مقالات المنتدى

مؤتمر نيويورك: سابقة لم تحدث قط في التاريخ. أ عماد الدين عشماوي

مؤتمر نيويورك: سابقة لم تحدث قط في التاريخ

أ. عماد الدين عشماوي

انعقد في الفترة من 28 إلى 31 يوليو المنقضي مؤتمر نيويورك حول “التسوية السلمية وحل الدولتين” برعاية الأمم المتحدة والسعودية وفرنسا الدولتين المنظمتين للمؤتمر والرئيسان الشريكان للتحالف العالمي من أجل تطبيق حل الدولتين الذي أعلن في سبتمبر الماضي بهدف التخطيط والتنسيق والدعم والترويج لحل الدولتين باعتباره الحل الواقعي والعادل والمستدام الوحيد حسب كلمات الأمين العام للأمم المتحدة.

وفيما تمنى وزير الخارجية الفرنسي أن يكون المؤتمر: “نقطة تحول ومنعطفًا تحوليًا لتطبيق حل الدولتين. وأنه يجب أن نعمل على إيجاد السبل والوسائل للانتقال من نهاية الحرب في غزة إلى نهاية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”. في حين شددت دبلوماسية سعودية في نفس السياق إن الاجتماع يجب أن “يرسم مسارًا للعمل، لا للتفكير”. وأضافت أنه يجب أن “يرتكز على خطة سياسية موثوقة لا رجعة فيها، تعالج السبب الجذري للصراع، وتوفر مسارًا حقيقيًا للسلام والكرامة والأمن المتبادل”.

فماذا جاء في وثيقة المؤتمر التي نشرتها الصحف وملحقها الذي لم تنشره الصحف؟ وهل فعلا مقررات المؤتمر تمهد لدولة فلسطينية وسلام للقارة العربية أم لكارثة عربية فلسطينية وهيمنة عبرية أمريكية؟

ملخص ما جاء في الوثيقة وملاحقها

جاءت وثيقة المؤتمر في 42 بندا، تناولت اتفاق المجتمعين على اتخاذ اجراءات جماعية لإنهاء الحرب في غزة وتحقيق تسوية عادلة وسلمية ودائمة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس التنفيذ الفعال لحل الدولتين وبناء مستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين وجميع شعوب المنطقة. وعملت ملاحقها على تفصيل ما أجمل في البنود الـ42.

فقد دعم المؤتمر الترويج لحل الدولتين في إطار عملية محددة زمنيا وفقا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة ومراجع مؤتمر مدريد بما في ذلك مبدأ الأرض مقابل السلام، ومبادرة السلام العربية، وذلك لإنهاء الاحتلال وحل جميع العالقة وقضايا الوضع النهائي، وإنهاء جميع المطالبات، وتحقيق سلام عادل ودائم، وضمان الأمن للجميع، وتمكين الاندماج الإقليمي الكامل والاعتراف المتبادل في الشرق الأوسط مع الاحترام الكامل لسيادة جميع الدول.

كما دعا المؤتمر حركة حماس إنهاء حكمها في غزة وتسليم أسلحتها للسلطة الفلسطينية بدعم ومشاركة دولية. كما التزمت الدول الموقعة على البيان دعم التدابير والبرامج الرامية إلى مكافحة التطرف والتحريض ونزع الإنسانية والتطرف العنيف المؤدي إلى الإرهاب، والتمييز وخطاب الكراهية عبر جميع المنصات والجهات، وتعزيز ثقافة السلام في المدارس في إسرائيل وفلسطين، ودعم مشاركة المجتمع المدني والحوار ورحب المؤتمر بالجهود الجارية لتحديث المناهج الدراسية الفلسطينية ودعا إسرائيل إلى القيام بجهد مماثل وإلى إصدار التزام علني وواضح بحل الدولتين بما في ذلك دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة كما دعم إنشاء آلية رقابة دولية للتحقق من التزام الطرفين بهذه الأهداف.

ودعا المؤتمر لضمان التزام الأحزاب السياسية بمبادئ اللاعنف والاعتراف المتبادل وحل الدولتين وشدد على الالتزام بميثاق الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي كركيزة أساسية للسلام والأمن في المنطقة، وأكد المؤتمرون التزامهم بحماية السلام من أي أطراف معرقلة تسعى إلى تقويض تنفيذ حل الدولتين من خلال الاجراءات الأحادية غير القانونية والأعمال العنيفة وجدد معارضته القوية لجميع الاعمال غير القانونية التي تقوض، من الجانبين، قابلية تنفيذ حل الدولتين كما التزموا باعتماد تدابير مستهدفة وفقا للقانون الدولي ضد الجهات والأفراد الذين يعملون ضد مبدأ التسوية السلمية لمسألة فلسطين من خلال العنف أو أعمال الإرهاب وفي انتهاك للقانون الدولي.

كما اتفق المؤتمرون على اتخاذ خطوات ملموسة لتعزيز الاعتراف المتبادل والتعايش السلمي والتعاون بين جميع دول المنطقة وارتباط ذلك بالتنفيذ غير القابل للرجوع لحل الدولتين كما التزم المؤتمرون بتهيئة الأرضية لـ”يوم السلام” في المستقبل، استنادا إلى مبادرة السلام العربية والحزمة الأوروبية لدعم السلام وغيرها من المساهمات الدولية.

رفض أمريكي صهيوني

وعلى الرغم من رفض الجانب الصهيوني والأمريكي فكرة المؤتمر لأنه كما يرى الصهاينة والأمريكيون يعطي حماس مكافأة على حربها على الكيان ويعرقل مفاوضات وقف الحرب على غزة، كما أنه يهدد أمن الكيان، إلا أن التحالف الذي تقوده السعودية وفرنسا مصر على المضي قدما في الترويج للحل؟ فما هي الأسباب؟

هل يعطي المؤتمر أملا حقيقيا في دولة فلسطينية؟

كادت المملكة السعودية أن توقع اتفاق للتطبيع مع الكيان الصهيوني قبل السابع من أكتوبر 2023م متجاهلة القضية الفلسطينية تماما، لكن توقفت اجراءات التوقيع مؤقتا نتيجة للآثار التي أنتجها طوفان الأقصى. وعلى مدار عامين مضيا حاولت المملكة أن تدخل فلسطين من جديد في المعادلة التطبيعية بعد أن كانت قد استبعدتها حتى تستطيع تسويق عملية التطبيع. ومع وصول ترامب للحكم في أمريكا تجددت الظروف المهيئة لإعادة التوقيع، لذلك تقدمت في سبتمبر الماضي بالشراكة مع فرنسا لإعلان التحالف الدولي لحل الدولتين واستضافت أول اجتماعاته على أرضها وحشدت له كل الإمكانات حتى وصلنا لمؤتمر نيويورك الذي سبقه إعلان باريس لحل الدولتين في يونيو الماضي.

قدمت السعودية للمؤتمر، وذلك اعتمادا على إمكاناتها المادية التي تعتمد عليها الخطة المقترحة للوصول للدولة الفلسطينية بالإضافة إلى مركزها الديني المميز وما يعنيه ذلك من قيمة رمزية كبيرة لباقي العالم العربي والإسلامي، اقتراحا يشبه وعد بلفور الذي قدمه البريطانيون للصهاينة بمباركة فرنسا وأمريكا. فالبنود التي أعلنها المؤتمر وملاحقه تتحدث عن شروط تعجيزية لقبول الصهاينة والمجتمع الدولي بدولة فلسطينية، فهي: دولة منزوعة السلاح، غير معروفة الحدود، تعمل كمعبر للتجارة وعازل بين الكيان ودول الطوق، لا يمكن تغيير شروط وجودها وبقائها واستمرارها المبينة في وثيقة المؤتمر.

فالمؤتمر لم يعط أملا في دولة فلسطينية، وإنما أعطى أملا للكيان الصهيوني أن يكون عضوا أساسيا في القارة العربية، وجعله دولة حقيقية مطمئنة لأن جوارها صار منزوع السلاح مخدر العقيدة، ولأن رجالات الجهاد لن يكونوا قادرين على شن الحروب عليه إن تم إقرار الصيغة التي يقترحها المؤتمر.

ماذا لو أن صلاح الدين قد أبرم اتفاقا مثل هذا مع الصليبين؟ كيف سيكون حال الأمة اليوم؟ وهل كانت أرض العروبة ستكون مسلمة بأي شكل من الأشكال؟ لقد وقعت السعودية على وثيقة لم توقعها أنظمة من قبل في التاريخ ولا أظن أمة ستوقعها من بعد.

حقيقة المؤتمر من خلال قراراته وتوجهاته

عرفت البشرية على مدى عمرها الطويل على الأرض الكثير والكثير من الأفراد والنظم بل ربما الشعوب التي تتنازل طوعا عن سلاحها لهزيمة منكرة حلت بها. ووجدنا كثير من الأمثلة لقادة شعوب وجيوش سلموا سلاحهم للعدو بعد هزيمة في ميدان المعركة أو حتى دون الدخول في معارك من الأساس. ووجدنا قيادات تدفع الجزية وتعرض الخضوع وتطلب السلام من عدوها لقاء أن يكف عنها بأسه ويطعمها من فضله. وجدنا الكثير والكثير…

لكننا لم نجد حتى الآن أنظمة بعد أن تلقي سلاحها طالبة السلام والتطبيع مع عدوها الذي يزداد شراسة في التعامل مع قطاع كبير من أبنائها ويحتل أجزاء كبيرة وعزيزة ومقدسة من أرضها ويهدد عبر استراتيجيته وسياساته المعلنة والخفية أمنها القومي أن تعرض عليه طائعة مختارة أن تتنازل مع السلاح بعد التطبيع عن عقائدها وعن قيمها وعن ما يجعلها حية عزيزة بين الأمم.

هذا ما فوجئنا به يصدر عن المملكة السعودية بعد طول انتظار لتدخل عربي يوقف الحرب على غزة ويعيد بوصلة العلاقات مع العدو إلى وجهتها الصحيحة. فبعد تحضيرات لمؤتمر حل الدولتين وجدنا أن وثيقة المؤتمر وملاحقه تدعو صراحة لشيء غريب لم تعهده الإنسانية من قبل وهو تجريم جهاد العدو من الأفراد أو الجماعات أو الأنظمة العربية، بل تجرم مجرد كراهية هذا العدو والاعلان عن ذلك بأي صورة في وسائل الإعلام أو وسائط التواصل أو من خلال مناهج التعليم ومعاهد الدراسة وبل وتطلب بتضمين ذلك في اتفاقات تصدق عليها الهيئات الدولية وتضمنها مؤسسات جمعية الأمم ويحصنها القانون الدولي.

فالمشروع في حقيقته مشروع وأد لفلسطين للأبد ووأد الجهاد ضد العدو الصهيوني وما يمت له بصلة للأبد؛ بل يتضمن في داخله وأد أي مشروع للتغيير الحقيقي في القارة العربية يمكنه أن يمس أركان ونظم الحكم القائمة على التسلط والاستبداد والتبعية فيها ومقاومتها.

فالسعودية ومعها الدول العربية والإسلامية التي وقعت على هذه الوثيقة تعيد ما فعلته بريطانيا منذ ما يزيد عن القرن. فكما ضمنت بريطانيا وعد بلفور في صك الانتداب الذي أقرته عصبة الأمم لتكون له حجته القانونية الدولية النافذة على العرب ساعتها، ثم اختراعها قرار التقسيم وتضمينه كذلك في ميثاق عصبة ثم الأمم المتحدة ليصدر به قرار التقسيم الذي بناء عليه أعلنت دولة الكيان واعترف بها أعضاء الجمعية الأممية ليتم تحصينها مجددا وجعلها حقيقة واقعة لا تغيرها إلا حقائق القوة التي لم تكن في مكنة العرب والمسلمين ساعتها ومازالت غائبة عنهم بل تخلوا عنها نهائيا بالمبادرة السعودية الحالية. فالسعودية العربية هي التي تتقدم باقتراح ضمان أمن دولة الكيان وإفراغ فلسطين من جوهرها: الأرض والمقدسات والمعتقد والسلاح، وتدعو لتضمين هذا الاتفاق في المواثيق الدولية.

لكن إن كان لبريطانيا مصلحة دينية ودنيوية في ذلك جعلتها تمنح وعدها للصهاينة بأرض فلسطين تجاوبا مع مشاعر قادتها الدينية ومصالحها الاستعمارية في قارتنا العربية، فما هي مصالح السعودية في وعدها الجديد للصهاينة الذين يتمنعون ظاهريا عن قبوله؟

ما العمل؟

عندما تكون الأمة في طور انتقال ونقطة تحول مصيرية وفي نهاية نفق مظلم في نهايته مستقبل ملتبس مفتوح على كل الاحتمالات السلبية والإيجابية، يكون من الحتمي على كل فرد أو جماعة منظمة نذرت نفسها للنهوض بالأمة من رقدتها وركودها أن يبحثوا بعمق وصدق وتجرد وعلمية صارمة وإخلاص ليس فيه شك عن واجبات الوقت ومتطلبات الحفاظ على الأمة.

فاليوم تواجه الأمة أشد مما واجهته مع هجوم الصليبيين والتتار والمغول ومع الهجمة الغربية التي أسقطت الخلافة العثمانية منذ قرن مضى وزرعت الكيان الصهيوني خنجرا مسموما في قلب الأمة.

فهجمة اليوم أشد وأنكى من كل الهجمات السابقة، ليس فقط لكم الأعداء المتجمع علينا من الخارج، ولا لفارق القوى الرهيب بيننا وبينهم المائل لصالحهم، ولا لعوامل ضعف الأمة الكثيرة التي تزيد من موقفنا ضعفا، ولكن لأنه لأول مرة في تاريخ الأمة يجتمع كل هذا الكم من الأنظمة العربية والإسلامية التي تجترأ على دينها وقوميتها ومصالحها ولتقدم للعدو خارطة طريق لتسليم أرضها ومقدساتها وعقيدتها لإنهاء صراعها مع عدوها في غياب أي ردة فعل قوية من أبناء الأمة.

وليس ذلك وحسب بل والانخراط مع العدو في حلف واحد وشراكة لا افتراق بعدها في تداخل مصالح ينتج عهدا جديدا ينسيها هويتها وأصالتها وعداوتها له، وليس ذلك وحسب بل وتجريم أي كلمة أو فعل يدعو لعكس ذلك، ليس فقط بالقوة الجبرية للحكومات ولا بالقوانين الظالمة التي تسنها، وإنما من خلال وثيقة دولية تعلو فوق قوانين الأمة الدينية والدنيوية تجمع عليها أمم الدنيا تقدمها هذه الأنظمة وتوقع عليها وتلتزم بها أمام العالمين كما جاء في مقررات وملاحق مؤتمر نيويورك للبحث في تشجيع حل الدولتين وإنهاء المسألة الفلسطينية.

وسواء نجحت الجهود المتواصلة لتنفيذ حل الدولتين أو لم تنجح ستظل الأفكار والتصورات والخطط والمؤسسات التي تعمل على هذه الخطة خطرا محدقا بالأمة يقتنص منها كل فترة وينتقص منها كل مرحلة جزءا من أبنائها يضمه للترويج لها رغبا أو رهبا أو اعتقادا وتصديقا وفي ذلك ما فيه من الخطر العظيم.

فالاعتراف العربي والإسلامي بهذه البنود كمقررات رئيسية ومتبناة منهم بشكل نهائي للحل وبما تحويه من بنود غاية في الخطورة على وجودنا وأمنا القومي وعلى عقيدتنا ومستقبلنا كعرب مسلمين صارت مسلمات لا يسهل التراجع عنها بل سيتم التمسك بها من قبل المجتمع الدولي لأنها صدرت بمبادرة عربية ومباركة إسلامية وأعلنت من على منصة المجتمع الدولي المعترف بها من جميع الأمم.

عندما تصل الأمة إلى هذا الحال ويتجرأ علينا العدو كما نرى ونسمع وتجتمع أمم العالمين بقيادة أهم دولة مسلمة المملكة السعودية وأكثر الدول عداوة للدين عموما والإسلام خصوصا فرنسا، فإن من الواجب اللازم على كل شخص أو تنظيم يحمل هم الأمة أن يكرس جهوده لمواجهة ذلك باعتباره واجب الوقت الرئيس وصرف الجهود وتجنيد الموارد وإعداد الرواد والنقباء والرجال الذين صدقوا في كافة المجالات للتحذير مما يراد بالأمة والاجتماع على خطة تتوزع محاور تنفيذها على كل متخصص في هذه الأمة حتى لا نصبح ونجد أنفسنا قد خرجنا من ديننا.

وفي المقالات القادمة نتناول بالتفصيل بعض جوانب المتعلقة بنزع سلاح حماس وآثارها على الأمة وخطة التعايش السلمي المطلوب تنفيذها وكيفية مواجهتها.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى