كتاباتكتابات مختارة

من مصر إلى تونس.. الإشكالات الأربع للإسلاميين في السلطة

من مصر إلى تونس.. الإشكالات الأربع للإسلاميين في السلطة

 

بقلم هشام جعفر

 

إشكالات أربع طرحتها خبرة الربيع العربي علي الإسلاميين، وجاء الدرس التونسي ليعيد تأكيدها من جديد، وهنا أقصر حديثي على المجال السياسي، ولا أتطرق فيه إلى المجالات الدعوية أو الخيرية.

أولا: الإسلاميون وسؤال الديمقراطية

منذ الدخول المتصاعد للإسلاميين للمجال السياسي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، تطرح عليهم الأسئلة المتعلقة بقضايا الديمقراطية والحريات العامة والفردية، والموقف من المرأة والأقليات، خاصة الدينية في إطار المواطنة. وقد قدموا إجابات متعددة في هذا في هذا الصدد، وكانت وجهتها الأساسية محاولة التوفيق بين الإسلامية -بمعنييها الفكري والشرعي- والديمقراطية. وقد مثلت تجربة حركة النهضة التونسية “الإجابة النموذجية” في هذا الصدد، إلا أن تجربتي مصر (2013) وتونس (2021) قد تعيدان طرح التساؤل عن جدوي الدخول والالتزام بهذا المسار أو جدوي المسألة الديمقراطية برمتها.

ويلاحظ في هذا الصدد أن الخبرة المصرية قد اتخذت فيها الاستجابة الإخوانية 3 مداخل: أولها، العنف على أرضية سياسية -وليست دينية- وكان استثناء امتد لسنوات محدودة، والثاني محاولة استعادة ثورة يناير/كانون الثاني مرة أخري، أما المدخل الثالث وهو الأهم -لأنه على ما يبدو قد مثل الاستجابة السائدة- فهو ينطلق من السلمية، ويحاول استعادة المسار الديمقراطي مرة أخري. وقد قمت بمراجعة لبعض خطابات الشباب الإسلامي من المصريين في الخارج حول رؤيتهم للأزمة التونسية، فوجدت أن التيار الرئيسي فيها ينظر إليها من منظور سياسي وليس أيديولوجي/ هوياتي أي ليس إسلامي/ علماني. ولا يعني ذلك عدم وجود أصوات تنظر إلى الأزمة على أرضية الهوية، ولكنها هامشية. كما أن منظورهم اتسم بنضج وقدرة على التقاط الأخطاء التي وقعت فيها النهضة؛ موقف الشابات والشباب الإسلامي من المصريين مما يحتاج المتابعة، وقد أخصص له مقالا مستقلا لما يمثله من أهمية مستقبلية لعلاقة الإسلاميين بالديمقراطية.

وهنا قد يكون من المفيد مناقشة موقف النهضة من الأزمة، فهو يدعم أيضا تبلور موقف الإسلاميين المصريين وفي مجمل الإقليم، حيث يلاحظ 3 أمور: التأكيد على ضرورة استئناف المسار الديمقراطي والعودة للشرعية الدستورية، والثاني أصوات متصاعدة تطالب بالنقد الذاتي والاعتذار للشعب التونسي وتنحي القيادة المسئولة عن ذلك (مقارنة بالحالة المصرية، لقد غاب هذا الخطاب وإن وجدت بعض مفرداته فقد كانت متأخرة جدا وافتقدت المصداقية)، والثالث والأخير هو عدم الدخول في مواجهة متسعة مع سلطة قيس سعيد على خلاف الحالة المصرية.

من خصائص هذا الخطاب أنه مفارق للطبقات، بمعنى أنه لا يدرك التناقضات الطبقية ولا تحتل وزنا في أولوياته؛ فمن طبيعته أنه يخترق الطبقات جميعا رغبة في التعبير عن المجتمع كله، وكما يرى وائل جمال في ورقته “الرأسمال الضائع” أن “هذه الحركات تزعم أنها تمثل كل المجتمع، وتجنبت كل المقاربات التي قد تبرز الخلافات الطبقية أو الصراعات الاجتماعية

ثانيا: الإسلاميون والمسألة الاجتماعية

يلاحظ كما قدمت أن الدخول المتزايد لهم في المجال السياسي قد طرح أسئلة الحريات بأنواعها المتعددة، ولكن الأسئلة المتعلقة بالمسألة الاجتماعية/ الاقتصادية التي كان من المتوقع أن يلح اليسار عليهم فيها لم تطرح بنفس القوة، ربما لأن اليسار قد أصابه الضعف وشهد تحولات جذرية منذ سقوط الاتحاد السوفياتي أواخر ثمانينيات القرن الماضي، كما أن قطاعا معتبرا منه قد تحالف مع الأنظمة المستبدة في مواجهة وجودية ضد الإسلاميين مرتئيا أن تناقضه الأساسي هو معهم وليس ضد الأنظمة، برغم ما تحمله تلك الأنظمة من مشاريع نيوليبرالية تضاد انحياز اليسار في هذه المسألة.

وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار، أن الإنتاج الفكري الإسلامي في ما يخص المسألة الاجتماعية قد توقف مع “اشتراكية الإسلام” للسباعي منتصف الستينيات، وأن برامج الأحزاب الإسلامية -كما تؤكد عديد الدراسات- قد غلب عليها المنزع النيو ليبرالي، إلا أن تفسير ضعف المكون الاجتماعي في ممارستهم مما يستحق الوقوف أمامه طويلا، وقد قدمت في مقال تفسيرا نموذجيا لهذا الضعف يستند إلى 5 مقومات وهي:

1. الخطاب الدعوي

فمن خصائص هذا الخطاب أنه مفارق للطبقات، بمعنى أنه لا يدرك التناقضات الطبقية ولا تحتل وزنا في أولوياته؛ فمن طبيعته أنه يخترق الطبقات جميعا رغبة في التعبير عن المجتمع كله، وكما يرى وائل جمال في ورقته “الرأسمال الضائع” أن “هذه الحركات تزعم أنها تمثل كل المجتمع، وتجنبت كل المقاربات التي قد تبرز الخلافات الطبقية أو الصراعات الاجتماعية. هذا الحجب النسبي سمح تاريخيا لجماعة الإخوان [وما تفرع عنها من حركات] أن تكون قوة جذب لجماعات ذات مصالح متنافرة، الأمر الذي مكن هذه الحركات من جذب أفراد متنوعين”، إلا أنه في الوقت نفسه جعلها تفشل في التعبير عن قاعدتها الانتخابية التي تركزت أساسا في الطبقتين الوسطي والدنيا مما أفقدها شعبيتها.

2. الخطاب الدعوي المتحرر من الأرضية الاجتماعية والعلاقات المادية القائمة

وآفة السياسة المعارضة في المنطقة أنها ذات طبيعة ثقافية دعوية؛ فهي لا تتحرك على أرضية اجتماعية تسعى إلى تغيير موازين القوي السياسية والاقتصادية وتفكيك بنية الاستبداد والاستغلال والفساد.

خطاب أخلاقوي: فبالخطاب الأخلاقوي تتجاوز أو تهدر الحديث عن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل والثقافية التي تنتج الفقر والتمايز والتناقضات الطبقية في المجتمع. وبالتالي، فلا حديث عن السياسات العامة، خاصة إذا تواكب أو امتزج ذلك بالحديث عن الإحسان والصدقات والزكاة. والعمل الخيري -في أحد جوانبه- تخفيف لحدة التناقضات الاجتماعية من دون تغيير في عناصر القوة الاقتصادية والثروة في المجتمع، وقد تحول في كثير من الأنظمة العربية إلى تفاهم “غير مكتوب” مع الإسلاميين بالسماح لهم به لتخفيف حدة تأثير السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها هذه الأنظمة منذ التسعينيات، وفي المقابل، يحصل الإسلاميون على قدر كبير من التأييد والنفوذ السياسي خاصة في الانتخابات.

العمل الخيري من دون تغيير في علاقات القوى والثروة يتحول إلى غسيل للذنوب، وفي أحيان غسيل للسمعة والأموال، ويؤدي إلى التعامل مع العدالة الاجتماعية ليس بإعادة توزيع الثروة ولكن عبر آلياته التي تؤدي إلى استمرار ما هو قائم.

3. التنظيم المقدس المفارق لعضويته

تحول الحفاظ على التنظيم إلى هدف في حد ذاته، باعتباره الأداة المقدسة التي مهمتها إنجاز وتحقيق وتطبيق الإسلام، وبرغم أن دراسات عديدة توضح لماذا انتشر الإسلاميون في شرائح اجتماعية محددة من الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا، فإن الثقافة التنظيمية السائدة -التي ترسم طبيعة العلاقة بين الفرد والجماعة- تجعل التنظيم أداة مفارقة لأعضائه بتعدديتهم وتناقضاتهم الاجتماعية والاقتصادية؛ إذ إن الفرد ليس له وجود مستقل داخل التنظيم بل يتم التحكم في كل مناحي حياته عبر ما يطلق عليه التربية، وهنا تكون إحدى المفارقات الكبرى؛ ففي الوقت الذي اتبع فيه الإسلاميون في الحكم سياسات نيوليبرالية تتمحور -في أحد أسسها الفلسفية- حول الإيمان بقدرات الفرد وإمكانياته على التحقق؛ يتم سحق الوجود الفردي داخل التنظيم بآليات متعددة.

ويعمق من تجاوز التناقضات الاجتماعية أن النظر التنظيمي يتطلب مزيدا من التجنيد المستمر للأعضاء بما يعنيه من توسع في الشرائح والفئات الاجتماعية المنضمة، إلا إنه من المفارقات أيضا أن هذا التنظيم المقدس المفارق للعضوية بل وللشعب ذاته [انظر شرحا لهذه النقطة في محمود هدهود: الأيديولوجية الإخوانية في اختيار الثورة، في كتاب النقد الذاتي لثورة يناير، الصادر عن دار المرايا، بالقاهرة العام الماضي] يتم اختزال توجهاته الأيديولوجية في عدد محدود من حراس الهيكل الذين يطلق عليهم القيادة -أو الآباء المؤسسين- التي تتحول إلى كيان مطلق غير معرف يمتلك المعرفة الكاملة بمصلحة التنظيم وأعضائه أيضا، وعندهم استعداد كبير لمصادرة الديمقراطية الداخلية تحت حجج ودعاوى تستند إلى احتكار معرفتهم بمصلحة التنظيم (تأمل سلوك الغنوشي في هذا الصدد).

4. أيديولوجية غامضة ممتزجة بالبرغماتية

الأيديولوجية المستندة إلى الأطروحة الإخوانية تتسم بعدد من السمات، فهي وإن انطلقت من مرجعية الإسلام دينا، إلا أن الإطار الديني دائما وأبدًا حمال أوجه متعددة من التفسيرات والتأويلات التي تصل في أحيان كثيرة إلى التناقض والتنافس بين أتباعها، بل أزعم أن أحد الصراعات الأساسية التي جرت ولا تزال تجري في المنطقة الآن تدور حول أنماط التدين المتعددة في المجتمع وفي الإقليم؛ خاصة أن وراءها قوة دفع من مؤسسات ومصالح وارتباطات داخلية وخارجية.

طبيعة الأيديولوجية الصادرة عن الأديان أنها منفتحة على مختلف التفسيرات والتأويلات، وتتفاعل بشكل متعدد مع السياقات التي تتحرك فيها، كما تستخدم المقولات الدينية لتسويغ الاختيارات والانحيازات الاقتصادية الاجتماعية، وفي أحيان كثيرة تتجاور الانحيازات من دون شعور بالتناقضات بينها، حيث تجد إشارات للعدالة الاجتماعية مع إيمان بالسوق الحرة في الوقت نفسه.

أنا أفهم خطاب الهوية في سياق المسألة الاجتماعية باعتباره سبيلًا للتميز الحضاري وقدرته على إنتاج نمط تنموي مستقل (ليس في بعده الاقتصادي فحسب، بل وفي مكونه وفلسفته التي يتأسس عليها أيضا) يرفض الاستهلاكية الشرهة ومبادئ السوق باعتبارها قيما هادية لحياتنا كلها، بل أزعم أنه بدون هذا الانعتاق لن تحل المسألة الاجتماعية ولن نكون قادرين على إحداث التنمية.

وقد حرصت الأطروحة الإخوانية بتشكيلاتها المتعددة طوال تاريخها الممتد على عدم الاختيار لسياسات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية محددة إلا مضطرة، فقد وعت نفسها طرفا مستقلا خارج المجتمع والدولة ويحمل أفكارا مجردة بلا مضامين اجتماعية، إلا أن مرحلة الحكم -مع الربيع العربي- قد فرضت عليها ضرورة اختيار سياسات محددة، ولم تكن مستعدة لهذه المرحلة فظهرت عورتها وبانت سوءتها.

يمتزج بهذه الخاصية أن الممارسة العملية هي التي ترسم ملامح الأيديولوجية عند الإسلاميين عموما. لذا، فمن الأخطاء المنهجية أن يتوفر الباحثون على تحليل النصوص من دون تتبع الممارسة العملية، فالممارسة عند الإسلاميين -في أحيان كثيرة- تسبق الرؤية النظرية، وهذا يجعل من الفكرة الإسلامية -عندهم- وعاء فارغًا غامضًا بلا مضمون محدد، ويؤدي إلى تأثرهم بالسياقات التي يعملون فيها. وقد أدى ذلك إلى قدرتهم على ضبط مواقفهم الأيديولوجية لمواكبة التغيرات التي تحدث. فقد انتقلوا (أو الأدق تعايشوا وتجاوروا) من اشتراكية الإسلام إلى الرأسمالية إلى النيوليبرالية، ومن معاداة التعددية الحزبية إلى الإيمان بالديمقراطية الليبرالية، وفي كل مرة تبرر ذلك بمقولات دينية، لكن ذلك أدى بهم في الوقت نفسه إلى الظهور بمظهر البرغماتية، فلا يمكن تفسير سياساتهم النيوليبرالية بعد 2011 إلا ببحثهم عن القبول الغربي، ومغازلة غير شرعية لطبقة رجال الأعمال الكبار من عهد مبارك وبن على، برغم تقديمهم أنفسهم باعتبارهم رعاة للفقراء في غياب الدولة (كما يرى خليل العناني).

فالنيوليبرالية -على حد قول العناني- هي التي تربط الإسلاميين بالعالم الخارجي والاقتصاد العالمي، وأضيف أنها تربطهم أيضا بنخب محلية يحرصون على التعامل معها لنفوذها الاقتصادي والسياسي. وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ فإن جزءا كبيرا من الانتفاضات العربية كانت احتجاجا على السياسات النيوليبرالية لهذه الأنظمة وشبكات الامتياز التي نشأت في ظلها، ولكن الإسلاميين في السلطة اتبعوا السياسات نفسها؛ بما أدى إلى عزلتهم الجماهيرية فسهل محاصرتهم والاحتجاج عليهم وضربهم في النهاية.

5. غلبة الاحتجاجي مقابل تقديم السياسات

هذه الخصيصة لا تخص الإسلاميين وحدهم، بل تمتد إلى قوى المعارضة العربية كافة في مرحلة ما قبل الربيع العربي، فقد حرمتهم الأنظمة من مجرد الخيال بأن يصلوا إلى مقاعد الحكم، وفاجأتهم الانتفاضات في 2011-2010، كما فاجأت الجميع. وفاقم الأمر عند الإسلاميين حرمانهم من تبوء أي مناصب ذات شأن في جهاز الدولة أو بقائهم في المنافي لفترات طويلة، لذا لم يدركوا معنى الدولة وكيفية عمل جهازها، ولا تعرفوا على المجتمع الذين غابوا عنه طويلا، وتصرفوا -في أحيان كثيرة- وهم في الحكم بمنطق الحزب المعارض أو وفق آليات المجتمع المدني.

الخلاصة: أنه لم تكن لدى الإسلاميين حين وصلوا إلى الحكم حلول لكيفية التعامل مع مشاكل دولهم المزمنة، وافتقروا إلى إستراتيجية اقتصادية اجتماعية متماسكة.

 

المصدر: الجزيرة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى