كتاباتكتابات مختارة

كلمات في وداع شيخ قراء برقة

بقلم الشيخ ونيس المبروك

لم أجد أرق وأصدق من هذا التأبين في حق فقيد ليبيا ورجل القرآن، وشيخ قراء برقة؛ الشيخ معتوق العماري رحمه الله، خطه يراع شيخنا الحبيب فضيلة الدكتور ناصر فرج العرفي، نسأل الله أن يتغمد فقيدنا برحمته، ويرفع مقامه في عليين

يقول الشيخ ناصر حفظه الله: ورحل أبي بعد أبي، وداعا شيخنا معتوق:

بعد وفاة أبي وأمي لم أشعر بحزن ووحشة مثل ما شعرت بها عندما أبلغني المبروك قمرة العرفي بنبإ وفاة شيخي ومعلمي المربي معتوق العماري،

نعم لهجت وكررت إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكني لم أتمالك نفسي أصبحت كطفل فقد أمه وأباه في غربة ولم يجد حوله من يواسيه،

لقد اجتمعت علي الكربة والغربة حيث لم أجد من يواسيني ممن يعرف قدر من فقدنا، ولاحول ولا قوة إلا بالله، حسبنا الله ونعم الوكيل،

تناولت الهاتف لأسمع صوت أي إنسان يواسيني من بنغازي فاتصلت بإسماعيل المشيطي الذي بادر على الفور وجاءني ونقلني إلى مكان العزاء في العمامرة.

وفي الطريق تداعت علي الذكريات وعادت بي إلى الثمانينات والتسعينات تلك الفترة التي عشت فيها طالبا في كنف شيخي معتوق رحمه الله،

وقد قرأت القرآن الكريم على كثيرين قبله، ولكني لم أعرف إتقان الحفظ والتثبيت وطريقته،ودقة علم رسم القرآن الكريم وضبطه إلا على يديه وفي رحابه،

ومن أعظم الصفات التي تميز الشيخ معتوق تفرغه التام للعطاء حيث نبدأ يومنا معه من بعد الفجر في فترة الصيف نصلي مع شيخنا العلامة علي بوزغيبة في مسجدهم

ثم ننطلق لجامع بوغولة رغم كل الظروف الأمنية الصعبة في تلك الفترة وأنا الآن أتعجب كيف كنت أقطع المسافة من شارع عشرين إلى البركة في ذلك الفجر!

وكنا نجده أمامنا وعندما يكثر الطلاب في الحلقة وهو يملي يقف وربما تحزم وصار يمشي وسط تلك الحلقة يعطي كل واحد ثمنه يملي عن ظهر قلب بكل اقتدار،

وربما أملى الكلمات الصعبة بالحرف، كقوله (يسألونك عن الأهله يا خرخوطة*** أليف ولام أليف وتا مربوطة ) فيبتهج الطلاب بكلمة خرخوطة ويتحدد نشاطهم،

لقد كان في تلك الحلقة كالفارس في الميدان وأي فارس، يستمر في حلقة الإملاء حتى الظهر وأنت تسمع صوته الجهوري ودويه بالآيات،

وللعلم في بداية تلك الفترة لم يكن ضبط الداني مصحفا مطبوعا فكان الشيخ بعد ذلك يحتفظ بنسخة وحيدة يخرجها عندما يعجز الجميع وكان يسمي المصحف بالشيخ البكوش تندرا،

فقد كان الشيخ يتمتع بحفظ متين للقرآن وكأنه عندما يملي يراه بين عينيه وفي قوة حفظه مواقف يطول سردها في هذه العجالة،وكان من أبرز المحفظين في جيله في فن التنزيلات وقد كان منجما تغرف منه الخالص الثمين…

سبحان الله الشيخ معتوق يلخص شخصيته أنه رجل على الفطرة لايمل أبدا من تلاوة القرآن الكريم أبدا إلى آخر لحظة في حياته يتلذذ بتلاوة القرءان فعندما تكون بجواره إما أن يتابعك أو أن تتابعه،

وكان له حلقة خاصة بعد العصر يوم الجمعة يتحلق حوله المتقنون للحفظ والبقية يستمعون يسمي الأثمان اختبارا بالدور فإذا جاء الدور عليه سمينا ه أصعب الأثمان فيقرؤه بكل ثبات بعد ابتسامة ما أمتعها وما أزكاها،..

لقد كان منبعا للتواضع والتواصل فقد كنت أقرأ عنده إلى العصر وبعد المغرب أقرأ وأتواصل مع مشايخ غيره كالعلامة بوزغيبة والشيخ عبد العزيز البرغثي فلم يكن يتضايق كعادة الشيوخ بل كان يسأل عنهم ويبعث معي استفتاءات للشيخ بوزغيبة،رحمهم الله جميعا

ومن تواضعه صلته للطلاب إذا مرضوا ويسافر معهم ويمازحهم ويحضر أفراحهم ويحب إنشادهم ويتأثر ويبكي عند مدح رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، وكان الشيخ من المواظبين على قراءة المولد الشريف قبل أن يكثر اللغط حوله،

وكان الشيخ محبا للبادية التي عاش فيها وبقي على صلة بصداقاته معهم على الدوام بعد استقراره في بنغازي وكان حريصا على تعليمهم القرءان الكريم.

والشيخ قدوة طيبة في العمل والكسب فقد عمل أول حياته في الزراعة والتجارة بجوار تدريسه للقرءان، وقلما ينجو صاحب القرءان إذا ذاق طعم المال وجرى في يده ولكن الشيخ عندما وجد الكفاية وكبر أبناؤه تفرغ تفرغا تاما لحبه الأعظم الذي بدأ فيه منذ كان الناس في النجوع،

وكان رحمه الله يتمتع بحضور البديهة؛ فقد سأله شخص فقال له أنت دائما تقول سيدنا محمد ما دليلك أنه سيدنا فتفرس في وجهه ثم تلا قوله تعالى (سيدا وحصورا) فخنس الرجل وخرج،

ومن طرائفه ذات المغزى العظيم أنه كان يخطب الجمعة من ورقة وكان يسرد الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(لو عثرت بغلة في العراق لسئل عنها عمر لم لم تمهد لها الطريق يا عمر)

ثم سقطت منه الورقة فنظر في المصلين وقال لهم يا ليتنا بهايم في زمن عمر أقم الصلاة، فانفجر الناس بين باك وضاحك،

ومن مناقبه أن أبناءه كانوا يحفظون معنا وختموا القرءان كاملا لكننا لم نكن نشعر أنه يفرق بيننا فبعد أن ختمت عليه القرءان اختارني مساعدا معه وهذه رحلة أخرى عن موهبته الفطرية في التربية التي ظهرت في أسرته وفي طلابه ولله الحمد

لقد كان الشيخ معتوق بحرا والبحر لا يسكب في كأس رحمه الله رحمة واسعة وتقبله بقبول حسن ومتعه بالحسنى وزيادة.

(المصدر: جريدة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى