كتاباتكتابات مختارة

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (2-4)

لماذا هذا الهجوم المتزايد على صحيح الإمام البخاري؟ (2-4)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

إن هذا الاضطراب والتخبّط لدى هؤلاء يكشف أيضاً عن جهل عريض في أصول هذه العلوم ومبادئها الأولية، ولذلك لا ترى هذا الطعن إلا منهم ومن أمثالهم، ممن لا علم لهم بالسنّة وعلومها.

إن علماء السنّة قد أصّلوا أصولاً وقعّدوا قواعد في النقد الشامل والدقيق، بما لا مثيل له في أية أمة من الأمم، ويكفي هنا التذكير بعلم «الجرح والتعديل» الذي ضبط معايير التوثيق والتضعيف، وبحث في كل الرواة بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم ومستوياتهم، دون أن يستثني منهم أحداً مهما كان، ثم لم يكتفوا بذلك بل راحوا ينقدون النصّ نفسه بمسالك علمية دقيقة، منها البحث في مراتب الدلالة، والبحث في قواعد التعارض والترجيح، والبحث في مشكل الحديث، وغير ذلك.

ولتقريب الصورة لغير المختصين، أذكر أن شيخنا المحقق صبحي السامرائي -رحمه الله- قد اقترح عليّ وعلى صديقي د. عمر عبدالعزيز أن نعمل على تحقيق وتخريج رسالة من رسائل ابن أبي الدنيا -رحمه الله- وكان ذلك سنة 1984، وكانت الرسالة بعنوان «حسن الظنّ بالله» وهي رسالة صغيرة، لكننا تعلمنا منها الكثير، والأهم أننا تعلمنا الأدب مع هؤلاء العلماء، حيث لمسنا بأيدينا الجهد الاستثنائي الذي لا يمكن أن يقدّره مقدّر أو يتخيله متخيّل، وعلى سبيل المثال، لو افترضنا أن معدّل السند في كل حديث خمسة رواة، وأن مجموع الأحاديث فيها 100 حديث فقط، فهذا يعني أن الرسالة هذه ستضم 500 راوٍ، وبحذف المكرر تكون مهمتنا الأولى البحث في 300 راوٍ، وتمييز كل واحد منهم، والتأكّد أن هذا الاسم هو المقصود، وذلك بمعرفة ولادته ونشأته ورحلاته ووفاته وشيوخه وتلامذته… إلخ، لأنك قد تجد مائة راوٍ يشتركون في اسم واحد، ثم ندقق فيما قاله العلماء عنهم واحداً واحداً… إلخ، لقد كانت تجربة شاقة جداً مع ما فيها من متعة وأنس، وهنا كنت أتساءل: أي جهد بذله أولئك الأعلام حينما نقلوا لنا كل هذه الثروة بمئات المجلدات وبأعلى درجات الدقة والعناية، ثم حينما يتفق كل هؤلاء على أن صحيح البخاري هو أصحّ كتب السنّة على الإطلاق، فماذا يعني هذا؟ من هنا ندرك لماذا لا يأتي الطعن إلا من خارج هذه الدائرة، ممّن لا معرفة له لا بنقد السند ولا بنقد المتن.

إن البخاري ليس هو من قال: إن كتابي هذا هو أصح الكتب في هذا العلم، وإنما هذه هي شهادة أهل الاختصاص على مرّ القرون، دون أن يملك البخاري أية سلطة للتأثير على هذه الشهادة، كما أن هذه الشهادة ليست غريبة في أي مجال علمي، فبكل تأكيد هناك مصادر معتمدة في علم الطب بناء على شهادة الأطباء، وهنالك مصادر معتمدة في الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء، فهل يجوز أن نشكّك في كل ذلك، بحجة أن هؤلاء الأطباء أو غيرهم من كل الاختصاصات غير معصومين وغير مقدّسين؟

إننا حقيقة أمام أزمة لا تمسّ البخاري ولا كتب السنّة فقط، وإنما تضرب القواعد العلمية لكل علم من علوم الأرض، بحيث يختلط العلم بالجهل، والأسس المنهجية بالنزعات العبثية والفوضوية.

(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى