكون.

وسنقصر حديثنا هنا عن النوع الأول.

والحكومات التي تحكم المسلمين يمكن أن تقسم بدورها إلى قسمين: حكومات إسلامية وحكومات غير إسلامية. وواجب المسلم أن يعمل ما استطاع لمناصرة كل حكم إسلامي، ومناهضة كل حكم غير إسلامي. فموقف المسلم من الحكومات المعاصرة هو بحسب نوع الحكومة التي تحكمه، ونوع الحال التي هو فيها. لكن الأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل، وهو ما سنحاول القيام ببعضه في هذا البحث مستمدين من الله تعالى العون والتوفيق، وراجين من إخواننا النصح والتسديد.

وبما أن هذا البحث بحث تأصيلي، فقد رأيت أن لا أتعرض فيه لذكر الأسماء، وإنما أكتفي بوصف المعايير التي تصنف على أساسها الحكومات، ثم يتخذ منها الموقف الملائم لها بحسب تصنيفها.

الحكومة غير الإسلامية

تكون الحكومة غير إسلامية إذا كان الحاكم غير مسلم، أو إذا كان الحكم كله أو جزء منه قائما على تشريع غير شرع الله.

1- الحاكم غير المسلم

إذا كان الحاكم غير مسلم فلا تكون الحكومة إسلامية التزم بتطبيق الشرع على غيره أو لم يلتزم. هذه مسألة بديهية ما كنا لنتشاغل بها لولا أن بعض الإسلاميين المعاصرين قالوا – تأثرا بالدولة الوطنية المعاصرة – إن المناصب في الدولة المسلمة مفتوحة كلها من أعلاها إلى أسفلها لكل المواطنين بغض النظر عن دينهم. ونقول إن هذه مغالطة لأن إسلامية الحاكم هي نفسها جزء من الحكم الإسلامي، فكيف يكون الحكم إسلامياً ويكون الحاكم كافراً؟ إن مثل قائل هذا كمن يقول إن الحكم يمكن أن يكون إسلاميا ويصدر فيه تشريع بإباحة الخمر أو الربا مثلا. لكننا نريد الأمر تفصيلاً فنقول إن الحاكم الشرعي للمسلمين لا يمكن أن يكون غير مسلم:

  • لأن الأصل في حاكم المسلمين أن يكون خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتصور أن يكون الكافر خليفة خليفة لنبي.
  • ولأن الحاكم هو إمام للمسلمين، ويسمى منصبه الإمامة الكبرى، أي إنها أكبر من إمامة الصلاة. وهم مأمورون أن يسمعوا له وأن يطيعوا تقرباً لله تعالى. فكيف يسوغ أن يكون مثل هذا الإمام كافرا؟
  • ولأن الحاكم يبايع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فكيف يبايع على هذا من كان لا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟
  • ولأن الغاية الأولى والكبرى للحكم الإسلامي هي المحافظة على الدين، وإنما يأتي الاهتمام بأمر الدنيا تبعا لهذه الغاية وخادما لها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (( فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق – الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا – وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم)) (الفتاوى:28- 262) فكيف توكل هذه المهمة إلى من لا يؤمن بالدين؟
  • ولأنه من تكريم الله للمسلمين أن لا يكونوا تحت سلطان الكافرين “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا”.
  • وإذا كان الإسلام قد حرم المسلمة أن تتزوج بكافر لئلا تكون تحت إمرته، فكيف يجيز للمسلمين جميعا أن يكونوا تحت إمرة كافر؟
  • وإذا كان الإسلام لم يبح للمرأة المسلمة أن يكون وليها كافرا وإن كان أبا لها، فكيف يبيح لعامة المسلمين أن يكون إمامهم كافرا؟

سمعت عددا من الموافقين على هذا الرأي يحتجون له بحجة في غاية السخف لست أدري من الذي لقنهم إياها. يقولون إننا نقول هذا لأنه من الناحية الواقعية لن يحدث أبداً أن يختار المسلمون في بلد هم فيه أغلبية رجلا كافرا رئيساً لدولتهم.

ما هذه الحجة؟ أهي قاعدة أصولية أننا إذا عرفنا أن إنسانا ما أو جماعة ما لن تقدم على فعل أمر محرم قلنا لهم إن ارتكاب ذلك المحرم جائز في حقكم؟ أما علم القائلون بهذا أن تحليل الحرام تشريعاً أشنع من ارتكابه فعلاً؟ إن الثاني معصية لكن الأول كفر.

ثم إنه إذا قيل إن المسلمين لن يقدموا على أمر كهذا في بلد هم فيه أغلبية، فإنما يفعلون – حين يفعلوه – لأنهم يعتقدون أن دينهم لا يجيز لهم اختيار كافر رئيساً عليهم.

فإذا جاء زعيم مسلم أو جاءت جماعة مسلمة يثق بها كثير من الناس وقالت بلى إن ذلك جائز، فإن هذه الفتوى نفسها ستكون سبباً في وقوع ما قال هؤلاء الإخوة إنه لن يقع.

ثم من قال إن هذا الأمر لا يقع أبداً؟ ها هي ذي السنغال – وغالبيتها من المسلمين – كان يحكمها – باختيار المسلمين – رجل غير مسلم.

2- الحكم العلماني الخالص

الحكم بغير ما أنزل الله حكم كفري، سواء كان الحاكمون كفاراً مصرحين بكفرهم، أو كانوا ممن ينتسبون إلى الإسلام، بل ومن الذين يؤدون بعض شعائره كالصلاة والصيام.

لقد كان هذا الأمر إلى زمن قريب يعد عند المسلمين من أصول الدين وبديهياته، لكن المسلمين في العصور الحديثة تعرضوا لغزو غربي فرض على أكثر بلادهم حكما غير إسلامي. ثم اعتاد كثير من أبنائهم هذا الواقع الذي نشئوا فيه، فاعتقدوا أنه هو الأمر الطبيعي، وزاد من اعتقادهم هذا كونه هو الحال الذي عليه البلاد الغربية، بل وكل أقطار الدنيا التي أثرت فيها الحضارة الغربية. وزاد منه أيضاً شيوع الثقافة الغربية التي تسوغ هذا الواقع، وتصور للناس أنه بما أن أوروبا لم تتقدم هذا التقدم المادي الهائل إلا بعد فصلها بين الدين والدولة، فكذالك كل بلد غيرها لا يمكن أن يكتب له سير في طريق هذا التقدم إلا إذا نحا نحو أوروبا في فصلها ما بين الدين والدولة.

لكن العالم الإسلامي لم يخل بحمد الله تعالى من علماء وجماعات تذكر الناس بهذا الأصل وتحاول أن تردهم إليه، ولعل من أقدم الجماعات التي بلت بلاء حسنا في هذا الأمر جماعة الإخوان المسلمين بمصر والجماعة الإسلامية بباكستان.

لكن دخول كثير من الجماعات الإسلامية ميدان السياسة وصراعها مع السلطات الحاكمة، وما أعقب هذا من اتهام الحكومات لهذه الجماعات بالإرهاب والتطرف، ثم تسميتهم بالأصوليين تمييزاً لهم عن بقية المسلمين، كل هذا شوش الأمر على كثير من الناس فبدؤوا يعتقدون أن المناداة بحكم الإسلام وتكفير من لم يحكم بما أنزل الله، ومحاربته ومعاداته هو من قبيل التطرف الذي اختصت به هذه الجماعات.

لذلك كان من المهم بذل جهد أكبر في تذكير المنتسبين إلى الإسلام بهذا الأصل العظيم، وأنه ليس أمراً تختص به بعض الجماعات، بل هو ما صرح به القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وهو قول علماء من المسلمين لا علاقة لهم بأي جماعة من تلك الجماعات، وبل ولا نشاط سياسي لهم.

وقد وجدت أن من أوضح الناس بيانا لهذا الأمر، وأقواهم حجة فيه، وأشدهم صراحة في تكفير الحاكمين بغير ما أنزل الله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي أفاض الله عليه من رحمته وأجزل له الثواب. يقول الشيخ:” اعلموا أيها الإخوان أن الإشراك بالله في حكمه، والإشراك به في عبادته، كلها بمعنى واحد لا فرق بينها ألبته. فالذي يتبع نظاما غير نظام الله وتشريعا غير تشريع الله( أو غير ما شرعه الله ) وقانونا مخالفا لشرع الله من وضع البشر… هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما ألبته بوجه من الوجوه، فهما واحد، كلاهما مشرك بالله. هذا أشرك به في عبادته، وهذا أشرك به في حكمه. والإشراك به في عبادته والإشراك به في حكمه كلها سواء.” (الحاكمية في تفسير أضواء البيان جمع عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، ص52)

وأوضح الشيخ رحمه الله أن إتباع تشريع غير شرع الله هو عبادة للشيطان فقال معلقاً على قوله تعالى “ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق، وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون” (الأنعام:121): وحذف الفاء من قوله “إنكم لمشركون” يدل على قسم محذوف… فهو قسم من الله جل وعلا أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله ” ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين” لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته. وقال تعالى ” إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطانا مريدا”. أي وما يعبدون إلا شيطانا، وذلك بإتباعهم تشريعه. وقال ” وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم….” الآية. فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى. وقال عن خليلة” يا أبت لا تعبد الشيطان…..” الآية. أي بطاعته في الكفر والمعاصي.( أضواء البيان ج3، ص 440).

3- الحكم المختلط

وأعني به الحكم الذي يكون فيه تشريعات إسلامية وإن كثرت، وتشريعات غير إسلامية وإن قلت. إن مثل الذي يقبل شيئاً من شرع الله ويرفض شيئاً هو – من حيث الإيمان – كمثل الذي يرفض شرع الله كله، لأن الله تعالى لا يقبل أن يشرك به في حكمه كما لا يقبل أن يشرك به في عبادته، بل إن الإشراك به في حكمه هو من الإشراك به في عبادته كما رأينا في كلام الشيخ الشنقيطي.

قال تعالى:”وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارا تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون* أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون” (البقرة:84 – 86)

نزلت هذه الآيات الكريمات في يهود بالمدينة كان كل فريق منهم يقاتل مع حليفه من العرب المشركين فيقتل من كان معهم من اليهود، ثم إذا انتهت الحرب فادوهم. فهم يقتلونهم مخالفين بذلك حكم التوراة، ويفادوهم ممتثلين له، فبين سبحانه وتعالى في هذه الآيات أن هذا منهم كفر عاقبته خزي في الحياة الدنيا وعذاب شديد في الآخرة. فهل يتعظ بهذا الذين ينتسبون إلى الإسلام فيلتزمون حكم الله في الأحوال الشخصية، ويخالفونه في المسائل السلطانية؟

الحكومة الإسلامية

تكون الحكومة إسلامية إذا كان الحاكم مسلماً يحكم بشرع الله بقدر استطاعته.

يمكن تقسيم الحكومات الإسلامية – بحسب نوع الحاكم – إلى نوعين:

حكومة عادلة، وحكومة مقصرة.

1- الحكومة الإسلامية الخالصة

أما الحكومة العادلة فهي التي يكون على رأسها حاكم مسلم عدل – ملتزم بشرع الله في نفسه مطبق له على غيره. أعلى هذا النوع هو الخلافة الراشدة التي انتهت بمجيء معاوية رضي الله عنه، يليها حكم معاوية وما أشبهه كحكم عمر بن عبد العزيز.

2- الحكومة التي فيها دخن

والدخن الذي وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الحكومات التي تكون بعد الخلافة الراشدة أصله من الدخان، فالشيء الذي فيه دخن هو الشيء المشوب غير الخالص ولا الصافي.

والحكم الذي فيه دخن أنواع، منها:

1- أن يكون الحاكم فاسقا يرتكب بعض المحرمات كشرب الخمر، لكن ينبغي أن لا نخلط بين هذا وبين الحاكم المنتسب إلى الإسلام والذي لا يلتزم به في حكمه. إن هذا الأخير حكم غير إسلامي كما رأينا والحاكم به – إن لم يكن له عذر – فهو كافر، وإن كان ملتزماً بأحكام الإسلام الشخصية من صلاة وصوم وبعد عن شرب الخمر وعن الفواحش. لقد رأيت كثيراً من الناس – حتى بعض المنتسبين إلى العلم – يخلطون بين هذين النوعين، فيحكمون فيهما حكما واحدا. لكن الحقيقة أن البون شاسع بين النوعين، ولعل خير ما يوضح نوع الحاكم الذي يوصف بالفسق والفجور قول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه:

“لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة”. فقيل يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: “يقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء”( السياسة الشرعية )

2- أو أن يكون في حكمه ظلم لبعض الناس، أو أثرة عليهم، من غير أن يعطل الشرع أو أن يبدله، لأن هنالك فرقاً كبيراً بين أن يحكم الإنسان في بعض القضايا حكماً مخالفاً لشرع الله، ظلماً منه لبعض الناس أو محاباة لخصومهم، وبين أن يجعل هذا الظلم شريعة يحكم بها دائماً. فالأول ظلم، وظلم عظيم، سماه الله تعالى كفراً، لكنه دون كفر. أما الذي يجعل ديدنه أن يحكم ولو في قضية واحدة حكماً مخالفاً لحكم الله تعالى فقد بدل الشرع، فهو كافرا كفراً مخرجاً عن الملة.

3- أو أن يكون الحاكم ذا نية صالحة لكنه ومن حوله فيهم جهل، يجعلهم يعطلون بعض أحكام الشرع، أو يدعون إلى ما هو مخالف للشرع.

موقف المسلم من هذه الحكومات

موقف المسلم – من حيث المبدأ هو مناهضة كل حكم غير إسلامي ومناصرة كل حكم إسلامي كما قدمنا. لكن كيف تكون المناهضة وكيف تكون المناصرة؟ كما فصلنا بعض الشيء في وصف الحكومات، نفصل الآن بعض التفصيل في المواقف منها، فنقول مستمدين العون من الله تعالى:

الموقف من الحكومة غير الإسلامية

أولاً: إن حكم المسلمين بشرع غير شرع الله تعالى من أعظم أسباب الإفساد لدينهم ودنياهم، فهو لذلك منكر عظيم تجب إزالته بكل الوسائل التي شرعها الله تعالى لمجاهدة الكفار المعتدين، لا فرق في ذلك بين وضع الحاكم فيه كافر أصلي مستعلن بكفره، ووضع الحاكم فيه منتسب إلى الإسلام. لقد فرض الله تعالى القتال ” حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله” (الأنفال:39).

“والدين هو الطاعة. فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. ولهذا قال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين” فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله” وهذه الآية نزلت في أهل الطائف لما دخلوا في الإسلام والتزموا الصلاة والصيام، لكن امتنعوا من ترك الربا، والربا هو آخر ما حرمه الله.

وهو مال يؤخذ برضا صاحبه، فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله يجب جهادهم، فكيف بمن يترك كثيرا من شرائع الإسلام، أو أكثرها؟” ( الفتاوى، 28 : 544 ) وفرضه ” لتكون كلمة الله هي العليا” (التوبة: 40) وكلمة الله – كما قال العلماء – هي مجموع كلماته التي في القرآن والسنة، التي يأمر فيها وينهى، فإذا كان بعض هذه الأوامر والنواهي ليس عاليا، أي ليس مطبقاً ولا ملتزماً به، فالجهاد واجب حتى تكون أحكام الله تعالى كلها هي العليا.

بل قد قرر العلماء أن الحاكم المنتسب إلى الإسلام المرتد عن بعض شرائعه أعظم إفسادا من الكافر الذي لم يؤمن بهذه الشرائع أصلاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

“وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي، من وجوه متعددة… وإذا كانت الردة عن أصل الدين أعظم من الكفر بأصل الدين، فالردة عن شرائعه أعظم من خروج الخارج الأصلي عن شرائعه، فإن المسلم الأصلي إذا ارتد عن بعض شرائعه كان أسوأ حال ممن قاتلهم الصديق. وإن كان المرتد عن بعض الشرائع متفقها أو متصوفاً أو تاجرا أو كاتبا، أو غير ذلك… ولهذا يجد المسلمون من ضرر هؤلاء على الدين ما لا يجدونه من ضرر أولئك، وينقادون للإسلام وشرائعه وطاعة الله ورسوله أعظم من انقياد هؤلاء الذين ارتدوا عن بعض الدين ونافقوا في بعضه، وإن تظاهروا بالانتساب إلى العلم والدين”. ( الفتاوى، 28: 535 ).

ذلك هو الموقف إلي يجب على المسلم أن يقفه حيال كل حكومة تحكم المسلمين بغير شرع الله.

ثانياً: لكن ينبغي أن نفرق بين كون حاكم ما أو قوم ما قد توفرت فيهم الصفات التي توجب قتالهم، وبين كون المسلمين في وضع يمكنهم من ذلك القتال.

تأملوا قول الله تعالى: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله” (الحج:40)

هذه الحيثيات التي علل الله تعالى بها الإذن للمسلمين بقتال هؤلاء الكفار كانت قائمة قبل هذا الإذن بوقت طويل. لكن الله تعالى لم يأذن للمسلمين قبل ذلك في القتال، بل أمرهم بأن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة. فالذي تغير إنه ليس هو حال الكفار وإنما هو حال المسلمين. وقد علل بعض العلماء الاختلاف بين الأمر بكف الأيدي والإذن بالقتال بأن المسلمين لم يكونوا قبل ذلك من القوة بحيث يستطيعون هذا القتال. فقال ابن كثير عنهم: “وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذلك مناسبا لأسباب كثيرة منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم”. (التفسير، النساء، الآية 77) .

ثالثاً: إن هذه الشريعة المباركة ليست مجموعة من الأوامر والنواهي المطلقة المبعثرة، بل إن أوامرها ونواهيها مندرجة كلها تحت قواعد عامة بعضها أعم من بعض. وما لم تراع هذه القواعد العامة – وهي نفسها جزء من الشريعة – فإن التطبيق الجزئي للنصوص قد يقود إلى نتائج مخالفة للمقصود من تلك الأوامر.

إن الهدف الأسمى للشريعة – كما بينه كثير من العلماء مستندين إلى عدد من نصوصها – هو دعم الخير وزيادته، ومحاربة الشر وتقليله. لكن المسلم قد يجد نفسه في وضع شاذ يؤدي فيه لإزالة شر ما إلى إحداث شر أكبر منه، أو العمل لتحقيق خير ما إلى إزالة خير أكبر منه؟ فماذا يفعل؟ إذا جهل هدف الشريعة الأكبر، أو تغافل عنه، فإنه سينفذ الأمر الخاص بإزالة ذلك الشر، أو تحقيق ذلك الخير، وتكون نتيجة عمله زيادة للشر أو تقليلاً للخير.

هذه القاعدة الشرعية هي قاعدة عقلية لأن هذه الشريعة المباركة لا تأتي بما يخالف الأحكام العقلية التي فطر الله عليها القلوب البشرية. إن كل إنسان عنده مسكة من عقل، إذا أراد أن يذهب إلى السوق مثلاً لشراء خبز لأولاده الجوعى، سيعدل عن الذهاب إذا علم أن منطقة السوق تتعرض لقذف بالصواريخ، فتصرفه هذا مبني على قاعدة عقلية فطرية هي ارتكاب أخف الضررين، جوع أولاده، تفاديا لأكبرهما هلاك نفسه.

إن كثيرا من المتدينين الذي يسلكون مثل هذا السلوك الفطري في حياتهم اليومية يخالفونه في تصرفاتهم الدينية، ظانين أن الدين لا اعتبار فيه لتقدير نتائج الأعمال، وأن من علامات الالتزام الخالص القوي بالشرع تطبيق أوامره ونواهيه كائنا ما كانت النتائج.

من الأسباب التي أدت إلى هذا السلوك غير العقلاني عدم تفريق كثير من الدعاة بين منطق العقيدة ومنطق العمل في الدين. خذ مثلا العبارة المشهورة للأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله “خذوا الإسلام جملة أو دعوة”. هذا القول صحيح بمنطق العقيدة، فإن الذي ينكر شيئا من الدين مهما صغر – وهو على علم بأنه من الدين – يكون كمن أنكر الدين كله، لكنها بمنطق العمل – كما يريد لها بعض الشباب أن تكون – في غاية الخطأ، لأنك إذا أخذتها بحرفيتها فمعناها أن كل من لم يطبق الإسلام كله فيلتزم فرائضه ومندوباته، وينتهي عن محرماته ومكرهاته، لا يكون مسلما. إنه بهذا المقياس لا يبقى أحد مسلما إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن المعروف أن الإنسان إذا وحد الله تعالى توحيداً خالصاً فإن المعاصي وإن كبرت لا تخرجه من الملة، ما دامت ليست من النوع الذي ينقض الإيمان.

إن عدم مراعاة هذه القواعد الشرعية العقلية في مجال العمل ولاسيما العمل العام، ولاسيما السياسي منه، يقود إلى مخاطر، ويفوت على الإسلاميين كثيراً من المنافع ويدخلهم في كثير من المآزق، إنهم يكونون بهذا أسوأ تصرفا وأقل نجاحاً من كثير من الكفار، لأن كثيراً من هؤلاء يراعون هذه القواعد من حيث كونها قواعد عقلية فيستفيدون منها في تحقيق مآربهم الدنيوية.

رابعاً: أقول بعد هذا إن علينا قبل أن نشن حربا على حكومة من الحكومات التي نراها كافرة، أن نخطو خطوات منها:

أ‌. بذل جهد كبير ومخلص في تبصير الناس بأن الحكم بما أنزل الله تعالى جزء لا يتجزأ من دينهم، وأن إنكار شيء من شرع الله كفر به، وأن عدم تطبيق شيء منه مع القدرة عليه، أمر يوجب الخروج على الحاكم. إن كثيراً ممن تأثروا بالعلمانية من أبناء الطبقة التي تعد مثقفة في بلادنا اليوم، وهي الطبقة التي يأتي منها حكامنا، يعلمون أن في الدين الإسلامي أمور تتعلق بالدولة، لكنهم يحسبون أن هنالك مسوغات لعدم الالتزام بها، أو يظنون أنه ليس في مخالفتها ما يخرج الإنسان عن ملة الإسلام. ومما فتنهم عن معرفة الأمر على حقيقته أن معظم المنادين به هم من الجماعات التي يعدونها طامعة في الحكم.

لذلك لا يأخذون كلامها مأخذ الجد، بل يعدونه من قبيل استغلال الدين لمآرب سياسية، لذلك يجب على أمثال هذه الجماعات أن تبذل جهدا كبيراً في إقناع هذه الطبقة بأن غرضها الأساسي إنما هو تطبيق شرع الله، وأنه يسرها أن يفعل هذا الحكام الحاليون، وأنها ستكون نصيرا لهم إذا هم فعلوا ذلك. لكن المشكلة أن بعض الأفراد وبعض الجماعات تفعل عكس هذا تماماً فتتصرف على أساس أن الإسلام لن تقوم له قائمة إذا لم تأت هي إلى الحكم، لذلك تجدها حريصة على أن لا يطبق الحكام الحاليون شيئاً من الشريعة، ظناً منها بأنهم إن فعلوا ذلك فوتوا عليهم الفرصة، وكان عملهم داعياً لاسترخاء الناس عن مقاومتهم ومحاولة إزالتهم.

كم تمنيت لحل هذه المشكلة أن يكثر عدد العلماء الذين لا علاقة لهم بالجماعات الإسلامية السياسية والذين يبذلون مع ذلك جهدا كبيرا في بيان هذه المسألة الإعتقادية للناس. لكن مما يؤسف له أن الجماعات الإسلامية غير السياسية المهتمة بمسائل العقيدة لم تول هذا الأمر العناية التي يستحقها مع أنها جزاها الله خيراً بذلت جهوداً كبيرة في بيان التصور الصحيح لكل مسائل العقيدة الأخرى. ربما كان السبب في هذا أن الكلام في هذه القضايا أصبح هو نفسه تهمة تصنف القائل بالانتماء إلى الجماعات الإسلامية السياسية. لكنني لا أظن الأمر متعذراً وإن كان عسيراً.

إن العالم إذا صابر على موقفه المستقل عن الجماعات، وعدم رغبته في المناصب السياسية، واجتهد في النصح للناس فيوشك أن يثقوا به، لأن مما يصد بعض الناس عن قبول الحق شعورهم بأن قائله يبتغي من ورائه أجراً. لذلك كان رسل الله تعالى زاهدين فيما عند الناس مظهرين لهم هذا الزهد. ففي سورة الشعراء وحدها تكرر قوله تعالى” وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين” خمس مرات على لسان نوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ب‌. إن قاعدة ارتكاب أخف الضررين تقتضي أن لا نعمل على زعزعة حكومة ما وإن كنا نراها كافرة إذا كان البديل لها في تقديرنا سيكون حكماً مماثلاً لها أو أسوأ منها، إن النظر العقلي الشرعي يقتضي أن نصبر حتى نتمكن من تغييرها بما هو إسلامي أو ما هو أحسن منها وأنفع للمسلمين وإن لم يكن إسلامياً خالصا.

ج. إن الحكومة سواء كانت علمانية خالصة، أو إسلامية فيها دخن قد يكون لها مشاريع إسلامية، أو فيها مصلحة للمسلمين، فواجبنا ونحن نسعى للسير نحو الإسلام الخالص أن نتعاون مع هذه الحكومات في مجالات الخير هذه، على أساس أن الخير لا يأتي إلا بالخير، وأن كل خير يحقق فهو لبنة توضع في البناء الإسلامي الذي نسعى لإقامة صرحه.

لكن هنالك رأياً مخالفاً لهذا الذي قررته، فحواه أن الحكم كالكائن العضوي، لا يمكن أن تقول إن جزءاً منه حسن وآخر سيء، وأن أي تعاون معه في جزئية من الجزئيات هو دعم له وإطلالة لعمره.

هذا الرأي الذي تأثر به بعض الإسلاميين هو في أصله رأي شيوعي. لكن الذي لاحظته في سلوك الشيوعيين عندنا في السودان أنهم كانوا يستثنون تلك المشاريع الحكومية التي يرونها تساعد على نمو حزبهم ونشر بعض أفكارهم.

على أية حال هذا الرأي أياً كان مصدره لا يتناسب مع المنهج الإسلامي في الإصلاح. لقد عبر الإمام ابن القيم عن المنهج الإسلامي في هذا الصدد أحسن تعبير وهو يعلق على صلح الحديبية في كتابه زاد المعاد قال رحمه الله وهو يعدد الفوائد الفقهية المستفادة من ذلك الصلح:

ومنها أن المشركين وأهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرم الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس محبوباً لله تعالى مُرض له، أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفوس.

د. لنتذكر أن هدف الحكومة المسلمة الأول إنما هو إصلاح دين الناس، وأن عملها لإصلاح دنياهم تابع لهذا الهدف وخادم له:

“الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور” (الحج:41).

فعلينا إذن ونحن نسعى لإزالة حكم نراه كافراً، أن نسعى أيضاً لإصلاح ما نستطيع إصلاحه من دين الناس، ولا نعلق هذا أو نتواني فيه انتظارا لوصول السلطة الإسلامية. ذلك لأن السلطة لا تستطيع أن تحقق ذلك الهدف الأول إلا إذا توفر في المجتمع عدد من الرجال الذين صلح دينهم، وكلما كان عددهم أكبر ووزنهم في المجتمع وفي الدولة أثقل، كانت الدولة أقرب إلى تحقيق ذلك الهدف.

علينا إذن ونحن نعد أنفسنا لخوض معركة مع الحكومات الكافرة، أن نعمل على إصلاح دين الناس بهدايتهم إلى التوحيد الخالص من الشرك، والعبادة النقية من البدع، والخلق الخالي من الجاهلية. وعلينا أيضاً أن ننشر بين الناس التصور الصحيح للحكم الإسلامي، ولحقوق الحاكم ولمحكوم وواجباتهم، حتى يقل تأثرهم بالتصورات الغربية التي تخالطها كثير من القيم الجاهلية.

هـ. ومما يتصل بهذا أن لا نجعل النجاح في استلام السلطة هو المعيار الوحيد أو الأهم الذي يقاس به مدى نجاح حركة أو جماعة أو فشلها، وذلك أن عدم التمكن من تغيير الأوضاع الكافرة في بلد من البلدان قد يكون أيسر منه في بلد آخر، فالأمر لا يرجع دائماً إلى تقصير من جانب الجماعة التي لم تستطع هذا. أقول لا يرجع دائماً ولا أقول لا يرجع أبداً، لأن بعض الجماعات قد تقصر فعلاً بسبب عدم أخذها بالأسباب المناسبة للعصر الذي تعيش فيه، وعدم مراعاتها لظروف البلد الذي تعمل فيه.

جاء في الحديث الصحيح أن النبي يأتي يوم القيامة ومعه العصابة والنبي ومعه الثلاثة، والنبي ليس معه أحد.

فهل يقول مسلم إن هذا الاختلاف كان بسبب تقصير من الأنبياء الذين لم يؤمن لهم أحد، أو ما آمن معهم إلا قليل. كلا إنما السبب راجع إلى الجماعة المخاطبة لا إلى الرسول المبلغ.

ولا يظنن أحد أن جهود هؤلاء الأنبياء عليهم رضوان الله تعالى، أو جهود الدعاة الذي يكون حالهم قريباً من حالهم، تذهب هباء. كلا إن كل عمل صالح يعمله النبي أو الداعية في هذا السبيل، فهو إما زيادة في الخير، وإما نقصان للشر، وكلاهما إنجاز كبير. وذلك أن الله تعالى ينصر رسله، وجنده العاملون لإعلاء كلمته إما بتمكينهم في الأرض أو بالانتقام ممن صد عن دعوتهم، وحاربهم.

الموقف من الحكومة الإسلامية

الموقف كما قلنا هو هنا موقف مناصرة وتأبيد أياً كان نوع الحكم الإسلامي، لكنها مناصرة رشيدة لا تبعية عمياء. لأن المسلم البصير يساعد بقدر استطاعته فيما هو طاعة لله، وينهى عما هو معصية له. والمناصرة بهذا الشرط تشمل:

  • السمع والطاعة لهم.
  • الجهاد معهم، عدولا كانوا أم فجارا، فالجهاد ماض منذ أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر.
  • والتعاون معهم في كل ما يستطيع المرء أن يعين فيه من أعمال البر. والصبر على أذاهم.
  • والنصح لهم بالدعاء لهم فإن في صلاحهم صلاح الناس وبالإشارة الخالصة فيما للإنسان له به علم استشير أم لم يستشر، وبأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالتي هي أحسن.

وينبغي أن نتذكر أن هنالك فرقاً كبيراً بين النصح بمفهومه الإسلامي هذا وبين المعارضة بمفهومها الغربي الحديث. إن الناصح قصده إصلاح الحاكم وإعانته، أما المعارض فقصده إزالته. لذلك تجدون أحزاب المعارضة لا تكاد تعترف للحكومة بفضل حتى في تلك القضايا التي توافقها فيها، فسعيها دائماً إنما هو في تتبع عورات الحكومة، وفضحها، والتقليل من ثقة الناس بها، حتى يكونوا هم البديل لها في الانتخابات القادمة إذا كان الحكم ديمقراطياً، أو في الانقلاب القادم إذا كان الحكم غير ديمقراطي.

فعلينا أن نحذر من مثل هذه المعاملة مع الحكومات التي نحسبها إسلامية. إن مما يحول النصح إلى معارضة توغر صدر الحاكم وتجعله يتهم الناصح مهما كان علمه وكانت تقواه، أن يراه يركز دائماً على أخطائه، ويعمل جاهداً لنشرها وإذاعتها على الناس، وأن لا يراه يحمده على شيء من حسناته مهما عظمت، ولا يعينه عليها.

بل إنني لأرى أن المعارضة بمعناها المعاصر ينبغي أن لا تكون سلوكا للمسلم حتى مع الحكومات التي يراها علمانية غير إسلامية، لأن المسلم إنسان منصف، يعترف بالحق وإن أتى به كافر، وينكر الباطل وإن ارتكبه مؤمن صالح.

  • وعدم الخروج عليهم، وعدم الخروج ليس المقصود به عدم مخالفتهم فيما يقولون أو يفعلون، وإنما المقصود به عدم اللجوء إلى محاولة إزالتهم بالقوة. هذا هو رأي أهل السنة، وهو رأي سديد تؤيده النصوص التي تبين طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تلتزم بتلك القاعدة التي قلنا إنها قاعدة عقلية شرعية، أعني قاعدة ارتكاب أخف الضررين وتحقيق أعلى المصلحتين؛ وذلك لأن ما يترتب على الخروج المسلح على الحاكم من الفساد هو أكبر من فساده الشخصي الذي نريد إزالته بذلك الخروج الذي نريد إزالته.

لكن هذا يعني أنه إن أمكن تغييره بطريقة سلمية لا يترتب عليها فساد أكبر، فينبغي المصير إليها. لكن ينبغي أن ننبه مرة ثانية إلى أن الذي لا يجوز الخروج عليه هو الحاكم الفاجر الملتزم في حكمه بشرع الله، لا الحاكم المنتسب إلى الإسلام الذي لا يطبق شرع الله تعالى. إن هذا النوع الأخير إن التمسنا لبعضهم المعاذير فلم نحكم عليهم بالكفر المخرج من الملة، يظل الواحد منهم مع ذلك غير مسلم في حكمه، وإن كان مسلما في شخصه. فالخروج عليه ليس جائزاً فحسب بل هو واجب، لأن الذي لا يجوز الخروج عليه ولا تنقض بيعته هو مسلم رضي بأن يبايع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما هذا فليس بيننا وبينه بيعة وليس حاكماً شرعياً لنا، وإنما هو ومن يسنده بمثابة الكفار المتسلطين على ديار الإسلام، ولولا أننا قد تأثرنا بالنظرة الوطنية التي تعطي المواطن الحق في أن يكون حاكماً لبلده وإن خالف أهله في الدين، ولا تعطي هذا الحق لغير المواطن وإن وافقهم فيه، لولا ذلك لعددنا هؤلاء الحكام العلمانيين من جملة الكفار المستعمرين المتسلطين، بل من جملة الخونة الذين هم عملاء وعيون للكفار، و لكانت معاملتنا لهم على هذا الاعتبار. وما أخال إلا أن ازدياد شدتهم على الإسلاميين وسفورهم في محاربة الدين، مع شيوع مثل هذا الفقه الذي بيناه في هذا المقال إلا مفض بالمسلمين إلى دمغهم بالكفر المخرج عن الملة ومعاملتهم على هذا الاعتبار.

المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى